العالم ليس هو ما نراه، إنه أوسع وأرحب مما نتخيل، كل ما نحتاجه هو الخروج من الحجرات التى نعيش فيها سواء بإرادتنا الحرة أو مجبرين عليها.

فيلم “حجرة 2015” من إخراج الآيرلندى “لينى أبراهامسون”، والذى قدم من قبل فيلم “فرانك 2014” ولفت الأنظار إليه لغرابة فكرته التى تدور حول عازف موسيقى، يخفى طول الوقت وجهه بقناع خشبى، وقد استطاع “أبراهامسون” فى “حجرة” أن يدخل الى أعماق النفس البشرية، والتى تبدو أنها تحمل العديد من التناقضات ولن نتمكن من فهمها أبدا.

وتبدو براعته فى أن نصف الفيلم الأول تم تصويره فى حجرة صغيرة لا تزيد مساحتها عن تسعة أمتار، لكنه استطاع رغم ضيق مساحة المكان أن يتحكم فى حركة الممثلين، ويهرب من رتابة عدم تغيير مكان التصوير، وبمساعدة السيناريو الذى اعتمد على التشويق وتسريب المعلومات من وقت لآخر، وحركة الكاميرا الرشيقة، تمكن من عدم شعور المتفرج بالملل.

سيناريو فيلم “حجرة” الذى كتبته “ايما دونوجو” عن رواية لها، استطاع أن يخدع المتفرج مرتين، الأولى عندما ظن فى أول ربع ساعة من الفيلم أنه يدور حول قرار أم وابنها الانعزال عن العالم، والعيش فى حجرة صغيرة بالكاد تسعهما، وما رسخ هذا الشعور هو استمتاعهما بالحياة معا وممارسة الرياضة واللعب وصنع كيكة عيد الميلاد، دون إشارة إلى وجود مشكلة ما، وكأنهما يمارسان حياتهما الطبيعية، وهو ما سيجعل المشاهد يطرح تساؤلات حول أسباب هذا الاختيار وتبعاته، ليفاجأ وبالتدريج أنهما مخطوفان، من قبل شخص غامض يدعى “نيك الكبير”.

المرة الثانية، عندما توقع المتفرج مشاهدة قاعات المحاكم بعد نجاح الشرطة فى العثور على مكان الأم بعد هروب الابن، وسماع مرافعات المحامين القانونية، انتهاء بصدور الحكم، وهو ما لم تفعله كاتبة السيناريو، مفضلة تتبع حياة الأم وابنها وكيفية مواجهتهما للعالم الكبير، متجاهلة تماما إلقاء الضوء على حياة المختطف أو مبرراته، مكتفية بظهوره فى ثلاثة مشاهد، وكأنه غير موجود فى الحياة.

“برى لارسون” والتى قامت بدور الفتاة المختطفة “جوى”، استطاعت اقتناص أوسكار أفضل ممثلة رئيسية فى 2016، عن دورها فى الفيلم، حيث أدت دورا نفسيا صعبا، يحتاج إلى مجهود فى فهمه والتعامل معه بالطريقة المثلى. “جوى” فتاة تمارس رياضة العدو، يبدو العالم أمامها محملا بالأمانى والسعادة، تجد نفسها فجأة داخل حجرة صغيرة يغلق بابها عن طريق رقم سرى، معزولة تماما عن كل شئ، ظلت لأكثر من خمس سنوات محبوسة فى تلك الحجرة، أنجبت خلالها ابنها “جاك” والذى قام بدوره الطفل الكندى “يعقوب تريمبلاى”، تمتلك روحا قوية جعلتها لا تستسلم لليأس، وخلقت من تلك المساحة الصغيرة عالما يمتلئ بالحكايات والمرح، نسجت عالما افتراضيا مكون منها ومن ابنها فقط، وكل شئ آخر هو “غير حقيقى”، مجرد عالم “كارتونى” يتم مشاهدته عبر شاشة التليفزيون، ليس له وجود مادى، فلا توجد أشجار أو نباتات أو كلاب أو بحار، العالم هو هذه الحجرة والسماء التى تبدو من نافذة فى سقفها، وما عدا ذلك مجرد وهم، خلقت “جوى” أسطورتها الخاصة بخلق العالم، مجرد أسطورة صغيرة تستطيع تقديم إجابات مقنعة على أسئلة ابنها “جاك” التى تزداد تعقيدا كلما كبر فى السن، حتى وإن كانت هذه الأسطورة لفترة مؤقتة.

تمكنت “برى لارسون”، وببراعة، من أن تؤدى الشخصية بكل تعقيداتها النفسية، معبرة عن إحباطات “جوى” من العالم الذى تركها فى يد خاطف غريب الأطوار، دون القيام بمحاولة إنقاذها، فالعالم مشارك فى مأساتها بأخلاقياته وتعاليمه التربوية التى أوقعتها فى يد شخص مريض، لقد نشأت على أن تساعد المحتاج وتقدم يد العون حينما يطلب منها ذلك، وهو ما فعلته بالضبط عندما ادعى خاطفها أن كلبه ضائع طالبا منها المساعدة، لتقع فى خدعته التى رمتها بعيدة عن حياتها لمدة خمس سنوات، بينما واصلت زميلاتها طريقهن، حيث أكملن تعليمهن وأحببن وتزوجن، كما أن عائلتها انهارت، ولم يستطع والدها النظر إلى ابنها، ربما لإحساسه بالعجز عن إنقاذها، أو لأنه ابن “اغتصاب”، كل ذلك ادى إلى انهيارها ودخولها مستشفى نفسى، لآتها لم تكون مخلوقا “بلاستيكيا” يسهل تشكيله والتحكم فيه وتحمل الصدمات، أما ابنها “جاك” ولأنه -كما قال الطبيب- ما زال فى طور “البلاستيك”، فاستطاع تحمل الصدمات والتأقلم مع العالم بسهولة.

شخصية “جوى” تنقسم إلى جزأين، جزء “جوى” المخطوفة والأخرى المحررة، وقد استطاعت “لارسون” التعبير عن الشخصيتين بجدارة، حيث بدت بوجه شاحب مريض فى الحجرة، وهى تحمل روحا منهارة، تنتابها من وقت لآخر تقلبات مزاجية، تحاول التماسك فى انتظار “أمل” ربما يأتى وربما لا يجئ للأبد، أما “جوى” المحررة فقد بدت مصدومة من تغير العالم وتوقف حياتها، متوترة وعصبية، ومدمنة على العقاقير للهروب من معضلة العالم الجديد، تائهة عن معرفة الطريق الصحيح لبدء الحياة مرة ثانية.

الطفل “يعقوب تريمبلاى”، كان دوره هو الأهم فى الفيلم، وربما ساعدته تجاربه التمثيلية السابقة على أداء الدور بشكل بارع وعدم الخوف أو مهابة الكاميرا، وحسنا فعلت كاتبة السيناريو عندما اختارت أن يتم حكى الفيلم من وجهة نظر “جاك”، فهو برؤيته الطفولية التى ربما تبدو فى بعض الأحيان ساذجة، خصوصا فى تعريفه للعالم، الذى كان فى حجرته محدودا، مجرد كرسى ومرحاض وبانيو وحائط، حريصا على أن يبدأ يومه بإلقاء تحية الصباح عليه، أما العالم الحقيقى، الأوسع، عالم خارج الحجرة، فهو غير محدود، حيث “يوجد أناس كثيرون بوجوه مختلفة، يتحدثون فى وقت واحد”، الحياة من وجهة نظره عبارة عن “عالم كبير من التليفزيون، كل شي يحدث فى نفس اللحظة، ولا يعرف إلى أين ينظر وإلى من يتجه ببصره”.

العالم الحقيقى بدا مربكا وغير مفهوم للوهلة الأولى، لكن “جاك” الشجاع استطاع التعامل معه بسرعة والتأقلم عليه، بل وإنقاذ والدته وإعادتها لحالة التوازن النفسى مرة أخرى، عن طريق منحها أسطورته الخاصة، التى ظل محافظا عليها مانعا أى شحص من الإقتراب منها، وهى شعره الطويل الذى يشبه شعر الفتيات، وتتجلى فيه مصدر قوته، حيث يتخلى راضيا عنه ويرسله إلى أمه ليمنحها القوة والقدرة على تجاوز محنتها.

“جاك” لم يكن يدرى أن خارج الحجرة يوجد شئ اسمه “العالم”، لذا واجه تلك المعرفة بالإنكار، متهما والدته بالكذب، هدم الأسطورة ليس شيئا سهلا، سيقابل دوما بالرفض، ولكن الشك هو أول خطوة تقود إلى طريق اليقين، “ثورة” تحطيم فكرة “الحجرة” الواقعية أو الموجودة بداخلنا، ستقودنا حتما إلى عالم أوسع، وهو ما أدركه “جاك” فى النهاية، عندما زار الحجرة لإلقاء نظرة وداع على هذا العالم الذى كان يعيش فيه، وتساءل مندهشا “هل تقلصت؟”، كانت ضيقة جدا بالكاد تسع خطواته القصيرة، “عالمه” أصبح ضئيلا ولم يكن بالاتساع الذى كان يعتقده فى السابق، لذا سيبدو كل جزء من حياتنا عبارة عن “حجرة” إما أن نتركها إلى “حجرة” أوسع أو نعيش فيها للأبد.

حكومي

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.