حوار مع التشكيلي عبد الرحمن مهنا

«الإبداع الحقيقي هو أن تعطي ما يجول بخاطرك، والحالة الإبداعية هي موقف تجاه الأشياء»
مارس الفنان عبد الرحمن مهنا التصوير الضوئي وفن الغرافيك ليستقر في الفن التشكيلي كمساحة تعبر ألوانها عن هواجسه ورؤيته للواقع ويحرز من خلالها جوائز توجت مسيرته الإبداعية التي تمتد إلى أربعين سنة من العمل والجهد.
الفنان التشكيلي عبد الرحمن مهنا فنان تتفاعل في تجربته عناصر العمارة والوجوه التي يسود الحزن معظم معالمها وتتبلور من خلالها تجربة تعددت أساليب استخدامها لتقنيات الفن ومدارسه في طريق البحث عن معالجات وانتقالات جديدة في التشكيل.
وعن هذه التجربة كان الحديث التالي:
ما وراء الإبداع
– لقد فزت عام 1967 بالجائزة الأولى على مستوى سورية في معرض لمراكز الفنون التشكيلية وكنت على أبواب الشباب، لنذهب إلى ما قبل هذه المرحلة، ماذا عن الطفولة وبدايات تكون الحالة الإبداعية؟
أذكر أني منذ الطفولة كنت أتمتع بحساسية خاصة تجاه كل ما يحيط بي، لم أكن أتحمل الغبن أو القمع، خاصة وأنني ولدت وعشت الطفولة في بيئة شعبية فيها الكثير من الخرافات والأساطير والعادات الاجتماعية المسيطرة على الأذهان والعقول، فكان الرسم ردة فعل على فشلي في إثبات ذاتي أمام الواقع، لجأت للرسم لأثبت وجودي وأفرغ أفكاري في وجه بيئة تفرض مناخاتها على الأطفال وربما تظلمهم، عبرت بداية عن إحباطي الذي عانيت منه منذ الطفولة حتى في المدرسة. أثبت الرسم شخصيتي فكنت فنان الصف وبعدها كبر الحلم ورسمت لوحات «الفانوس» و «الجرات المكسرة» و«لوحة الأمومة» وعن هذه الأعمال نلت أول جوائزي.
– العناصر المعمارية والإنسانية حاضرة بوضوح في أعمالك لكنها مختلفة عما نراه في الواقع، كيف تبلور هذه الحالة البصرية لتنقلها إلى اللوحة؟
أياً كان مجال الإبداع الذي يمارسه الفنان لا بد له من مشاهدات واقعية ومن مخزون فكري ومعرفي ومعاناة تجاه هذا المخزون، أي يجب أن يكون لديه تجارب يعتمد عليها لطرح مكنونات أفكاره ورؤاه، فالإبداع الحقيقي هو أن تعطي ما يجول بخاطرك ودواخلك لا أن تنقل الواقع كما هو، تقديم الواقع لا يعطي شيئاً جديداً، لكن أن نبدعه بما تراه أرواحنا أعتقد أن هذا هو الفن، فالواقع يقدم مطبوعاً بذاتية الفنان وأحاسيسه ودوافعه الإبداعية.
– في نفس السياق، إلى أي مدى تترك للتجريب حريته في اكتشاف اللغة التشكيلية التي تصوغ العمل الفني بها؟
أنا لا أتبع التجريب بشكل مقصود، أي لا أفتعل حالات التجريب والبحث عن مفردات تشكيلية معينة فهذا ليس اختصاصي، فالفنان يرسم بشكل فطري بما يتناسب مع ذاتيته والواقع المخزون لديه، أما كيف يخرج العمل الفني فهذا يتبع لظروف الفنان وحالته حتى المادية منها، على سبيل المثال إن توفر ألوان معينة لدى الفنان أحياناً يحكم على كيفية خروج العمل الفني، والفنان حسب اعتقادي يجب أن يرسم بما يتناسب مع رؤيته وموقفه المعاش، وأؤكد أن موقفي كفنان من كل ما يحيط حولي ليس حيادياً، إنما هو موقف متعاطف مع أشياء على حساب أشياء أخرى، فالفنان لا يجب أن يكون حيادياً، فهو ليس قاضياً أو طبيباً أو باحثاً ولا يجب عليه أن يكون حيادياً.
– هل ترى نفسك محكوماً بالمدارس الفنية الأكاديمية، أم أنك تطلق ألوانك لتشكل ذاتها بحرية في اللوحة؟
من الناحية الإبداعية أرى عكس ذلك، فالفنان أو الموهوب القادر على رؤية العالم بحسه الداخلي ليس بحاجة لأن يتعلم كيف يرسم الأشياء فذاته هي من يرسم الأشياء، أنا ضد التقيد بتسجيل الواقع فالقيود تحد من انسجامي وحريتي في التعامل مع العناصر المحيطة بي، وبعد تجربة عمرها أربعون عاماً اكتشفت أن ما يعلم في المراكز والكليات يحول الطلاب إلى رسامين لكن لا يحولهم إلى فنانين حقيقيين، وذلك من خلال التشديد على نقل الواقع.
– يستعين بعض الفنانين بالأسطورة أو التراث وآخرون بالطبيعة، أين تبحث لإيجاد الفكرة أو الومض الذي يحفز الإبداع الفني لديك؟
أتقصد وضع بعض مفردات التراث ممزوجة بما هو حاضر، لست ضد التأثر بالتراث، لكن هذا لا يعني نقل مفردات الأسلاف، أما عن الحالة الإبداعية فلا يعرف الفنان متى يأتيه شيطان الفن أو الإبداع، فالحالة الإبداعية حالة معقدة تحكمها جملة عوامل محيطة، والحالة الإبداعية هي الموقف تجاه الأشياء وأحياناً تكون منفذاً ومخرجاً من القيود ووسيلة للتعبير عن الرأي بشكل مختلف، فالفن مخرج لما نعاني من قيود.
– تكلمت عن القمع الاجتماعي واعتبرت الفن مخرجاً، فهل الفن ردة فعل طبيعية إزاء أي حالة قمع يتعرض لها الإنسان أو الفنان؟
الإبداع هو تعبير عن طموح في الحرية أو انفلات من قيود معينة، أحياناً يبني الفن عالماً جديداً نحلم به ولا نصنعه على أرض الواقع.
وسائل التعبير الخاصة
– المكان بالذات(دمشق وحلب) وأحياؤهما القديمة، كلها عناصر تشكل عماد معظم لوحاتك، ما هي العلاقة التي تربطك بهذه الأماكن كإنسان وفنان في نفس الوقت؟
لو انطلقنا من مقولة أن الإنسان ابن بيئته لا نكون قد خرجنا عن سياق موضوعنا، فالإنسان يجب أن يتآلف مع أماكنه، وبالنسبة للفنان فإن التآلف يكمن في أن يعكس القيم الجمالية والفكرية التي تحيط به وبعالمه.
– هل الموضوع هو الذي يفرض اختيار اللون وتقنياته أم أن الفنان ومساحة إبداعه هي التي تختار ألوانها وأسلوبها؟
أحياناً أستخدم الأسود والأبيض وهما لونان وليسا فقط أسود وأبيض، فالحالة النفسية أو الجمالية تدفع إلى اللجوء للون معين يفرض وجوده على الفنان، المهم هو الحالة التعبيرية الصادقة التي تجسد ما نشعر به، المادة ليست أساساً إنما الحالة الإبداعية الصادقة.
– في تصريح صحفي لك قلت أنك كنت تطمح لأن تكون كاتباً أو شاعراً لكن الألوان خطفتك، كيف ترى هذه العلاقة بين الحقول الإبداعية المتنوعة؟
أعتقد أن التقسيم الحقيقي للثقافة هو بصرية و سمعية وفكرية، ويجب أن تتظافر هذه العناوين لتحقيق حالة التكامل الفكري والإنساني لحالة وجود الإنسان، ونقص أحد هذه العوامل يعني نقصاً في تجربة الإنسان، والفنان عليه أن يتابع المسرح ويتابع الموسيقى ويقرأ الشعر، فابتعاد الفنان عن حقول الثقافة يعني نقصاً في تجربته، وهنا أدعو لتآلف حقول الثقافة في فكر المبدع.
– عام 1982 أقمت معرضاً فنياً للأطفال، ما هي العلاقة التي تربطك بالطفولة؟ وهل تعول على توعية ثقافة الطفل الفنية وتحفيزها؟
استرجاعي لطفولتي أشعرني بمدى أهمية ارتباط الطفل بهواية ما كالموسيقى أو القراءة، وأعتقد أن الرسم هو الأسلوب الذي ينمي ويؤكد ذاكرة الطفل وينمي شخصيته وقدراته الذهنية، وهذا يساعده في مراحل التعليم على بناء شخصيته ومدركاته الذهنية وتثبت تفوقه الدراسي، وهذا ظهر جلياً أمامي عندما كنت مدرساً لمادة الرسم، فبعض الطلاب تفوق في الدراسة بعدما أكد وجوده في الرسم، وهذا جعلهم يستقطبون المحيط من حولهم.
– «الإنسان العربي ومعركة المصير»، «قضايا معاصرة»، «رؤية ذاتية في الزمن المعاصر»، عناوين لمجموعة من معارضك، ما هي مسؤولية المبدع أو الفنان تجاه مجتمعه، وهل المطلوب منه أن ينخرط بها دائماً، أم أنه قادر على الوقوف جانباً لأن لديه ما يشغله؟
بالنسبة لي لم يكن العمل الوطني أو الاجتماعي عملاً تنظيرياً إنما هو ردة فعل فنية صادقة تجاه الأحداث، ولم أنطلق من مفهوم سياسي أو انتماء أيديولوجي معين إنما اندفعت من انحيازي للفن كوسيلة تعبير.
الوجه الآخر للفنان
– في بادرة منك قمت بتقديم لوحات من مجموعتك الخاصة هدية لفنانين ومبدعين، هل أصبح مبدعونا يحتفون ببعضهم لأنه لا يوجد مؤسسات رسمية تحتفي بهم؟
المؤسسات لديها محسوبيات مرتبطة بقضايا لا تتعلق بالإبداع أبداً، إنما تتعلق بمواقف وانتماءات معينة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى رغبت في خلق حالة تواصل بين المبدعين في الوسط الثقافي لكسر العزلة التي تسود بعض الأجواء الثقافية لدينا.
– شاركت في إخراج وتصوير أفلام سينمائية ما الذي ترويه عن هذه التجربة؟
لو لم أكن فناناً تشكيلياً لكنت شاعراً أو مخرجاً سينمائياً وأعتقد أن السينما تحوي كل الفنون ولم تكن تجربتي فيها وليدة المصادفة، إنما أخي هو من استقطبني إلى هذا العمل وكان هاوياً للتصوير، وقد أسسنا فرقة هي فرقة الفيلم الذهبي ومثلنا وأخرجنا عدة أفلام، وأتذكر أن فيلمنا «الصامدون في وجه الليل» نال الجائزة الأولى في إحدى المسابقات.
– كتبت النقد التشكيلي في الصحافة، كيف تصف الساحة التشكيلية السورية وهل هناك حركة نقدية تشكيلية تؤسس لتطور العمل الفني؟
عندما كتبت في النقد شعرت أني ضحل في هذا المجال وعندما قرأت للآخرين وجدت نفس الشيء لديهم، النقد ليس عملية سهلة، وليس لدينا نقد تشكيلي إنما لدينا كتابة في النقد، وهناك فرق كبير بين النقد والكتابة في النقد، النقد يلزمه موضوعية وحيادية وهي غير موجودة عندنا، فنحن حتى الآن لا نحترم الرأي الآخر وعندما نعبر عن رأينا يكسبنا هذا عدواً إضافياً.
– هل ترى في السوق هدفاً لك أم أن العملية الإبداعية لا تخضع للمساومة برأيك؟
الفن لأجل الفن وليس من المنطق أن أرسم لوحتي كي أسوقها لإنسان لديه مطالب معينة فكرية أو أسلوبية، فالفن يجب أن يخضع لمعاييره الخاصة وليس لمعايير مزاجية سواء من أصحاب الصالات أو الأذواق الشخصية والعامة، أعتقد أنه يجب ألا يتدخل أي شيء من ذلك في عملية الإبداع.
لمحة عن الفنان عبد الرحمن مهنا:
– من مواليد حلب، سورية.
– الجائزة الأولى في المعرض الرابع لمراكز الفنون الجميلة، 1967.
– هجر دراسة التاريخ ليلتحق بكلية الفنون الجميلة، 1976.
– إجازة في الفنون الجميلة، جامعة دمشق، 1983.
– شارك في العديد من المعارض الفردية والمشتركة وتناولت أعماله الفنية بالنقد والتحليل عدد من الفضائيات العربية بالإضافة إلى المجلات والدوريات العربية والأجنبية.

 

عمر الأسعد
اكتشف سورية

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.