1456167976

قيل في الشهيد

في قلب المتحف الوطني بدمشق الجامع للآثار السورية وفي قاعته الشامية، احتشد حضور رسمي وثقافي للمشاركة في مجلس العزاء الذي أقامته وزارة الثقافة لروح الشهيد عالم الآثار خالد الأسعد بعد أن قام تنظيم داعش الإرهابي بقتله في ساحة المتحف الوطني بتدمر مؤخراً.

كلمات التعزية

الدكتورة نجاح العطار، نائب السيد رئيس الجمهورية العربية السورية


يا خالد: تدمر أنت.. وأنت تدمر


الدكتورة نجاح العطار في حفل تأبين الشهيد خالد الأسعد

لا تجزعوا يا رفاق الشهيد..
خالد الأسعد..
أنت تدمر وتدمر أنت..
وكل ذرة رمل في تدمر تشهد على جهودك وما بذلت، تعرفك وتعرفها، وسيظل جرحك الطاهر نازفاً، يرعف في قلوب مواطنيك، ويظل عويل الرمال، في سمع الدُنا، شاهداً على إجرام المجرمين، وعلى براءة النبالة، في محياك.

حجّتك مكتوبة بالدم الموّار بالغضب، على المعتدين الآثمين، وكلماتك في عمق ما تؤديه، وما كتبت، خالدة خلود الحقيقة..
علّقوك، ويا للعار، على الأعمدة التي رفعتها، بالجهد والعرق، وبأبسط الوسائل، إلى أن تمكنت، وبمساعدة الأصدقاء، في البعثة اليابانية، من الحصول على رافعة، سهّلت عليك مواصلة العمل.

خالد الأسعد..
ليس بمقدورنا أن ننساك، أو أن ننسى حجم الهمجية والوحشية، في ارتكاب هؤلاء التكفيريين جريمة الذبح على اسم الدين، والدين منهم براء، والله أكبر على ما يرتكبون باسمه من آثام..

خالد الأسعد..
أنت لم تمت، أنت تحيا معنا، في ضمائر مواطنيك وفي ذاكرتهم، بين الأحبة الذين رحلوا عنا وما رحلوا، من الشهداء العظام الذين عطّروا أرضنا وسماءنا بكبير التضحيات..

لك تقدير الوطن، وقائد كفاح الوطن الرئيس بشار الأسد، ولك كل الإجلال من علماء الآثار في العالم، ومن رفاقك في العمل الأثري، ومن كل مواطن يعزّ عليه وطنه..

لقد صبرت وصابرت، لم تهن ولم تستسلم، وبقيت صامداً متحملاً صنوف الآلام، فالوطن كان عندك الأغلى، والحياة في سبيله ترخص.. عشت عزيزاً، ورحلت كريماً، مثل الميامين من أبطال جيشنا الباسل، وأبناء شعبنا المناضل..

خالد الأسعد..
الخلود لك ولهم، ما بقيت تدمر مملكة الخلود والخالدين.

 

الدكتور مأمون عبد الكريم، المدير العام للآثار والمتاحف

شهيد الإنسانية

تعلّقَ قلبي في تدمر كالكثير من السّوريين وعشّاق الآثار في العالم وظلّت عظمة تلك الأوابد الخالدة تُدغدغُ خيالي وأنا أدرس الآثار في بداية تسعينيّات القرن الماضي، وحين كنتُ أُحضّرُ أطروحة الدكتوراه عن مدينة حمص وعلاقتها مع تدمر خلال العصر الرّوماني، تعرّفتُ جيّداً على الأستاذ خالد الأسعد وجمعتنا لقاءات وحوارات عدّة كانت تتناول آثار وتاريخ تدمر.

كان الرّجل استثناءً في كلّ شيء بدءاً من سعة معلوماته وغنى ثقافته وكرمه وسماحته وصولاً إلى تواضعه الكبير وإنسانيّته الدافقة.

وفي عام 2002م أُتيحت ليَ الفرصة العمل في المديرية العامة للآثار والمتاحف، إضافةً لعملي في جامعة دمشق، وكانت تجربتي العمليّة الأولى مع الشّهيد خالد الأسعد والتي استمرّت لحين انتهاء خدمته الوظيفيّة واستمرّت علاقتنا وحواراتنا بما يخدم قضية الآثار والمتاحف في سورية، ولم يبخل يوماً بالرّأي ولا بتقديم المشورة والمعلومة في سبيل خدمة تراث سورية.

عاش حياته عاشقاً لتراث سورية ملتصقاً بتراب تدمر وأوابدها العظيمة فشارك بالعمل مع الكثير من البعثات الأثريّة التي نقّبت في تدمر وكان له جهوداً كبيرةً ومميزةً في الإشراف على أعمال الترميم وإظهار المدينة التي كان سفيرها في المحافل الدولية ولطالما تحدّث عن تاريخ تدمر وحضارتها وإبداع الإنسان فيها.

لم يكن الشهيد خالد الأسعد رجل علم فقط، بل كان واجهة تدمر والوجه السموح المشرق بالإبتسامة التي تستقبل الضيوف الرسميين والعاديين من روّاد المدينة الخالدة، وبحصيلة جهده الصادق وعطائه المستمر كُرّم بأوسمة عدّة من رؤساء دول وحاز على ثناءات شخصيات دولية هامة.

حين سقطت مدينة تدمر بأيدي عصابات داعش الإرهابية استمر تواصلنا مع الشهيد خالد الاسعد في محاولة لإقناعه بمغادرة المدينة خوفاً على حياته وحياة أسرته لكنه رفض بشكل قاطع مغادرة المدينة التي ولد وعاش فيها ووهبها ثمرة عطاء وعمل سنوات عمره وقال يومها: (ولدت بجوار معبد بل وعشت أكثر من ثمانين عاماً بجواره ولن أتخلى عن تدمر في هذه الظروف، ولا أخشى هؤلاء ولا تهديداتهم).

قدّم الشهيد خالد الأسعد حياته قرباناً للعقيدة التي آمن بها وظل وفياً لمبادئه حتى آخر لحظة في حياته الزاهرة الزاخرة بالعطاء … الرحمة والمجد والسلام لروح شهيد الإنسانية خالد الأسعد.

 

وليد خالد الأسعد، ابن الراحل

حارس الأعجوبة وشهيدها


المهندس وليد الأسعد يرثي والده في حفل تأبينه

ولد الشهيد خالد الأسعد في رحاب التاريخ، مدينة تدمر، بجوار معبد بل بتاريخ (1/1/1934). نشأ وترعرع في بيئة ريفية، ضمن عائلة معروفة وميسورة الحال، تسود بين أفرادها علاقات مفعمة بالألفة والمحبة والروح الجماعية والإيثار، وتتبادل هذه القيم مع أفراد العوائل الأخرى في المدينة، وكانت جميعها تتقاسم الأفراح والأتراح، وتحل مشاكلها إذا ما ظهرت بالحكمة والمودة.

تلقى المغفور له دراسته الابتدائية في تدمر، ثم انتقل إلى دمشق التي أكمل فيها دراسته الإعدادية والثانوية بتفوق، ثم التحق بقسم التاريخ في جامعة دمشق ليحصل منه على الإجازة في الآداب وتبعها بنيله دبلوم التخصص في التربية. وبسبب عشقه الفطري لمدينته وآثارها، اتجه نحو العمل الأثري، وسنحت له الفرصة لتحقيق أمنيته، بعد نجاحه في مسابقة التعيين لدى المديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق عام 1962م، ثم انتقل مطلع عام 1964م للعمل في تدمر، حيث عيّن مديراً لآثارها وأميناً لمتحفها، وهي الوظيفة التي ظل يشغلها حتى عام 2003م. وقد عمل طوال تلك الفترة على تطوير المؤسسة الأثرية العاملة في تدمر علمياً وإدارياً للنهوض بواجب حماية موقع تدمر الأثري والحفاظ عليه، وكشف معالمه وترميمه وتقديمه بشكل حضاري يتناسب مع أهميته الفائقة، والعمل على نشر الأبحاث الأثرية والتاريخية المتعلقة بالموقع وإتاحتها للراغبين، والقيام باستقبال جميع الوفود الرسميّة والشخصيات الاعتبارية التي كان يقدم لها شرحاً وافياً عن تاريخ هذه المدينة العربية ومراحل الازدهار والتطور التي مرت بها، بأسلوب ممتع ناتج عن فيض عشقه لكل ذرة تراب ولكل حجر في المدينة الأعجوبة.

تزوّج الشهيد من المربية الفاضلة حياة الأسعد عام 1966م، وله منها ستة أبناء وخمس بنات هم على التوالي: زنوبيا، وليد، محمد، عمر، فيروز، هدى، عيسى، زكريا، طارق، رابعة، وراوية، عاش معهم كأب وصديق وأخ، كان يرعاهم ويبث فيهم روح الاعتماد على النفس وتكوين الذات باستقلالية بعيدة عن أي شكلٍ من أشكال الإكراه، ويحثّهم على طلب العلم والثقافة والتحلي بالأخلاق الحسنة واحترام الآخرين، يستمع إليهم باهتمام ويتابع تفاصيل حياتهم ويعمل على تلبية متطلباتهم وتذليل الصعاب ونزع الأشواك من طريقهم، وقد تخرج منهم ثمانية من جامعات دمشق وحمص وحلب، وكانوا ولا يزالون يعيشون أجواءً أسريّة يسودها الحب والوئام والتفاهم والأخوّة الصادقة والاحترام المتبادل.

كان الفقيد ذا شخصية تتصف بالطيبة والكرم و العلم والاعتدال الفكري والديني والتواضع ودماثة الخلق، وهذا ما جعله منذ البداية أحد وجهاء المدينة وأعيانها، ومرجعاً يلجأ إليه الناس، لحل الخلافات فيما بينهم. ولهذا نال ثقة واحترام جميع السكان، وزاده في ذلك تواضعه الشديد ومشاركته الناس، دون تمييز، في المناسبات جميعها. يقدم كل ما يستطيع من خير ومساعدة لكل صاحب حاجة دون انتظار شكر من أحد. ساعياً لتحقيقها بكل وسيلة، غير متأففٍ ولا عابس، يستقبل زواره بمودة واحترام، يجالس الفتية والشباب والكهول ويعمل على إشاعة أجواء المرح في مجالسه يتجاذب أطراف الحديث مع الجميع إضافة إلى استمتاعه بالإجابة على الأسئلة والاستفسارات التي يتلقاها في جميع مناحي الحياة، باحثاً عن إجاباتها في بطون الكتب.

كتب ذات يوم على صفحته الشخصية على الفيسبوك: « حبي لتدمر وعشقي لها لا يوازيه أي شيء في الدنيا، ولقد زرت معظم مدن العالم شرقاً وغرباً، ولو خيّرت بينها لاخترت تدمر، فعلى ترابها عشت ومن مائها شربت، وكل ما قدمت من أجلها من جهد وتعب أقل من الواجب».

الحكاية كلّ الحكاية أنه كان يعشق مدينته المعجزة وملكتها الأسطورية التي لم يلتقيها أبداً، لذا فقد قرر أن يزيّن أماكنها كلّها بضوء يراه العالم ويعيش على ذكرى حبه لها، وهاهو قد رحل وهو يحافظ على مقتنياتها الجميلة. لله درّك أيها الحب ماذا فعلت، فلا كلمات تقال، ولا عزاء يفي بعاشق أعجوبة الزمان وملكتها العظيمة.


الراحل خالد الأسعد يرافق الرئيس الفرنسي ميتران أثناء زيارته لتدمر

لقد كان لديه إيمان لا يتزعزع بأهمية حماية المدينة الأعجوبة وصون إرثها الحضاري والتاريخي الذي لا يقدّر بثمن، والعمل بإخلاص لخدمتها، فهو المرجع الأبرز فيما يتعلق بتاريخها والمؤتمن على الموقع الأبرز في الحضارة السورية، والمقصد لكل من أراد زيارة آثار المدينة والتعرف عليها، وهو المعروف بنشاطه المكثّف مع عشرات البعثات الوطنية والأجنبية طيلة ما يقارب نصف قرن، قضاه منقّباً ومرمّماً فيها حيث امتزجت قطرات عَرَقَه ودماءه بترابها وحجارتها حتى غدا الوجه الأبرز في المدينة والذي يستطيع تقديم تفاصيل تاريخها وحضارتها بشكل بسيط ومسهب ينقل المتلقي من خلاله إلى عوالم محسوسة تمنح للتاريخ بُعداً شاعريّاً ساحراً. يضاف إلى ذلك معرفته التامة بأسرار لغتها الآرامية تحدثّاً وكتابةً، وإسهامه كذلك في الكشف عن آلاف الوثائق التاريخية والأثرية، واللقى الفريدة التي سلّطت الضوء على جوانب حضارية عدّة في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والفنية. يضاف إلى ذلك ما أنجزه من كتب ودراسات وأبحاث متخصصة، أهلته للحصول على وسام الاستحقاق من رئيس الجمهورية التونسية، ووسام الاستحقاق بدرجة فارس من الرئيس الفرنسي، ووسام الاستحقاق بدرجة ضابط من رئيس جمهورية بولونيا، وأخيراً وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة من سيادة الرئيس بشار الأسد. وطالما كان يردد أنّ الإنجاز الأهم والأبقى هو عمله المخلص لنحو نصف قرن في تدمر، وما حققه للمدينة، مع زملائه السوريين والأجانب، في مجال التنقيب والترميم والبحث الأثري، الذي تناول جميع جوانب الحضارة التدمرية.

لم يشفع لخالد الأسعد، كل هذا التفاني في سبيل تدمر، ولم يشفع له عمره الذي بلغ ثلاثة وثمانين عاماً، وكرسه في عمل الخير وخدمة المحتاجين، فنال من جسده الجبناء، خوارج العصر وشذاذ الآفاق، في أبشع جريمة تقترف بحق مفكر لا ذنب له إلا عشقه لمدينته وانتمائه لوطنه.

لقد اختار خالد الأسعد أن يموت كالنخيل راسخاً في أرض تدمر التي ولد عليها وعاش وقتل وصلب من أجلها. وكان يدرك أنّ بقاءه ربّما يكون الفصل الأخير من رحلة الفارس الذي لا يغادر ساحة المعركة حتى ولو كان احتمال خسارتها قائماً. ولكنه كان يردد، من سيبقى إذا ما خرج الجميع؟. واتّخذ قراره بالتشبث في الأرض وعدم الرحيل هامساً بأذن ابنته الصغرى: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وياليتني ألقى وجه ربي شهيداً، وأنال الأجر العظيم».

اليوم وكل يوم سنردد: صباح الخير يا حارس الأعجوبة، وسلاماً لروحك التي أبت أن تفارق المدينة، واختارت أن تبقى محلّقة فوق المباني المعجزة لتحرسها من عالمها الروحاني كما كان الجسد وحتى اللحظة الأخيرة مدافعاً عنها بكل ما أوتي من قوة وثبات.

لك السلام يا أبتي حيثُ ولدت، وحيث كانت لك رسالة، وحيث واريت الثرى في بطاح معشوقتك تدمر الأعجوبة. طبت حياً، وطبت ميتاً… ستبقى ذكراك غصّة في حناجرنا بحجم تاريخنا المنكوب، وقهراً يعيش معنا حتى نهزم الإرهاب في كل مكان من أرض وطننا الحبيب.

إنك عند الله شهيد، والخزي والعار للقتلة والمجرمين.

 

الدكتور عفيف البهنسي، مدير عام سابق للآثار والمتاحف

في رحاب الجنة الخلد

خلال ما يقرب من عشرين عاماً كان الهمُّ الأول للمديرية العامة للآثار والمتاحف إعادة مدينة تدمر الأثرية إلى سماتها المعمارية، فلقد تركت لنا القرون الثلاثة الأولى من الميلاد أجمل المنجزات الفنية والعمائر التدمرية، محافظة على سماتها الشرقية السورية المتأثرة بالتقاليد الكلاسيكية الرومانية عموماً.

أمام برنامجنا الأثري في هذه الحاضرة الأثرية والتاريخية، كان خيارنا المفضل أن يتولى زميلنا الآثاري خالد الأسعد تنفيذ الخطة الأثرية الاستثنائية في تدمر، بدءاً من الحفريات الأثرية التي شاركت فيها البعثات الأثرية البولونية واليابانية وغيرها، ثم أعمال ترميم الأوابد الأثرية التي تحفل بها تدمر من معابد وساحات وشوارع وأعمدة وحمامات ومباني عامة، وكان تنفيذ هذا المشروع أعظم ما تحقق في تدمر من الناحية العمرانية والجمالية والوظيفة،،وبخاصة إعادة تأهيل الطريق الطويل لكي يؤمن سير المشاة والقوافل، ويسهّل الاتصال بين أحياء تدمر من معبد «بل» إلى معبد «نبو» وإلى الحمامات والمسرح والآغورا ومجلس الشيوخ ومعبد بعلشمين وهيكل حوريات الماء. ويحف بهذا الشارع رواقان عن يمينه ويساره ويصل بعدها إلى نهايته بمعسكر «ديوكلسيان» ومعبد «الربة اللات».

وفي هذا الشارع الطويل أشرف الزميل الراحل على رفع الأعمدة المتساقطة على ضفتي الشارع.كما أوضح معالم الآغورا المؤلفة من باحة مربعة مغلقة لها أحد عشر باباً.

ومن أبرز المباني العامة التي تم ترميمها، معبد «بل الكبير» ويعود بناؤه للقرن (الأول الميلادي) واكتماله إلى القرن (الثاني الميلادي) .ويتألف المعبد من ساحة رحيبة مربعة مغلقة ويتوسطها الحرم الأكثر اكتمالاً. وأمام مدخله كان ثمة تمثال ضخم يمثل الأسد الحامي للمعبد الآرامي القديم وكان سابقاً لمعبد «بل». ولقد تم ترميم هذا التمثال الضخم وإقامته في تدمر ونسخة منه في متحف دمشق.

ويقع معبد «نبو» غربي قوس الشارع الطويل، وفي الحي الشمالي من المدينة معبد «بعلشمين» ويعود للقرن (الثاني الميلادي).وثمة معابد أخرى، مثل معبد «اللات» وفيه تم اكتُشاف تمثال مرمري للربة اللات/أثينا، وتمثال أسد اللات. وفي المدينة عدّة معابد منها معبد «أرصو»، ومعبد «عشتار» ومعبد «يلحمون ومناة» … وغيرها.

كذلك تم ترميم الحمامات، والحمام بناء متميز ذو مدخل تتقدمه أربعة أعمدة غرانيتية، ويلحق بها باحة للرياضة والاجتماعات.

لقد تابع الزميل الراحل أعمال الترميم بنجاح وبأقل التكاليف. وكان مشروع إعادة واجهة المسرح وإعداده للقيام بوظيفته الفنية من أصعب المهام التي أنجزها. مما جعله موضع التقدير والتكريم في مؤتمر الآثار الرابع. وهكذا بدا المسرح على شكل نصف دائرة، تحفّ به مدرّجات أمام الأوركسترا حيث تقع منصة التمثيل.

كما أوضح معالم معسكر ديوقلسيان والأسوار ونبع أفقا الكبريتي، ولعل هذا النبع سبب نشوء مدينة تدمر وما زال مصدراً للخير في الواحة التدمرية.

ومن أبرز بنود الخطة الاستثنائية في مدينة تدمر ترميم قلعة فخر الدين وهي الأثر العربي الأبرز في تدمر، وتُنسب إلى الأمير فخر الدين المعني الثاني. وفي القلعة نشاهد بقايا الجسر المتحرك الذي أقيم فوق الخندق المحيط بالقلعة.

وانتقل الاهتمام إلى المدافن التدمرية ومن أقدم نماذج هذه المدافن «المدفن البرج»، وأشهرها مدفن «إيلابل»، ويبدو مظهره الخارجي مربعاً تماماً مؤلفاً من أربعة طوابق وبارتفاع يصل إلى عشرين متراً ويتسع لمئات من القبور. والمدافن البرجية هي أقدم أنواع المدافن وتعود للقرن (الأول قبل الميلاد)، وأجمل نماذج المدافن البرجية عدا مدفن «إيلابل»، مدفن «يمليكو، وكيتوت».

لم يبق من آثار النحت المجسم نماذج كثيرة، فأكثرها كان قائماً على حاملات التماثيل في الشوارع والساحات، والكثرة الساحقة من المنحوتات التدمرية نراها في المدافن التدمرية التي تعد متحفاً لفن النحت التدمري انتفل أكثرها إلى متحف تدمر، مصنوعة من الحجر الناصع تمثل الراحلين متكئين على الأرائك في جوار حميم.

كان من اهتمام دائرة الآثار والمتاحف في تدمر والتي تولاّها الزميل الراحل وزملاؤه الأكفاء، إنشاء متحف لتراث البادية السورية ، وتطوير المتحف الآثاري وتزويده بتحف منقولة من قصر الحير الغربي. وبهذا تكتمل تدمر كواحدة من أشهر وأهم المدن التاريخية في العالم واضحة المعالم العمرانية وشاهدة على الحضارة السورية، زارها بلهفة وإعجاب الملايين من السياح.

لقد هزت جريمة مقتل الزميل خالد الأسعد الشعب السوري عامة والمحافل الأثرية في العالم، وكان من واجبنا أن نشارك في تأبين هذا الشهيد البطل، في عرض مآثره وإنجازاته في حماية هذه الحاضرة الشهيرة التي تتعرض اليوم لأعنف هجمة بربرية وحشية.

نقف اليوم باحترام لتأبين خالد الأسعد الآثاري الزميل الذي ولد في تدمر من سلالة تدمرية عربية تنتسب إليها الكثرة الساحقة من سكان تدمرالعرب الذين احتفظوا بتقاليدهم العربية، وبنظامهم الاجتماعي، وكان أجداده التدمريون يستخدمون في كتاباتهم اللغة الآرامية التي أتقن قراءتها.

 

ناديا خوست

خالد الأسعد متصوف تدمر

في مقالع حجارة في قمة جبل في القارة الأوروبية، بعيداً عن السياسة الغربية التي سلحت جيوش التدخل في سورية، قدم فنان ذواقة عرضاً ضوئياً عن لوحات رفائيل وتماثيل ميكيل آنج. عرضاً يذهل بقدرة الإنسان على الإبداع، والكشف للمعاصرين عن التراث الإنساني الفني. نستطيع بمثل ذلك العرض في الطرقات التي تهدأ في المساء، ومقالع الحجارة التي نبشت الجبال، نشر فنون الحضارة السورية وتأمل المنحوتات التدمرية، وكمال الرؤية التي خططت إلى المدينة، والحرص الدؤوب على تجسيد الجمال.

لكن المتوحشين أعدموا المختص الكبير باللغة التدمرية، الحارس المتصوف الذي جعل تدمر محور حياته، هواه وهاجسه، ابنته وحبيبته! طوال نصف قرن رافق خالد الأسعد الزوار والمنقبين، وكان يعدي زوار تدمر بهواه، يأخذ بأيديهم ليطلعهم على ما شفّت له حجارتها، ويزداد تعلقاً بها كلما توغل في معرفتها. لذلك لم يكن رفضه الرحيل من تدمر مفاجأة. مع أنه خمّن مصيره. شعر بأن تدمر في لحظة الضيق تحتاجه.

ألا تعبر صورته التي نشرتها صحيفة عالمية أمام منحوتات مدفن تدمري عن ذلك الهوى؟ وما الحياة دون تدمر للعالم المولع بها! ليست تدمر بالنسبة له ما يفتن السائح في المنحوتات والأعمدة والتيجان والأبراج! فالشخصيات المنحوتة على المدافن أصحابه، وأزمنة تدمر التي يستحضرها أو يستشفها حياته. يتجول في محطة عالمية بين البحر المتوسط والخليج أذهلت بعمارتها وأناقتها قوافل طريق الحرير القادمة من الصين، يسمع هدير ألوان قوافلها، تفوح عليه التوابل، ويخفق أمامه الحرير والسجاد، يتفرج على عروض مسرحها، ويحضر جلسات مجلس شيوخها، وفي الليل تبدو له من معبد بعل وفي طريق الأعمدة الشاهقة هيبة نجومها. من غيره يتصور تدمر حية، أعمدتها قائمة، والمبتهلون في معابدها، وكتّابها ينسخون العقود باللغة التدمرية! لو كان كل منا مثله يَهِبُ روحه وعمره للدفاع عن غابة أو نهر أو عمارة، لو كان كل إنسان يورث هواه وتصوفه مثله، لتلألأت هذه البلاد الثمينة كالجوهرة!

كمتصوف ومختص أعجب إعجاب العارف بزنوبيا، ونشر مع عالم دانمركي كتاباً عنها. لامس مواكبها، ومشى معها إلى مصر وأنطاكية، واجه معها الإمبراطورية الرومانية في لحظة مضطربة قدرت أنها مناسبة لإعلان استقلالها. كتب: «لم يكن حسها السياسي أكثر من ثقافتها، فكانت متفتحة العقل تتكلم بطلاقة التدمرية واليونانية والمصرية، وضمت إلى بلاطها الفيلسوف اليوناني لونجين وأسقف أنطاكية بولس الشميساطي، وكانت تحب علم التاريخ». ونقل ما كتبه عنها مؤرخون رومان: «كانت سمراء لوّحتها الشمس، سوداء العينين يشع منهما بريق رائع، أسنانها كالآلئ، وتتكلم بصوت رنان قوي، وتخطب في جنودها معتمرة الخوذة، وكانت تركب العربة الحربية وقلما تعتلي السرير المحمول، لكنها تمتطي الجواد أغلب الأحيان». في كتابه، فتح التخمين كمن يفهم أن مثلها يفضل الموت على مكان أسيرة في موكب الفاتح أوريليانو.

ربما عاش هذا العالم سعادة لا يعرف مثلها إلا من نسج عمله بروحه، وهو يمشي في الفجر وفي الغروب متسائلاً عما تخفي الأرض مما لم يكشفه بعد، مخمناً روعة مفاجآتها. يحاور التماثيل الغائبة، ويجول في رواق الأعمدة تحت السماء التدمرية المرصعة بالنجوم. يتأمل بحث الإنسان في الحياة والفناء والتوق إلى الخلود، البحث الذي طرز العالم بفنون المعابد وصاغ الملاحم. ويفهم التدمري القديم الذي هدأ قلقه بالإيمان بقوى أعظم منه، كلما شعر بأنه ذرة صغيرة عابرة، ووصل من بعلشامين إله السماء، والآلهة التي اختالت طوال قرون، إلى الإيمان بإله واحد «هو الذي اسمه مبارك إلى الأبد، الإله الرحيم الخيّر».

كان خالد الأسعد يعرف تدمر أكثر مما يعرفها أي إنسان آخر. مع ذلك، كم سحرت غير المختص! بأصالة الفن السوري، ومخطط المدينة العالمية الشرقية، ومئات التفاصيل.. ورق الدوالي المنحوت في الحجر، الخطوط التي صاغ منها الفنان التدمري لوحة، نساء المنحوتات بملاءتهن التدمرية التي تكشف تموج الشعر ونضارة العنق والحلي ورهافة الأصابع وتذكر بملاءة المصريات ونساء دير الزور ومابين النهرين. قال لي صلحي الوادي: «أذهب أحياناً إلى تدمر لأراها من القلعة في وقت غروب الشمس. هل يخطر لك أي جمال مذهل يملأ الروح وقتذاك»؟ يقطع أكثر من مئتي كيلومتر ليمسك بلحظة! قبله، سحرت تدمر نساء بريطانيات تحدث عنهن المختص الآخر في تدمر، الدكتور عدنان البني: ليدي ستانهوب وجين ديغبي وبلنت وبورتون، والمعاصرين الذين ملأت عيونهم مدينة وردية في الغروب، لا مثيل لها في العالم، تجمع جلال الآثار بالواحة.

ذكر خالد الأسعد في نسخة من كتابه كرمني بإهدائه، «زيارة تدمر». كان يتمنى أن يستقدم السوريين جميعاً إليها. قال ونحن نتجول في المتحف: يحتاج هذا المتحف ضعف موازنته! هل كان يقدر أن الآثار في بلد حضارة عظيمة يجب أن تكون في مستوى الدفاع الوطني؟ وأنها أولا لورثتها، ليعرفوا كنوزهم، ويربوا بفنونها، ويستلهموها. وليحتاطوا بتلك التربية من الجهل الذي يصور أنها أصنام شعوب أخرى. وليؤمنوا بأن النحت يبعد عن العمارة التجهم، ويحيي خضرة الحدائق. ويتذكروا أن النحت العالمي أجرى بعد ربة الينبوع السورية الماء من منحوتات نوافيره.

ولد النحت في بلاد الشرق ممزوجاً بالعمارة. تطلعت فيها الأعمدة المزينة بالتيجان والتماثيل إلى السماء. لا مثيل لهذا التراث السوري! فَقْدِ أي قطعة منه كارثة تضيّع على الإنسانية مقطعاً من ذاكرتها وفنونها. ما حضارة السوريين غير هذا الكنز من الأساطير والملاحم والرقم والمعابد والمنحوتات التي أبدعها السوريون قبل ألفي سنة؟ ألا نتساءل لماذا تتلهف مافيات الآثار عليه، ولماذا يتسرب بعضه إلى إسرائيل؟

لا يستطيع أي مصطلح فكري يتناول النحت أن ينسينا الجوهر السياسي: يتضمن الصراع العربي الصهيوني صراعاً على الهوية التاريخية، ومن شواهدها النحت، ولا نستطيع أن نهمل أن العقل الذي يعادي منحوتات الحضارة منع تزيين بلادنا بمنحوتات حديثة، ومن خرج عليه استولد كتلاً رمزية من دون ملامح إنسانية!

لذلك التراث التدمري العظيم وهب خالد الأسعد عمره، ثم افتداه بحياته. من يقرأ كتبه يلمس إيجاز العالم، دقته وإحاطته، وروح المحب الخفاقة، وها هو كالمنحوتات التدمرية التي زينت أعمدة مدينته، لكنه إلى ذلك أضاف مثلاً نحتاجه في هذه الأيام العربية الكالحة، مثلا على التفاني في حب مدينة، والإخلاص حتى الموت لقضية، والرد النقي على بؤس الثقافة!

 

ميشيل المقدسي

ورحل الخالد

قليلون هم الرجال في تاريخنا المعاصر الذين ولدوا ليؤكّدوا لنا ضرورة تلاقينا كمجتمع عربي وإنساني مع تاريخنا، بدعوتنا إلى قراءة هذا التاريخ من خلال تراثنا الأثري، ولحسن الحظ أن الأستاذ خالد الأسعد كان أحد هؤلاء الرجال.

إنّ الرسالة التي حملها خالد الأسعد وكان يبشّر بها العارفين من أبناء وسطه الأثري، تتلخص بعبارة: كيف لنا نحن الآثاريون أن نتحمل المسؤولية المعنوية لهذه الرسالة؟

إنّ قيمة علم الآثار تكمن دائماً بارتباطه بأركانه وأهدافه، ومن أجل هذا فإن الأستاذ الأسعد كان على يقين دائماً أن هذه القيمة تتطلب أعظم التضحيات، وبهذا فإن رحيله بالشكل الذي كان عليه، إنما هو من أجل قضيتنا الأثرية التي حملها بشكل دائم وأنهى بها مسيرة حياته المهنية الجميلة. إنّ هذه التضحية التي قدمها بنفسه تمثل التعبير الصادق للصراع اليومي الذي يقوده علماء الآثار السوريين في هذه الحقبة السوداء.

سنبقى نردد مع خالد الأسعد ما كان يتمنى دائماً: « لنحترم القيم النبيلة لأجدادنا بالعمل على تحقيق إرادتهم»، وقد قالها للعالم أجمع قبل أن يموت وحيداً على أرض أجداده الغالية جداً.

 

تحسين خلف

زنوبيا.. اصرخي أكثر عسى أن يسمعك من به صمم

زنوبيا.. أسمع أنينك وعويلك هنا في الشام، وأشاركك دموعي ونحيبي على أبناء مدينتك المنكوبة.. أعرف أنك لم تصرخي عندما اقتادوك مكبلة بالحديد، إلا أنك اليوم تصرخين غاضبة، أسمعك، نعم أسمعك..

ها هي الهمجية تعود إلى مدينتك الخالدة.. اصرخي أكثر يا زنوبيا عسى أن يسمع العالم الذي يدّعي أنه حضاري، ليرى ما يحدث بالحضارة. وبصنّاع الحضارة..

زنوبيا. لقد ازدان اليوم طريق الاحتفالات باللون الأحمر القاني. سينبت شقائق النعمان في صحراء تدمرك من جديد. اليوم تعمد شارعك بالدم الظاهر كما تعمد مسرحك بدماء طاهرة زكيّة شريفة قبله..


الأستاذ خالد الأسعد يرثي الدكتور عدنان البني في حفل تأبينه

هل أخبرك العرّافون أن قدر مملكتك مواجهة الهمج والسفلة والبربرية بكل الأزمان؟ وهل أعلمك العرّاف أن تراب مملكتك لا يرتوي أبداً من دماء أبناء مدينتك البررة؟ وهل روى لك الفلاسفة والعلماء قصة طائر الفينيق؟

زنوبيا زيديني بكاءً، زيديني حزناً.. فلن يحرق الهمجية إلا أحزاننا عندما تتحول إلى الغضب الساطع، لنعيد مجدك، وألقك ونحافظ على ما بقي من حضارتك التي يدمرها مدّعي كاذب فاجر جاهل قاتل مأجور.. لابد أنه زائل وأنت وأنت الباقية.
الرحمة لروحك الطاهرة.. أستاذ خالد الأسعد، وليبقى ذكرك مؤبداً.

 

طوني جرّوج

لقد فعلتَها يا استاذ خالد (رحمك الله)

يسألني أصدقاؤنا في أوروبا: “لماذا لم يغادر من ‫‏تدمر‬ مع عائلته لينجوا بأنفسهم كما فعل الكثيرون من السوريين عند قدوم وحوش ‫داعش‬ إلى مناطقهم؟”!!

منذ إعلان الخبر، لم يكن لأفكاري أن تجد الجواب، فقد كنت أهرب إلى شاغل ما يصرفني عن فرض الجواب، كأني لا أريد أن أعالج حقيقة ما حصل. بعد أيام من ذلك “الثلاثاء” الأسود لنا، والأحمر كما أراده الوحوش، لكنه الأبيض (نعم أبيض) كما أراده الراحل ‫خالد الأسعد‬، أصبحتُ قادراً على الإجابة:

لقد فعلها خالد الأسعد، وأراد في مماته أن يتألق كما في حياته. لقد أراد ألا يترك أرضه وتاريخ عائلته وذكرياته خوفاً من أن يرحل عن الدنيا دون رؤياها ثانية. لقد اختار أن يموت فيها ويجيب عن كل أسئلتنا، المريضة منها والسليمة:

١. علمنا أن أبا وليد ووليد الأسعد وعائلتيهما قد اختاروا البقاء في تدمر عندما سنحت لهم الفرصة بالخروج، وبدأنا نسمع: “بكره رح يتأقلموا ويبايعوا.. متلهم متل غيرهم بمناطق داعش”. بموتك يا أبا وليد أجبتَهم: “يا لكم من تجار كلمة رخيصين، وخسارة هالوطن فيكم”. منذ شهور، وعند اقتحام داعش ل‏مخيم اليرموك‬، سمعت على هواء “‫# ‏شام اف ام‬” سيدة من داخل المخيم تقول: “لسنا بيئة حاضنة، ولسنا متقلبي الهوى، ولسنا نبايع من يأتي.. إننا في دارنا وبين ذكرياتنا، لن نتركها مهما اشتدت الصعاب”.

٢. علقوا جسدك على عمود كنتَ قد فككتَ شيفرته في الماضي، وها أنتَ تقوم بفك شيفرة وطنية حقيقية وصلت إلى العالم كله، لتقول: “أنا ابن تدمر، أخو ‫زنوبيا‬، أخو الشرفاء الذين لا يهابون الموت”. أبناؤك في المتحف وأهل تدمر تعلموا منك في السابق والآن ألاّ يهابوا الرصاص بينما كان مسلحو داعش يقنصونهم واحداً تلو الآخر، ومع ذلك تابعوا في إفراغ المتحف في تدمر ونقله إلى مكان آمن رغم إصابة ثلاثة من التدمريين. لقد أعطيتمونا درساً بالإيمان بهويتنا، والتصالح مع ماضينا، والتفاؤل بمستقبلنا. فهل نتعلم؟

٣. بموتك يا استاذنا، أخجلت الجميع من الغرب والشرق. جعلتَهم يُنزِلون أعلامهم احتراماً لموتك، ويسمون احتفالاتهم باسمك، ويشجبون ويعزون.. لكن هل سيعملون ليجعلوا من داعش ملعونة قولاً وفعلاً؟!

٤. اعذرنا يا صديقنا الحي بموتك كما ‫‏طائر الفينيق‬، فما زال كثيرٌ من السوريين تحت خط الندب والشجب والنواح. يلعنون داعش وأخواتها، ويبحثون عن أدلة تثبت وحشيتهم. سامحنا فنحن قوم نجيد ذلك فقط، غاب عنا الفعل والمبادرة وحسن تقدير الشهداء من أمثالك. نرجوك أن تسامحنا، ولسنا أهل بذلك، لأنك بفعلك فعلت ما لم يفعله ملايين السوريين.

إلى صديقي ‫وليد الأسعد‬، وعائلتيه الصغيرة والكبيرة.. إلى شرفاء تدمر: لا تحزنوا أبداً فإن رسالة أبي وليد مستمرة، وبقتله وتعليق جسده استطاع ‫الداعشيون‬ ايصال تلك الرسالة إلى العالم، وهذا فخر لكم ولو صنعوا بجسده ما يشاؤون. أرجوكم اقبلوا تعازينا بوفاته، وسامحونا على ما بدر منا من تقصير.

 

موسى ديب الخوري

عاشق تدمر وشهيدها

اقترب مني بلطف والابتسامة تعلو وجهه. كان برفقة زميلين له من المشاركين في مؤتمر «سورية الوسطى، من البحر إلى البادية» الذي عقد في حماة عام 1999، وبادرني بالقول: «كنا نتحدث عن ترجمتك الفورية الجيدة التي تشير إلى تمكنك من اللغة الفرنسية»… وقبل أن أرد عليه بكلمات الشكر كان قد عرّفني بنفسه بتواضع أصيل: «أنا خالد الأسعد، ويسرني التعرف بك أستاذ موسى».

كنت أعرفه بالاسم، ولم يسبق لي اللقاء به. وسرعان ما تحوّل التعارف إلى حوار حول مواضيع الترجمة وأهمية نقل الدراسات التي تصدر باللغات الأجنبية عن سورية إلى العربية ليطلع عليها الطلاب والباحثون. وخلال هذا الحديث سألني إن كان لدي الاستعداد لترجمة كتاب جديد له بالمشاركة مع باحث فرنسي حول كتابات تدمر. رحّبت بالفكرة وبقينا على موعد ليتصل بي ويرسل لي نسخة الكتاب الفرنسية.

هكذا بدأت معرفتي لإنسان لم تكن تنتهي محبته لتدمر التي كانت تمتد بالنسبة له أبعد من المساحات وأعمق من التاريخ وأوسع من الآثار… فتدمر كانت تسكنه كما كان يسكنها، وتحبه كما كان يحبها، وتنهض به كما كان ينهض بها… لم ألتق به مرة إلا وحدثني عن أبحاثه الجديدة في تدمر واكتشافاته فيها وأعمال الترميم التي يشرف عليها. لم يكن يتحدث عن الصعوبات، بل كانت روح العمل والمثابرة والثقة بأن تدمر غنية كريمة وأصيلة وأنه لا بد من متابعة العمل فيها لإبراز جمالاتها وفتنتها وعظمتها ورقيّها وتفردها.

أنهيت العمل على ترجمة كتابه المشترك مع «جان باتيست يون» حول «الكتابات اليونانية واللاتينية في تدمر» خلال أشهر قليلة. وخلال عملي على الترجمة كان خالد الأسعد يتصل بي من تدمر ليطمئن أن العمل يسير دون صعوبات. ومع نهاية الترجمة أرسلت له نسخة منها ليراجعها ويدقق المصطلحات. وهذا ما كان. لكن المركز الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى الذي أصدر الكتاب بالفرنسية اعتذر عن نشره بالعربية. ولا شك أن انشغالات خالد الأسعد الكثيرة كانت تنسيه ضرورة الاهتمام بنشره، فكان يتصل بي من وقت لآخر، يدعوني إلى تدمر، أو كنا نلتقي في مناسبات مختلفة أو في مديرية الآثار، ويتذكر فجأة الكتاب، ويقول لي إنه سيحاول نشره قريباً. وقد قمنا بمحاولات عدة لنشر الكتاب، إنما دون أن تكلل آمالنا بالنجاح.

بقي الكتاب طي ملفات الحاسوب لدي، إلى أن سمعت الخبر المفجع، خبر استشهاد رجل العلم والتنقيب، رجل تدمر وآثارها، بعد تعرضه لصنوف التعذيب على يد الإرهابيين والتكفيريين في تدمر.

أتذكر خالد الأسعد بلباقته وشخصيته القوية ولطفه وسعة صدره ومحبته لتدمر وآثارها، وأفكر، كم كان سيسعد لرؤية كتابه هذا منشوراً ومتداولاً…لقد أصر على البقاء في تدمر مدركا للخطر الكبير الذي يهدده شخصيا ويهدد تدمر وأبناءها. فعلّمنا بذلك درساً في محبة الوطن والإخلاص له. لم ينقسم خالد الأسعد على نفسه ولم يتلون بألوان التخاذل أو المصالح أو الأنانية، بل حافظ حتى اللحظة الأخيرة على ثقته بالفكر العلمي الذي مارسه طيلة عقود وبالانتماء الإنساني لمجتمعه ومدينته.

خالد الأسعد، لقد عزّزت في قلوب السوريين الوطنيين لحمة التعالي فوق انتماءاتنا الصغيرة إلى انتمائنا الكبير الذي ليس له سوى اسم واحد: سورية… إن رجاءنا كمتابعين لرسالتك في محبة تدمر والمواقع الأثرية السورية كلها، أن نكون قادرين على إعادة الحياة إلى هذه المواقع تنقيباً ودراسة ونشراً فنكون قد أضأنا ابتسامة في روحك الباقية معنا، رغم كل هذا الألم الذي يعتصرنا بفقدك وفقد جواهر نادرة من حبات طوق تدمر الفريد.

وإن كان الحزن يغمر قلوبنا، لكننا نجد المثال في شجاعتك ونبلك وإخلاصك لعروس الصحراء السورية، تدمر التي ستظل في قلوبنا شعلة لا يمكن لأحد إخماد نورها ونارها.

 

شهادات وآراء عالمية

المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم

تنعي عالم الآثار خالد الأسعد

نعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «الألكسو» في بيان لها اليوم الباحث وعالم الآثار السوري خالد الأسعد.
وجاء في البيان ببالغ الأسى والحزن تنعي المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الباحث خالد الأسعد العالم الأثري الكبير الذي اغتالته عصابات تنظيم «داعش» الإرهابية ويعد الفقيد من جيل العلماء الرواد الذين خدموا تراث أمتهم العربية وأخلصوا له.

ونددت المنظمة في البيان بهذه الجريمة التي تتنافى مع أبجديات التعاليم الدينية والقيم الإنسانية داعية جميع الأطراف في المجتمع الدولي إلى التصدي لهذا التنظيم الإرهابي ومنعه من نهب وتهريب وبيع القطع الأثرية ومحاربة أفكاره الهدامة.

 

ميخائيل بيوتروفسكي، المدير العام لمتحف الأرميتاج

يعزي بالفقيد

تقدّم ميخائيل بيوتروفسكي المدير العام لمتحف الإرميتاج في سان بطرسبورغ بتعازيه لأهل الفقيد خالد الأسعد وأقاربه، حيث كتب في مدونته على موقع المتحف قائلاً: «شهدت تدمر على مدى تاريخها الطويل وفيات كثيرة، ولكن هذه واحدة من أكثرها فظاعة، من حيث عبثيتها وقساوتها.»
وقبل وفاته عُذّب خالد الأسعد عدة أسابيع ثم قاموا بإعدامه… ولا نشك أيضاً بأن عذاباً آخر أضيف لعذابات العالم الأسعد وهو خبر تدمير كثير من المعالم الأثرية في المنطقة..

وأضاف بيوتروفسكي متسائلاً: «بم كان خالد الأسعد يشكل خطراً على هؤلاء المقاتلين؟ ما التهديد الذي كان يمثله لتنظيم «الدولة الإسلامية» هذا العالم ابن الاثنين والثمانين عاماً، ومؤلف عدد من الأعمال العلمية؟ ويبدو أن الخطورة والتهديد بالنسبة لهم تمثلتا في العمل نفسه الذي يقوم به خالد الأسعد، وهو حماية ودراسة وتوصيف المعالم الأثرية القديمة، لأن هذا العمل كان يتيح لشعوب كثير من البلدان الالتفات إلى الوراء ومقارنة ما الذي يقال عن الماضي حالياً مع تلك المواد الأثرية للثقافة التي بقيت إلى أيامنا هذه، والتأمل في أشياء كثيرة….».

وأشار بيوتروفسكي إلى أنها «ليست المرة الأولى التي يشهد التاريخ البشري فيها كيف يبدأ المتطرفون من جميع الجنسيات والمذاهب الدينية والإيديولوجيات بتدمير المعالم الأثرية الآثار المعمارية والمنحوتات والكتب، ثم يقومون بعد ذلك بقتل الناس، حُماة الحضارة… ومهما بدا الحديث مروعاً، لكننا نعتقد أن البروفيسور خالد الأسعد صعد بنفسه إلى المقصلة لكي ينقذ تدمر، لقد قُتل في الحرب ما بين الثقافة والجهل».

 

باولو ماتييه، رئيس البعثة الإيطالية في إبلا

الشهادة.. حب كبير، وإخلاص فائق

حب كبير، وإخلاص فائق، وتطابق شديد مع تدمر: هذا كان خالد الأسعد وهذا كان الانطباع الذي كان يتأكد في كل مرة كنا نلتقي فيها ـ لدى زيارة آثار أكثر المدن القديمة سحراً وتأثيراً والواقعة في قلب الصحراء السورية ـ إنه الرجل الذي كرّس بكل بساطة حياته كاملة لهذه الآثار فائقة الجمال.

لقد جسّد خالد الأسعد في إطار المديرية العامة للآثار والمتاحف في الجمهورية العربية السورية، ومنذ أكثر من خمسين سنة، مؤسَّسة ورمزاً في آن معاً: التعلّق الحار بالآثار التي كان قد عُهد له بالعناية بها مع كامل السلطات المطلوبة؛ والتجارب التي أغنتها عشرات السنين من العمل المكد والقاسي في الميدان إلى جانب زملائه القادمين من أركان العالم كافة (من الولايات المتحدة إلى سويسرا وألمانيا، ومن بولونيا إلى فرنسا إلى بلجيكا وإيطاليا)؛ والمعارف التاريخية التي تمتد من علم آثار الموقع المدني الذي ما يزال يحتاج للدراسة تحت ألف وجه ووجه إلى النقوش والكتابات في تدمر؛ والفخر، المضبوط والمحبَّب، المميز لعالِم كان يعدّ نفسه الابن والسليل الطبيعي لتراث مبهر لحضارة تمتد عبر آلاف السنين؛ والاستقبال والضيافة اللذان كانا يصدران دائماً من القلب، كان الاستقبال أخوياً مليئاً بالعزة والكرامة إنما الذي يحترم الآخر في الوقت نفسه، وحده استقبال ابن البادية يعرف كيف يقدّمه، بطريقة شبه مقدّسة، للضيف الغريب حتى وإن كان لا يعرفه.

إنّ التضحية برجل مثقف وعالم مثل خالد، الإنسان البريء والذي لم يقترف أي خطأ من جهته، الحكيم والصائب والأمين، وباختصار العادل ببساطة، تلك التضحية ارتكبت بأكثر الطرق بشاعة، وحقارة ولا إنسانية، تجرح عميقاً ليس فقط مجتمع العلماء في العالم كله الذي يبكي فقدان زميل وصديق، بل أيضاً مجتمع العالم المتحضر، من دون تمييز للبلدان والثقافة والدين. إن الأخطاء المزعوم نسبها إلى هذا الرجل الصادق لتبرير «إعدامه» البربري والذي لا يمكن مسامحته، تشتمل على كونه خدم بلده بشغف وحب، حامياً طيلة السنوات الماضية التراث الذي لا يُقدَّر لوطنه ومتكتماً مؤخراً على الأماكن التي خُبّئت فيها كنوز مدينة هي تراث عالمي للإنسانية.

في ساعات الجزع والقلق التي تلت هذا الفقد الذي لا يمكن تقدير مدى جسامته، تساءلنا لماذا لم يسعَ رجل شريف مثله إلى حماية نفسه وحياته أولاً وذلك بأن يلجأ هو نفسه إلى مكان آمن حيث أخفيت الكنوز عن جشع الإرهابيين. وكان الجواب، ربّما، أن هذا الرجل الصادق قد وثق، وأخطأ للأسف، بسلطته الأخلاقية التي لا شك فيها والتي كانت ستنقذه من أي خطر محتمل. في الوقت الحالي، ووفق التقديرات الأكثر قتامة، فقد بات من الثابت للجميع أن سلطة أخلاقية رفيعة أو إنسانية لا قيمة لها على الإطلاق في نظر رجال قادرين على تدمير غنى كتدمر.

بعد تدمير عشرات الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في العراق وسورية، والتدمير الذي لم يسبق له مثيل للآثار في الحضر والنمرود، أطلقت السيدة إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لليونسكو، نداء قوياً لـ «المفكرين والصحفيين والأساتذة والعلماء للدفاع عن التراث الذي ينتمي إلى الإنسانية جمعاء». مع ذلك، فإن الرأي العام العالمي الذي عادة ما يكون تفاعله أو استجابته أو سخطه عرضياً جداً ومحدوداً ـ هذا إضافة إلى أنه غالباً ما يكون مغرراً به عبر معلومات تفصيلية وجزئية وغير موضوعية تنشرها بشكل كبير المصالح الاقتصادية والسياسية ذات الصلة والتي غالباً ما تكون معارِضة ـ لا يمكن أن ينسى أبداً أن المديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق قد فقدت خلال الشهور الأخيرة، وعلى كامل الأرض السورية، خمسة عشر موظفاً وحارساً ضحوا بحياتهم في محاولة حماية وإنقاذ التراث التاريخي والأثري لبلدهم.

في أوج هذا الوباء المستشري للأزمة الخطيرة الذي يبدو من دون حل، لا يمكننا إلا الانحناء أمام تضحية الموظفين الأبطال الذين يدافعون عن الأرض في سورية وبشكل ميؤوس منه. وهم لا يقدمون تضحياتهم باسم حزب سياسي، بل فقط من أجل حماية كنز لا يقدّر بثمن من قدر مرعب من التدمير والإفناء، كنز يمثل بالتأكيد أساس وعمق الهوية الثقافية للشعب السوري، وهو بشكل خاص تراث فريد للحضارة الإنسانية.

إن التزام كل رجل وامرأة من المجتمع المدني، بالإشادة بنكران الذات الفائق لخالد ولجميع الذين ضحوا بأنفسهم من أجل حماية وإنقاذ التراث الثقافي الإنساني، يجب أن يشتمل على الأقل على حفظ وتكريم ذكرى جميع الذين قرروا ببطولة، على الرغم من آلاف المخاطر في سورية، البقاء في أرضهم وأمكنتهم ومواقعهم من أجل الدفاع عن الشواهد التي لا تقدر بثمن لتراث ثقافي ينتمي إلى العالم أجمع.

 

سمير عبد الحق، نائب رئيس اللجنة العلمية الدولية للمدن والقرى التاريخية في الإيكوموس

خالد الأسعد.. أو مسار الرحلة النموذجية لتدمري عظيم

في بداية عام 1964، عُيِّن خالد الأسعد مديراً لآثار تدمر. ولم يكن له من العمر سوى 29 سنة وكان ذلك أيضاً أول مسؤولية يتلقاها ويحملها. وكان المدير العام للآثار والمتاحف في سورية في ذلك الوقت يحرص على أن يعين في محافظات البلد أشخاصاً نشؤوا في هذه المناطق، مراهناً على أن هؤلاء الأشخاص سوف يستطيعون أكثر من غيرهم أن يستثمروا في مناطقهم وأن يدرجوا أعمالهم في صيرورة الزمن. كان ذلك تحدياً تم الفوز به على سبيل المثال مع فيصل المقداد في بصرى.

تابع خالد الأسعد بعد تقاعده، نشاطاته العلمية في تدمر، حتى آخر أيامه. وقد استطاع طيلة فترة عمله أن يطوّر مهاراته كعالم آثار عبر احتكاكه بالبعثات العلمية الأجنبية التي تعاقبت عبر السنوات على تدمر. وكانت هذه البعثات أمريكية ونمساوية وألمانية وفرنسية وإيطالية ويابانية ونرويجية وبولونية وسويسرية، إضافة إلى البعثات السورية بالطبع. إضافة إلى ذلك فقد تعلَّم التدمرية وأصبح خبيراً فيها. لم يحدث شيء هام في تدمر خلال 50 سنة إلا وكان مشاركاً ومساهماً فيه بطريقة أو بأخرى. وكان أيضاً حاضراً دائماً لاستقبال الشخصيات الدبلوماسية الأجنبية القادمة لزيارة تدمر. وقد شارك أيضاً في حياة المدينة الحديثة لتدمر مثله مثل العديد من أفراد عائلته.

التقيت خالد الأسعد شخصياً في يوم شتوي عام 1993. كان يرافقني مستشار آخر من اليونسكو والمرحوم نسيب صليبي. وكانت المسألة المطروحة هي حماية أعمدة الموقع التي كانت تتداعى بسبب شدة الرياح. وكان الجواب إن تداعي الأعمدة كان يحصل على ارتفاع منتظم، وهو الارتفاع الذي كانت تبرز عنده الأعمدة التي كانت فيما مضى مطمورة جزئياً. فالمسؤول عن التداعي ليس الريح الرملية بل رطوبة الأرض. كنا قد زرناه أثناء مرورنا في القاعات الباردة للمتحف الأثري. وقد مررنا فعلاً عبر رواق مظلم قبل الوصول إلى مكتبه الذي كانت تزدحم فيه الكتب والأوراق. بعد ذلك تناولنا الغداء في مطعم صغير قريب من المتحف ثم تكلمنا بشكل خاص عن افتتاح المتحف في عام 1961م. كنا متفقين تماماً على التاريخ واختلفنا حول اليوم الذي حصل فيه الافتتاح بالتحديد. أهداني خالد الأسعد بعد ذلك أحد كتبه ولا أعتقد أننا التقينا بعد ذلك.

كان خالد الأسعد يشعر أنه ينتمي بالكامل إلى تدمر. وربّما هذا ما دفعه لرفض الإصغاء إلى النداءات الملحّة بأن يترك تدمر في أيار 2015م أمام تقدم مجموعات داعش. سوف نتساءل لوقت طويل عما كانت الحسابات العوجاء لجلادي داعش عندما قتلوه بهذه الوحشية. فهل كان إعدام «مدير للأصنام»، و»مشارك في مؤتمرات إلى جانب الكفار» سيطمئن السكان تجاه هؤلاء المسيطرين على تدمر؟ وهل كان يجب أن يعاقب لأنه لم يفش عن موضع غير محتمل وغير موجود لمخبأ للذهب؟ يمكننا على العكس أن نتساءل إذا لم يكن قطع رأسه تماماً قبل تفخيخ معبد «بعلشمين» ثم معبد «بل» بالديناميت، وقبل تدمير الأبراج الجنائزية، يهدف بالأحرى إلى إغراق شعب تدمر في الرعب ومنعه من مقاومتهم.

أثار قتل خالد الأسعد تعاطفاً كبيراً على المستوى الدولي، سواء في الأوساط العلمية أو بين الجماهير. لا يمكن أن نحصي عدد المقالات التي كتبت عنه عبر بقاع العالم،. وقد نكّست الأعلام من أجله في إيطاليا. وفي الدوائر الاختصاصية، كما في الـ ICOMOS، تكثر الاقتراحات حول أفضل طريقة لتكريم ذكراه.

هل يعود ذلك إلى احترام عمره أم اعترافاً بمعرفته؟ لم يحظَ ضحايا آخرون لداعش بهذه الشهرة الحزينة، ومنهم: عبدالله الحميد، وهو حارس موقع أثري على ضفاف الفرات، الذي ذُبح لأنه بقي في موقع عمله ولم يتركه، و المحامية سميرة النعيمي التي عذِّّبت ثم أُعدمت في الموصل، لأنها انتقدت أعمال تدمير الصروح في مدينتها. إن شجاعة أمثال هؤلاء المؤمنين بواجبهم الوطني والأخلاقي، يلقي الضوء على التزام أولئك الذين ما يزالون في سورية والمنطقة يعملون حتى اللحظة الأخيرة على حماية وإنقاذ التراث الثقافي من أجل الأجيال الحالية والقادمة. إنّ التفاني وروح التضحية لدى العاملين في المديرية العامة للآثار والمتاحف في سورية لم يعد أمراً يحتاج إلى برهان.

هل كان هدف داعش البائس هو قطع التدمريين عن آلاف السنين من التاريخ والمجد؟ هل كانوا يريدون منع تدامرة اليوم والغد من الاستفادة من تجارتهم التراثية والسياحية؟

لقد جعلت بربرية داعش في كل الأحوال من خالد الأسعد التدمري الأكثر شهرة بعد زنوبيا وأذينة. إنّها مواساة طفيفة بالتأكيد، لكن أفراد عائلة الأسعد سيستطيعون أن يحملوا اسمه في كل مكان مرفوعي الرأس.

 

كيوهيدي سايتو، رئيس البعثة اليابانية العاملة في تدمر

ذكرياتي مع خالد الأسعد

طرح الأستاذ خالد الأسعد فكرة قدوم بعثة يابانية للعمل في تدمر، عند لقائه الدكتور تاكاياسو هيغوتشي مدير مؤسسة طريق الحرير اليابانية(مقرها في ولاية نارا)، الذي جاء زائراً إلى تدمر، لتقديم الشكر للسيد الأسعد لسماحه باستعارة بعض القطع الأثرية التدمرية التي تم عرضها في «معرض نارا طريق الحرير 1988م». وقد كان برفقته الدكتور جيرو أوريتا، الطبيب البيطري الياباني، المقيم منذ عام 1964م في سورية، ويعرفه السوريون جيداً، والذي كرّس جلَّ حياته (توفي في حلب 2009م) وطاقته لخدمة وتطوير مختلف أشكال التعاون بين سورية واليابان ولاسيّما، في المجال الثقافي والأثري.

قمت بزيارة تدمر للمرة الأولى في شهر آب عام 1990م، وكنت برفقة الدكتور شينجيرو كوداما، وكانت وجهتنا الأولى متحف تدمر من أجل زيارة مدير الآثار فيها السيد خالد الأسعد، وذلك من أجل الاستماع إلى توجيهاته واقتراحاته من أجل العمل في تدمر. وقد كانت تربط السيد الأسعد علاقات صداقة قديمة العهد مع السيد أوريتا، كانت بدايتها عندما جاءت بعثة جامعة طوكيو، بإدارة الدكتور تاكيرو أكازاوا، للتنقيب في كهف الدّوارة، بين (م1984- 1967). وقد لمسنا وفاءه منذ البداية عندما كان يسألنا عن أخبار الدكتور أكازوا، الذي كان قد انتقل للعمل في كهف الديدرية (منطقة عفرين) عام 1989م، وكان يتمنى عودته للعمل في هذا الكهف نظراً لأهميته في دراسات ما قبل التاريخ.

طلب السيد الأسعد حصولنا على موافقة المديرية العامة للآثار والمتاحف بدمشق، وضرورة مقابلة الدكتور عدنان البني رئيس مديرية التنقيب من أجل ذلك. فقمنا بعدها بالتواصل مع الدكتور البني الذي كان يُنقِّب في اللاذقية وقتذاك، حيث زرناه في اليوم التالي، وحصلنا منه على الترخيص اللازم لعمل البعثة.

اقترح الأسعد علينا العمل في المدافن الجنوبية الشرقية والتي أعطت نتائج علمية باهرة، زاد من قيمتها تعاونه، وموظفيه معنا بشكل دائم، وتجلى ذلك بتقديمه كل أشكال المساعدة الممكنة، ومنها بيت الضيافة المجاور لمعبد بل، للنزول فيه. وقد لاحظنا أن مساعدته لا تقتصر على بعثتنا ولكنها كانت تطال البعثات جميعها التي تعمل في تدمر، التي لقيت نفس الاهتمام والعناية نفسها، ومنها: البعثة الفرنسية، البولندية، الألمانية. وساهم في تواصلنا مع طاقم هذه البعثات، وتبادل الخبرات العلمية معها، لتحقيق نتائج أفضل.

حضر السيد خالد الأسعد حفل افتتاح «معرض كنوز الآثار السورية القديمة» في اليابان عام 1977م، وهو أول معرض يقدّم الثقافة السورية القديمة لليابان، وقد تركت الثقافة اليابانية ونمط حياة الشعب الياباني انطباعاً جيداً لديه، كنّا نلمسه عند كل لقاء لنا به في سورية، حيث كان دائماً ما يخرج نيشاناً يعلّق على الصدر، ويحمل صورة زهرة، تم منحه إياه في اليابان أثناء افتتاح المعرض، وكان يفتخر به ويتحدث بعاطفة ومشاعر رقيقة عن اليابان، وقد أخرج هذا النيشان في آخر لقاء جمعني به في تدمر عام 2011م.

كنا محظوظين جداً لأن عملنا كان برفقة الأسعد منذ البداية عام 1991م، حيث اخترنا بناء على توجيهاته، التنقيب قي المدافن الجنوبية الشرقية، التي تم الكشف فيها عن ثلاثة مدافن، هي: (A) و (B) و (C).

أثناء العمل في المدفن (C) (مدفن يرحاي)، كان الأسعد يتردد إلى الموقع بشكل يومي، وقد أتاح له وقوع منزله قرب منطقة المدافن، المجيء بشكل دائم لمعاينة أعمال التنقيب وتقدّمها.

في نهاية السنة الأولى من التنقيب، عثرنا على نقش يوضّح أن يرحاي قد بنى هذا المدفن في سنة 108م، وقد كتب بأحرف تدمرية، وكانت هذه اللحظة من أكثر اللحظات الحاسمة في التنقيب، وأمضت بعثتنا أوقات رائعة مع السيد الأسعد. ولا يمكن أن أنسى ابتسامته الجميلة عندما رأى ذلك النقش الذي كان قد توقع العثور عليه قبل العمل.

في الموسم الثاني عام 1992م كشفنا عن مدفن مهم (F) لبولحا وبورحا الذي يعود تاريخه لعام 128م، وقد استمر العمل فيه حتى عام 1997م، وعثرنا على بعض النقوش وكانت سعادة الأسعد بالغة في الكشف عنها. وقد كانت لديه قناعة أنّ دراسة النقوش، يجب أن تجري في موقعها الذي اكتشفت فيه. لذلك، كان يتفحّص كل الحروف المنقوشة بنفسه وهو مبتسم وبغاية السرور.

في عام 2006م، بدأنا التنقيب في المدفن (B) الذي يعود تاريخه لعام 129م، وهو مدفن قريب من متحف تدمر في منطقة المدافن الجنوبية الشرقية، وكان وراء انتقالنا لهذا المدفن رغبة خالد الأسعد وتوقّعه بالعثور على أي أثر قد يخص الملكة زنوبيا. كان هذا الاقتراح رائعاً بالنسبة لي، للبحث عن مدفن جديد من أجل فهم عمليات الدفن التدمرية أكثر بعد التنقيب في مدفن (H) في عام 2004م.

وهكذا تعاقبت مواسم التنقيب حتى عام 2010م، وكان لاكتشافاتنا صدىً واسعاًً ومهماًً في اليابان، لاسيّما في الأوساط الأكاديمية، لأن معظم البعثات اليابانية السابقة التي كانت تعمل في سورية، كانت تهتم في الكهوف العائدة إلى العصور الحجرية القديمة، أو أنها كانت تعمل في مواقع إنقاذية (مشاريع حيوية تقيمها الحكومة السورية)، ولأن تدمر أحد المواقع المسجلة على لائحة التراث الثقافي العالمي.

وجاءت فِرَق عمل محطات تلفزيونية يابانية عدّة للتصوير في تدمر لكونها مدينة مسجلة على قائمة التراث العالمي، وقاموا بإجراء مقابلات عدّة مع الأسعد للحديث عن تاريخ تدمر والملكة زنوبيا، حيث كان يشرح ببلاغة وجدية عن هذا التاريخ، ويشعر بفخرٍ كبير لمشاركتنا في إظهار تاريخ بلاده.

لقد ساهم خالد الأسعد في تعريف العالم بآثار تدمر وبذل كل طاقته في سبيل خدمتها وخدمة وطنه، ولن ينسى اليابانيون دعمه للتعاون الثقافي بين سورية واليابان، لاسيما في مجال الآثار.

لحق خالد الأسعد بأصدقائه اليابانيين (د. جيرو أوريتا، د.شينجيرو كوداما، ود.تامايسو هيغوش) الذين رحلوا قبله، وأتمنى أن تلتقي أرواحهم جميعاً في السماء ليتحدثوا معاً عن تراث تدمر.

ونأمل أن يعود السلام قريباً إلى بلدكم الصديق، وأن نعاود بعدها زيارتنا وعملنا في تدمر، من أجل روح خالد الأسعد.

 

كريستيان دلبلاس، مسؤولة البعثة الأثرية الفرنسية في تدمر

في ذكرى خالد الأسعد: إلى وليد

عرفتُ خالد الأسعد في نهاية الستينيات أثناء المؤتمر الدولي التاسع لعلم الآثار الكلاسيكي الذي عقد في دمشق بين (11 و 20 تشرين الأول 1969م)، والذي شاركت فيه كعالمة آثار شابة، ضمن بعثة أفاميا في سورية. بعد عدة سنوات، استطعت أن أقدر بشكل أفضل ضيافته وكرمه أثناء البعثة التي قمت بها في إطار برنامج استئناف الأعمال التي كان قد بدأها هنري سيريغ والتي ترأسها فريزولس (جامعة ستراسبورغ الثانية). وخلال هذه البعثة، كان لي شرف الإقامة في بيت التنقيب الواقع في معبد «بل» قبل أي ترميم يجرى عليه، وقبل أن تمدد له خطوط الكهرباء، وهو بيت كان مظهره لا يزال يحتفظ بمظهر البيت العربي التقليدي.

وفي النصف الثاني من التسعينيات، استأنفتُ برامج سيريغ ـ فريزولس، وأصبحتُ مديرة البعثة الأثرية الفرنسية في تدمر (2001 ـ 2008م)، وذلك بفضل دعم مدير المركز الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى «IFAPO جان ماري دنتزر»، ومدير الدراسات الأثرية في المديرية العامة للآثار والمتاحف ميشيل المقدسي. وكان الهدف الأساسي للبعثة استئناف وإنهاء الأعمال التي كان هنري سيريغ قد بدأها (الأغورا والمسكن الكبير إلى الشرق من معبد بل)، وإنجاز الأطلس الأثري لتدمر، وتنقيب صرح جديد اكتشف خلال أعمال مسح، وهو يقع في القطاع الشمالي للمدينة القديمة، قرب الباب المسمى باب دورا، قرب متحف تدمر الأثري.

وهذا الصرح الجديد هو الذي أود الإشارة إليه هنا، في تكريم أخوي للمديرين المتتاليين للموقع، خالد وابنه وليد، وكان هذا الأخير معاوني في استكشاف الموقع بعد تقاعد أبيه.

هذا البناء (M10) ، ومخططه مستطيل الشكل وأبعاده كبيرة نسبياً تصل إلى 58 على 67 م، يبدو كخان ذي باحة داخلية محاطة بالدكاكين. أما الاختلاف الرئيسي فيكمن في منافذه، أكان نحو الخارج ونحو الباحة الداخلية، أو العرضية منها بين مختلف خلايا الدكاكين. ويشير وجود درج مرفوع في زاويته الجنوبية الشرقية إلى أنه كان يوجد منفذ إلى طابق علوي أو إلى شرفة تعلو جناحاً على الأقل إذا لم يكن مجمل البناء. ولا تسمح حالة الحفظ بالحسم بين هذين التفسيرين.

كان مجمل البناء موجهاً وفق خط الطريق الذي ينطلق من الشارع المعمد الكبير عند القوس المهيب، ويتجه نحو الشمال. وسمحت الأسبار التي قمنا بها بإرجاع بناء هذا الصرح إلى العصر السفيروسي، وهي الفترة التي شهدت توسع المدينة نحو الشمال.

ويشبه مخطط البناء مخطط الأبنية التي من هذا النمط، أكان في تدمر أم في مناطق أخرى. ونجد هذا المخطط نفسه في تدمر مع بعض التنويعات عليه، في الصرح القريب إنما ذي الأبعاد الأصغر، ويقع إلى الغرب من بنائنا (M202) .. وبالمثل فقد حررت البعثة السورية ـ البولونية مبنى يشبه كثيراً (Q281) في المقبرة الغربية، قرب القبر ـ البرج الخاص بالحبيل، والبعثة السورية الألمانية مبنى آخر مشابهاً في المدينة الهلّينستية الواقعة إلى جنوبي المدينة (N209) . وقد تم الكشف عن أبنية مشابهة في دراسة الصور الجوية التي أخذها الجيش الفرنسي في ثلاثينيات القرن الماضي. ويمكننا أن نذكر بموقع آخر في سورية وجد فيه هذا النمط هو موقع «دورا أوروبوس». والأمثلة نجدها أيضاً في آسيا الصغرى مثل الصروح في كورينثيا وبريجيه. إن هذه الصروح كافة ترتكز على نمط من الأبنية عرّفَتهُ كلير ده رويت على أنه النمط الثاني من type II du macellum، أي أنه نمط سوق الأغذية.

ففي تدمر، التي كانت مركزاً تجارياً بامتياز، يمكننا الافتراض أنه كان من الضروري تخزين المنتجات الخاصة بالتجارة على مسافات بعيدة، والمنتجات الفاخرة القادمة من الشرق الأقصى مثل الحرير والتوابل والحجارة الثمينة وشبه الثمينة، وذلك في بنى خاصة مناسبة قبل توزيعها في الدكاكين التي تبيع المفرق أو قبل أن يعاد تصديرها نحو الغرب، وخاصة نحو روما التي كانت مركز السلطة. الغريب أن النصوص الكتابية لا تذكر هذا التحويل نحو الغرب الذي يمكن أن يكون بين أيدي التجار القادمين من مدن أخرى، وخاصة حمص. إن الكتابات الوحيدة التي تذكر التجارة على مسافات بعيدة لا تذكر سوى العودة من الشرق الأقصى باتجاه تدمر.

لقد فقد هذا البناء التجاري الصبغة وظيفته مع بناء السور في عهد ديوقليسيان الذي قطعه عن صلاته مع القطاع الشمالي. مع ذلك فقد شهد البناء استيطاناً جديداً في العصر البيزنطي وفي بداية العصر الإسلامي عندما تم تحويله جزئياً إلى مقبرة. وحالات الدفن الأخيرة فيه حالات إسلامية بشكل واضح.

إن هذا النص المختصر مكرّس ومقدّم لخالد الأسعد، كما ولابنه وليد، الذي كان دائماً قريباً ومستعداً للمساعدة، وإلى عائلة الأسعد كلها. وأود بشكل خاص أن أشير إلى سيدتين من العائلة ربطت بيننا صداقة ثمينة هما فيروز وهدى.

 

أندرياس شميدت كولونيه، رئيس البعثة الآثارية الألمانية في تدمر

الشخص الذي لا يمكن العمل من دونه

إنه خالد الأسعد الذي صدمني – كما العالم – خبر مقتله بطريقة وحشية، من قبل أتباع ما يسمى «الدولة الإسلامية (داعش)» في تدمر، يوم الثامن عشر من شهر أب عام 2015م.

أمضى أبو الوليد، كما يدعوه أصدقائه، نحو أربعين سنة، مديراً لآثار ومتحف تدمر، نظم خلالها وأدار وأشرف على أعمال التنقيب والترميم والدراسات الأثرية في تدمر وما حولها، كقصر الحلابات، وقصر الحير الشرقي. كما أنجز عدّة مؤلفات وأبحاث علمية، وصدر بعضها بأكثر من لغة، وتتناول كلها تاريخ وحضارة مدينته تدمر، وقد حاز من خلالها على اعتراف دولي رفيع.

عرفناه إنساناً عاشقاً لعمله ولمدينته، دؤوبٌ ومتفانٍ في مساعدة الآخرين، ولاسيما بعثات التنقيب الأثري، الذين جاؤوا من أنحاء العالم كله، من: بولندا، وفرنسا، وألمانيا، واليابان، وإيطاليا، والنرويج، والولايات المتحدة الأمريكية، وكان موضع احترام وتقدير جميع الأعضاء فيها، وهذا ما ساعدهم في الكشف عن الحضارة الغبرة لهذه المدينة.

ألتقيت بأبي الوليد لأول مرة في عام 1976م، عندما في رحلتي التي شملت جميع الدول الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، بعد حصولي على منحة دراسية من معهد الآثار الألماني (DAI) ، بعد انتهاء دراستي الجامعية. في ذاك اللقاء شجعني الأسعد على دراسة أطلال تدمر ووعد بتقديم الدعم الممكن كله، ولم يكن لدي أدنى تصور أنه من الممكن لي أن أبدأ مشروعاً للتنقيب في تدمر جنباً إلى جنب مع خالد الأسعد. وقد تحققت الفكرة بعد خمسة أعوام، عندما تم افتتاح فرع جديد لـ DAI في دمشق عام 1980م. منذ ذلك الوقت وعلى مدى ثلاثين سنة كنت أقضي كل عام نحو شهرين في تدمر. بدأنا العمل المشترك عام 1981، وكانت البعثة بإدارة خالد الأسعد، وقمنا بتنقيب المدفن رقم 36، الذي يقع في وسط وادي القبور، وقد تم نشر النتائج في وقت لاحق. ثم درسنا المنسوجات التدمرية وكيفية ترميمها وتقديمها للجمهور، وكذلك قمنا بدراسة مقالع تدمر، ثم أعدنا التركيز على دراسة تدمر في فترة ما قبل الرومانية والهلنستية. وقد ساعدنا في أنجاز هذه الأعمال الأثرية والعلمية، بعض الزملاء من سورية وخارجها.

لقد أدار أبو وليد البعثة وأعضائها، وما يزيد عن ثمانين عاملاً (تم اختيارهم من جميع أسر تدمر) كانوا يبدؤون العمل منذ ساعات الفجر الأولى، وحتى الظهيرة، تحت أشعة شمس حارقة كانت تزيد في بعض الأحيان عن 45درجة مئوية في الظل. وكان يتابع بشغف كبير، وضع الجميع ويعمل على تأمين المستلزمات التي تخفف عناء العمل، بما في ذلك ماء الشرب والخيم، التي يلجأ إلى ظلها الجميع للتمتع بشرب الشاي في أوقات الاستراحة. كما حرص على تأمين أدوات العمل كلها اللازمة للحفر والتوثيق والتصوير، وكذلك تأمين الراحة وكل حاجة ممكنة لأعضاء البعثة، بما في ذلك بيت الضيافة القديم، الواقع في حرم معبد «بل».

لقد كان ينجز هذه الأعمال كلها، بلهجة ودية لا ينقصها الحزم الشديد عند اللزوم. وعندما أصبح (أنا أبو يونس الألماني) عصبي المزاج في بعض الأحيان، سرعان ما كان يتدخل ويعمل على تهدئتي طالباً مني التحلي بالصبر. وكان دائما ما يدعو البعثة إلى ضيافته في منزله، ويقيم وليمة تكريم لأعضائها، حيث كانت قمة المتعة التي لا يمكن أن ينساها أي عضو فيها.

كان وجود خالد الأسعد يجعل كل شيء ممكناً من أجل تدمر، وهذا ما جعلنا نصبح ليس فقط زملاء وأصدقاء أعزاء للغاية، بل أخوة بكل ما للكلمة من معنى. ومن الصعب تصور العمل أو الحياة في تدمر من دونه، ولهذا: فسوف نبقى نذكره، أنا وأسرتي، دائماً، وسنحافظ على ذكراه في قلوبنا، هو وأفراد أسرته، ومدينته ووطنه.

 

اكتشف سورية

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.