مرصودة ” عبارة اعتاد الحمصيون ترديدها عندما يلتقي شخصان بالمصادفة وكان أحدهما يفكر في الآخر قبل لحظة اللقاء، وثمة وقائع تُروى عن صحة هذه الظاهرة التي يتطلب فهمها دراسة وتحليل عناصر الاجتماع والثقافة الشعبية التي أنتجتها وعلاقة هذه الظاهرة مع نسق الرموز السائدة في الماضي ، غير أن للرصد في مدينة قصة أخرى ومعنى مختلفاً عن رصد المصادفات الغريبة، فهذه المدينة المدمرة اليوم كانت تكاد تنفرد بين مدن العالم بأن العقارب لا تدخلها ولا تعيش فيها، ويعود ذلك إلى أسطورة شعبية شائعة في المدينة تتلخص في أنه كان لملك من ملوك ابنة وخشي أن يلدغها العقرب فبنى لها برجاً عالياً تقيم فيه ، ويأتيها فارس كل يوم بطعامها فيناولها إياه من على ظهر فرسه ، وفي أحد الأيام حمل لها الفارس عنباً وكان قد اختبأ بين حباته عقرب فلدغها وماتت الأميرة على الفور ، ويُروى أن الملك حزن حزناً شديداً على موت ابنته وقام بعمل رصد ولجم للعقرب ومنذ ذلك الحين خلت المدينة من العقارب .

 

بدأت صلة حمص بالعقرب- كما يذكر الباحث د منذر الحايك لـ”وطن” منذ عصور التاريخ السحيقة عندما شخّص الفنانون في منطقتنا العقرب في منحوتاتهم كرمز لربة القضاء والقسم التي تتضمن صفات القوة الحربية، ويُعتقد أن عبادة العقرب في المنطقة -كما يضيف الحايك – هي امتداد طوطمي من الرموز القبلية البدائية وقد استمرت هذه العبادة رغم سيطرة الآلهة الكبرى كـ ” أيل” مثلاً ويرى البعض أن الآراميين في وسط سورية أخذوا عبادة العقرب عن بلاد الرافدين حيث عُرف فيها منذ فترات أقدم من ذلك .

14572201_709357305888680_2104951252685282831_n-768x579

وقد ظهر العقرب بكثرة في النقوش الآرامية ويحتفظ متحف حمص بجرار آرامية نُقش عليها صف من العقارب وفي الفترة الهلنستية انتشر العقرب كرمز في كثير من المنحوتات التي تعود إلى ذلك العصر في منطقتنا مزاحماً محلياً قوياً للرموز والآلهة اليونانية بينما نجد الشمس المجنَّحة قد حلَّت مكانها في المنحوتات الرومانية وذلك لأن حمص كانت مركز عبادتها وبها معبدها الأكبر ومنها انتشرت على كامل الإمبراطورية ومع ذلك لم تنعدم كلياً رموز العقرب في المنحوتات الرومانية في المنطقة ، وخلال العصر البيزنطي ومع انحطاط الذوق الفني للمنحوتات وظهور رموز مسيحية فيها كالصليب ظل العقرب يظهر كشكل تزييني مع بعض الكتابات المحلية . وفي باحة الجامع النوري الذي يتوسط مدينة حمص القديمة ناووس من الحجر البازلتي الأسود وعلى الناووس نقش يمثل عقربين متواجهين حول كرة كأنها الأرض ، ولابد أن النقش يعود إلى زمن أبعد من زمن بناء الجامع وهو تجسيد لإحدى أساطير حمص الحية التي تقول أنها مرصودة ضد العقرب لا تدخلها ولا تعيش فيها وهي أسطورة يؤكدها الواقع الذي لم يُرَ فيه عقرب واحد عبر قرون .

14591804_709357315888679_4745242247658033654_n-768x576

ويذهب الخوري عيسى اسعد المتوفى عام 1949 في كتابه( تاريخ حمص – ج 1 ) إلى تفسير عدم وجود العقارب بعدم ملائمة تربة المدينة لبيضها وثمة تفسير علمي آخر يرد هذه الظاهرة إلى وجود نسبة عالية من مادة الزئبق في تربة حمص تطرد عنها العقرب.

14632940_709358245888586_6511159942731625554_n

أسطورة الطلسم

إذا كانت أسطورة الطلسم في حمص ترجع إلى جذور طوطمية من الرموز الدينية القديمة ، فإن من المدهش أنها ظلت صامدة أمام كل ما تعاقب على المكان من معتقدات ( وثنية – آرامية – يونانية – رومانية ) ولم تتوقف الأسطورة عن الحياة بعد ذلك سواء مع مجيء المسيحية أو دخول الإسلام وذلك لسبب بسيط كما تقول الدكتورة تغريد الهاشمي وهو أن الأسطورة متجسدة في الواقع ، فلا حقاً في حمص ولعل ذلك في حد ذاته يدعم القول بطيبة الشخصية الحمصية التي هي برغم ما بها من عناد ومباشرة صادمة أحياناً أبعد ما تكون عن أية ملامح للغدر والمؤامرة والالتفاف واللدغ التي تتسم بها العقارب وربما يفسر هذا سبب انتفاء أي وجود يهودي في حمص عبر التاريخ .

 

ويربط السيد عامر البارودي انتفاء وجود العقارب في حمص بكثرة وجود أضرحة وقبور الأولياء والصالحين حيث لا يكاد يخلو حي قديم من وجود ضريح أو مقام لولي أو صحابي جليل ويضيف قائلاً : كلنا يعرف أن القائد البطَّاش تيمورلنك عندما مر بمدينة حمص لم يدخلها ليمارس فظاعاته في أهلها ومنشآتها كما فعل في المدن السورية الأخرى كدمشق وحماة وحلب واللاذقية بل يُقال أن تيمورلنك وهب هذه المدينة لضريح الصحابي سيف الله المسلول خالد بن الوليد وهذا يفسر المكانة الرمزية التي تمثلها الأضرحة والمقامات في حياة الناس والمدن .

 

فيما يرى الشاب ملهم رسلان – طالب جامعي أن أغلب أنواع العقارب تعيش في الجبال والسواحل أو الأماكن المقفرة ونادراً ما تدخل هذه الكائنات المخيفة المدن خاصة إذا كانت هذه المدن منخفضة مثل مدينة حمص وهناك تفسير علمي يقول إن تربة حمص عالية التركيز بمادة الزئبق وهذه المادة هي العدو الأول للعقارب وهو تفسير أقرب إلى الحقيقة أما ربط هذه الموضوع بدلالات رمزية أو دينية فهو مجرد اعتقادات شعبية أو أسطورية لا يسندها أي دليل علمي واضح .

 

وتعقب الشابة الشاعرة قمر صبري الجاسم أن “العقارب كائنات تتسم باللؤم والغدر والالتفاف ولذلك شاع المثل الشعبي الذي يقول ” جنب الحية افرش ونام وجنب العقرب لا تقرب ” وهذا يفسر باعتقادي عدم وجود عقارب في مدينة مثل حمص يتسم أبناؤها بالطيبة والسماحة والنقاء .

 

أقوال الرحالة والمؤرخين :

أكد ظاهرة الطلسم في حمص كل الرحالة والجغرافيين العرب والأجانب الذين أرخوا لمدينة حمص أو تناولوها في مؤلفاتهم ورحلاتهم ومنهم ( ابن الفقيه ) في مؤلفه كتاب البلدان الذي يقول ( ومن عجائب حمص صورة على باب المسجد على حجر ابيض أعلاها صورة إنسان وأسفلها عقرب ، فإذا لدغ العقرب إنساناً فأخذ طيناً ووضعه على تلك الصورة ثم أراقه بالماء وشربه سكن وجعه وبرأ من ساعته ، ويُقال أن تلك الصورة طلسم للعقرب خاصة )

 

وقال الأصطخري في كتابه ( مسالك الممالك ) ” مدينة حمص ليس فيها عقارب ” وذكر الشريف الإدريسي في كتابه ” نزهة المشتاق ” مدينة حمص مطلسمة لا يدخلها عقرب ومتى دخلت على باب المدينة هلكت في الحال ويُحمل من ترابها إلى سائر البلاد فتوضع على لسعة العقرب فتبرأ ”

 

ويقول القزويني في كتابه عجائب المخلوقات ” لا يكاد يُلدغ بها عقرب وإذا غسل ثوب بماء حمص لا يقرب عقرب لابسه ”

 

و كتب ياقوت الحموي في كتابه ” معجم البلدان ” ومن عجائب حمص صورة على باب مسجدها إلى جانب البيعة على حجر ابيض أعلاه صورة إنسان وأسفله صورة العقرب ، إذا أُخذ من طين أرضها وختم على تلك الصورة نفع من لدغ العقرب منفعة بينة وهو أن يشرب الملسوع منه بماء فيبرأ لوقته ، ويؤكد ابن الشحنة في كتابه ( الدر المنتخب في تاريخ حلب ) أن العقرب لا يقرب ثياب الحمصي وأمتعته مادام عليها من غبار ترابها .

 

وأشار الشيخ عبد الغني النابلسي إلى رصد العقارب في حمص في كتابه ( الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز ) بقوله : يقولون في حمص طلسم العقرب إذا اُخذ من ترابها يُحمل منه إلى البلدان حتى أنشد فيها بعض الأحباب :

لي ظبي من حمص هيفا فاتني ربرب

طلبت تقبيل خده قال لا تقرب

يلسعك عقرب عذارى قلت : ذا أغرب

ألسع وفي حمص قالوا : طلسم العقرب