تاريخ التصوير الفوتوغرافي في القدس
بدر الحاج
بعد حوالي ثلاثة أشهر من إعلان فرانسوا أرغو، زعيم الحزب الجمهوري الفرنسي، في 19 آب 1839 أمام الجمعية الوطنية الفرنسية عن اكتشاف التصوير الشمس وشراء الحكومة الفرنسية لهذا الاكتشاف من السيد داغير وتقديمه هدية للإنسانية، التقطت أول صورة فوتوغرافية في المنطقة العربية بحضور محمد علي باشا في مدينة الإسكندرية وذلك في الرابع من تشرين الثاني 1839 .
أكد أراغو في خطابه على أن الاختراع الجديد: ((يكون له الفضل في تسجيل عجائب الشرق، وسيسهم في تقدم العلوم خاصة علم الآثار الذي كان يتطلب أكثر من عشرين سنة وعشرات المنقبين والاختصاصيين لنسخ ملايين الرسوم والحروف الهيروغلوفية في حين أصبح باستطاعة مصور واحد إنجاز هذا العمل بسرعة قصوى)) .
ومنذ التقاط الصورة الأولى في الإسكندرية، دخلت المنطقة العربية مرحلة جديدة من التوثيق البصري، وأخذ مئات المصورون بالتدفق على مصر وسورية، والتقطت آلاف الصور للمعابد والهياكل القديمة وللمدن والقرى، وسجلت عدسات المصورين الأزياء والأشكال الهندسية، ولاقت تلك الصور رواجاً كبيراً في السوق الأوروبية، لدرجة أن بعض المؤرخين المعاصرين شبهوا أثر تلك الصور بالصور التي يجلبها حالياً رواد الفضاء إلى الأرض .
أما عن الصورة الأولى في الإسكندرية، فينقل لنا المصور الفرنسي فريدريك غوبيل فيسكه الذي كان يقوم بزيارة لمصر وسورية برفقة الرسام هوراس فيرنيه، وصفاً جميلاً لتلك اللحظات التاريخية، ويذكر كيف أنه أقنع محمد علي باشا بأن آلة الداغيروتيب التي يحملها تستطيع التقاط صور لشتى المناظر، فيقول:
((.. وجه محمد علي مشحون بالاهتمام، عيناه تكشفان –على الرغم منه – حال من الاضطراب ازدادت عندما غرقت الغرفة في الظلام استعداداً لوضع الألواح فوق الزئبق، خيم صمت مقلق ومخيف علينا. ولم يجرؤ أحد منا على الحركة أبداً، وأخيراً انكسرت حدة السكون باشتعال عود ثقاب أضاء الأوجه البرونزية الشاخصة، وكان محمد علي الواقف قرب آلة التصوير يقفز ويقطب حاجبيه ويسعل .. وهي عادة قيل لي أنها تحدث له عندما يفاجأ بحركة ما. وقد تحول نفاد صبر جلالته إلى تعبير محبب للاستغراب والإعجاب. صاح “إنه من أعمال الشيطان”. ثم استدار على عقيبه وهو ما يزال ممسكاً بمقبض سيفه الذي لم يتخل عنه ولو للحظة، وكأنه يخشى مؤامرة سرية أو تأثيراً غامضاً .. وأسرع مغادراً الغرفة دون تردد)) .
من الإسكندرية انتقلت أول بعثة تصويرية فرنسية في مطلع شهر كانون الأول باتجاه سورية مروراً بالعريش وغزة والخليل والناصرة ثم القدس، والتقطت أول صورة للمدينة، ونشرت الصور مع صور أخرى في كتاب صدر في باريس سنة 1841 .
وخلال القرن التاسع عشر فقط نشط أكثر من ثلاثمائة مصور في مصر وبلاد الشام، وكان معظمهم من الفرنسيين والبريطانيين، وبعض الألمان والأمريكيين .
وفي لمحة سريعة على نشاطات أبرز المصورين الذين سجلوا بواسطة عدساتهم مدينة القدس، يبرز اسم الخبير في العمارة الإسلامية جوزيف دو برانغي الذي التقط صوراً للقدس العام 1844 في إطار جولته في بلدان حوض البحر المتوسط، وتعتبر صوره من أندر وأقدم اللقطات للمدينة .
وفي العام نفسه وصل القدس البريطاني الكسندر كيث والتقط ما يقارب الثلاثين صورة بأسلوب داغيروتيب، وكان هدفه، كما يقول، دراسة الصلة بين ما ورد في الكتاب المقدس وجغرافية الأراضي المقدسة، وهذا ما استفاض في شرحه في كتابه (براهين على حقيقة الدين المسيحي) الذي طبع للمرة السادسة في لندن العام 1848، وتضمن ثماني عشرة صورة.
وفي العام 1849 التقط البريطاني كلود بوس ويلهاوس أول صورة طبعت على الورق في منطقة حوض المتوسط ومن بينها صور لمدينة القدس .
تعتبر صور ويلهاوس التسعون التي التقطها في البرتغال ومصر وسورية واليونان من أندر الصور، وقد احترقت الأفلام التي التقطها ويلهاوس في حريق شب العام 1879 في لندن، ولم يبق منها سوى نسخة واحدة تحتفظ بها الجمعية الملكية للتصوير في مدينة باث البريطانية .
وكان جيمس غراهام أول مصور مقيم في القدس، فقد شغل منصب سكرتير جمعية بريطانية كانت تهدف إلى تنصير اليهود المقيمين في فلسطين، وافتتح غراهام استديو في القدس في مطلع الخمسينيات من القرن الميلادي الماضي، والتقط العديد من الصور في كل من فلسطين وسورية .
وفي الثامن من شهر آب 1850، وصلت القس بعثة فرنسية تضم المصور ماكسيم دو كامب يرافقه الكاتب غوستاف فلوبير، والتقط المصور اثنتي عشرة صورة لمدينة القدس، وقد نشرت الصور في كتاب خاص في باريس سنة 1852.
وهناك أيضاً الأسقف البرت اسحق والأسقف جورج بردجيز اللذان التقطا صوراً عديدة للقدس ويافا ومدن الساحل وكذلك المصور بيتر بيرغهايم الذين شملت جولاته فلسطين ودمشق وبعلبك .
إلا أن أبرز المصورين البريطانيين على الإطلاق في تلك الفترة هو فرنسيس فريث الذي قام بثلاث رحلات إلى مصر وسورية خلال الأعوام (1859-1860) وأصدر مجموعة من الكتب المصورة عن رحلاته هذه لاقت رواجاً كبيراً لدى الجمهور الفيكتوري في بريطانيا .
تضمنت كتب فريث المصورة شرحاً مفصلاً للأماكن التي زارها، وكان النص الذي كتبه مشبعاً بالروح الاستعلائية الشوفينية أسوة بالنصوص التي كتبها قبله الرسام دايفيد روبرتس والواقع أن النظرة البريطانية الرسمية كانت مشابهة لنظرة فريث، وقد عبر عنها بوضوح السياسيون البريطانيون أمثال ملنر وكيرزن .
اختار فريث مصر وسورية حقلاً لتجاربه المصورة باعتبارهما ((أبرز مكانين على الكرة الأرضية) كما ذكر في مقدمة كتابه “مصر وفلسطين”. وكان فريث يدرك الأهمية التاريخية والدينية للمنطقة بالنسبة للجمهور البريطاني وكذلك الأهمية التجارية باعتباره كان صاحب مؤسسة تجارية آنذاك، وقد ذكر أيضاً في مقدمة كتابه أن القصد من جولته كان تسلية الجمهور بإبراز عجائب الشرق وآثاره .
وبعد زيارتين لمصر وسورية في أيلول (سبتمبر) 1856، وتشرين الثاني (نوفمبر) 1856، أدرك فريث نتيجة لتجاوب مع كتابه “مصر وفلسطين” أنه لا بد من التقاط المزيد من الصور وتسويقها تجارياً على نطاق واسع في أوروبا وأمريكا لذلك قام برحلته الثالثة العام 1860 .
ونشرت مؤسسته خلال النصف الثاني من القرن الماضي آلاف الصور عن مصر وسورية واستعملت هذه الصور في العديد من الكتب المصورة التي صدرت عن المنطقة، وأشار فريث في مقدمة كتابه “مصر وفلسطين” إلى الأهمية التاريخية للصور التي التقطها بقوله ((.. ويمكنني القول مع التأكيد على القيمة الكبيرة للصور الفوتوغرافية الجيدة عن الآثار والتحف الشرقية، أن يد التغيير السريع تصيب الكثير من المعالم البارزة، بالإضافة إلى أنياب الزمن القاسية والرياح الرملية التي تهب بلا انقطاع، فإن المعابد والمقابر معرضة دائماً لعمليات السلب المستمرة وحكام الأقاليم يأخذون الأحجار المصقولة الضخمة والفلاحون يستولون على ما يتوافر أمامهم من أحجار الآجر. وبينما يعمد السياح من كل الأمم إلى كسر ما يقع تحت أيديهم وهو لا شك الأجمل من الناحية الهندسية والمعمارية ويأخذونه إلى بلادهم)).
جاءت جولات فريث في مصر وسورية مع بدء مشروع حفر قناة السويس الذي دفع البريطانيين إلى الإسراع في تركيز اهتمامهم على القاهرة بدلاً من استنبول، وكانت مصر في تلك الفترة تدخل مرحلة تغيير جذرية، حيث أفسح حكم سعيد باشا الذي تثقف في الغرب المجال واسعاً أمام الغربيين وبدأت العادات والتقاليد المحلية بالتراجع أمام الغزو الغربي، وقد أشار فريث في مقدمة كتابه إلى تلك التطورات .

وكان المصور الفرنسي أوغسست سالزمان قد كلف في العام 1855 من قبل وزارة التربية الفرنسية مهمة وصفت بأنها “علمية تمدينية” وقام بدراسات تصويرية في القدس جوارها حيث التقط ما يقارب 174 صورة طبع بعضها في كتاب صدر في باريس سنة 1856. وقد نال المصور جائزة ذهبية للقطاته البانورامية لمدينة القدس، وذلك في معرض باريس الأول للتصوير، وهناك عدد آخر من المصورين الفرنسيين البارزين التقطوا صوراً لمدينة القدس أمثال لويس دوكلارك، ودوق دولين .

وبدوره أيضاً كلف لويس دوكلارك العام 1859 من قبل وزارة التوجيه العام الفرنسية القيام بدراسات تصويرية في سورية ونشر بعد إنجازه المهمة أربعة كتب بعنوان “رحلة إلى الشرق” وأفرد كتاباً خاصاً عن مدينة القدس، ولا تختلف صور دوكلارك عن صور دوكامب أو سالزمان من حيث الموضوع، لكنها تتميز من حيث شمولها مناطق عديدة لم يسبق لأحد أن صورها .
إن أكبر كمية للصور التي التقطت في مدينة القدس كانت من قبل مؤسسة بونفيس لصاحبها فيلكس وابنه أدريان بونفيس. قدمت عائلة بونفيس إلى لبنان العام 1867 وأقامت استديو للتصوير في بيروت والتقط ما يقارب الخمسة عشر ألف صورة في لبنان وفلسطين وسورية ومصر وتركيا واليونان، وقام بونفيس بتسويق صوره على نطاق واسع، وواصلت المؤسسة عملها منذ مطلع الستينيات في القرن الماضي، حتى مطلع القرن الجاري، وكانت لها فروع في دمشق والقدس والقاهرة .
من ناحية أخرى شكلت زيارة الأمير ادوارد ولي عهد بريطانيا إلى مصر وسورية واليونان في مطلع العام 1862 بداية للدراسات الاستشراقية البريطانية. ورافق أمير ويلز في جولته تلك المصور فرنسيس بيدفورد الذي كان مقرباً من العائلة البريطانية المالكة، والتقطت خلال الزيارة 172 صورة، أقيم لها معرض خاص في لندن بتشجيع من العائلة المالكة .
وفي مطلع الستينيات من القرن الماضي كان الاهتمام البريطاني الإستراتيجي منصباً على “الأراضي المقدسة” بهدف احتلالها مادياً، وسبق الاحتلال تكثيف “المعرفة البريطانية” بالمنطقة وظهرت أول دراسة رسمية بريطانية مصورة عن القدس العام 1865، بعد أن عمل فريق عسكري تابع لسلاح الهندسة البريطانية بإشراف الضابط شارك ولسون على رسم الخرائط والتقاط الصور للقدس وجوارها .
أثار نشر الدراسة المصورة عن القدس اهتماماً كبيراً في أوروبا، وسارعت مؤسسات عديدة إلى إرسال “بعثات علمية” إلى معظم مناطق سورية. وتأسس في لندن العام 1865 “صندوق استكشاف فلسطين” وتوزع العسكريون البريطانيون التابعون لهذا الصندوق في سورية وبدءوا إعداد الخرائط والتقاط آلاف الصور .
وكان الهدف المعلن لهذا الصندوق كشف الماضي وإجراء دراسات أثرية وجغرافية، وبالفعل مول مثقفون توراتيون مشروع استشكاف شبه جزيرة سيناء بهدف “تثقيف تلامذة العهد القديم، ومعرفة الطرق التي سلكها اليهود أثناء خروجهم من مصر” .
بدأ المشروع في شتاء 1868 وأنجز العام 1869، وطبعت الصور في ثلاثة مجلدات ضمت نصوصاً عن جغرافية سيناء وقبائلها وأزهارها حيواناتها وتجدر الإشارة إلى أن البعثة البريطانية التي ضمت ضباطاً من سلاح الهندسة بقيادة بالمر كانت على اتصال مباشر بوزارة الحربية البريطانية .
وفي الوقت الذي كانت تتم عملية المسح الجغرافي الاجتماعي لسيناء، كان ضباط تابعون للبحرية البريطانية يقومون بعملية مسح مماثلة للشاطئ من العريش إلى الإسكندرون .
وفي عمليات المسح البريطانية المكثفة التي تواصلت خلال النصف الثاني من القرن الماضي، التقطت آلاف الصور عن المنطقة، وأرشيف هذه الصور محفوظ في “صندوق استشكاف فلسطين” في لندن، وتعتبر هذه المجموعة من أضخم المجموعات المصورة عن المنطقة، وهي تشمل صوراً لقرى ومدن وهياكل وحفريات أثرية مختلفة .
لقد أسهم “صندوق استشكاف فلسطين” مساهمة كبرى في تعميق “المعرفة البريطانية” بالمنطقة، وكانت الخرائط التي أعدت بحجة “كشف الماضي” في الواقع، خرائط مستقبلية للمنطقة، استعملها الجنرال اللنبي خلال هجومه على الأتراك ودخوله القدس العام 1918 أثناء الحرب العالمية الأولى .
وهكذا توضحت “الأهداف العلمية” للبعثات البريطانية، مع التأكيد على أن كتابات الضباط الذين أشرفوا على عمليات المسح كانت من صلب الاتجاه الأيديولوجي القائل بتطوير فلسطين وإفساح المجال لليهود للقيام بذلك .
لقد حملت الصور الفوتوغرافية التي التقطت في النصف الثاني من القرن الماضي قيماً فنية معينة، وذلك على الرغم من انشداد معظم المصورين الأجانب إلى النواحي الفولكلورية والانتروبولوجية التي كانت تجد لها رواجاً كبيراً في السوق الغربية .
وعلى أية حال، ليس بالإمكان فهم محتوى وقيمة الصور الشمسية التي التقطت في القرن الماضي بمعزل عن وضع المنطقة العربية الاستراتيجية في تلك الحقبة، وما رافقه من حدة في التنافس بين الدول الغربية بهدف السيطرة والاستعمار .
دخل فن التصوير الشمسي بلادنا في ذروة التنافس الغربي، البريطاني – الفرنسي بصورة خاصة، لاقتسام تركة (الرجل المريض) الإمبراطورية العثمانية، وكانت غزوة نابليون لمصر وسورية العام 1898 شكلت بالنسبة إلى الأوروبيين بداية مرحلة جديدة من النشاط الاستعماري في المنطقة العربية عبر عنها الكاتب الفرنسي فيكتور هيغو أفضل تعبير في مقدمة كتابه(LES ORIENTALS) الذي طبع في باريس سنة 1829 بقوله : ((القارة كلها تتجه نحو الشرق)) .
وبالفعل ومنذ غزوة نابليون، شهدت مصر وسورية تدفق مئات الرسامين وعلماء الآثار والعلوم الإنسانية والمصورين إضافة إلى العسكريين والسياسيين الذي تخفى بعضهم تحت ستار “البعثات العلمية” وقد شجع هذا الجو قيام المؤسسات الاستشراقية في المعاهد والجامعات الأوروبية ثم الأمريكية .
ولم يقتصر التنافس الغربي على الحقول “العلمية والدينية” فحسب بل تحول تدريجياً إلى احتلال عسكري، فقد احتل الفرنسيون الجزائر سنة 1830، وتونس 1881، والمغرب 1907، ناهيك بنزولهم العسكري في لبنان سنة 1860، أما البريطانيون فقد احتلوا بدورهم قبرص سنة 1830، ومصر 1882 ناهيك بعدن وساحل حضرموت ثم افتتاحهم لقناة السويس سنة 1869 .
في هذا الجو من التنافس بهدف السيطرة بدأت طلائع الإنتاج الفوتوغرافي للمنطقة العربية بالظهور. والرؤية النقدية لهذا الإنتاج لا يمكنها أن تتجاهل الجو المذكور، كذلك الأمر حين تقيم الإنتاج الأدبي أو اللوحات الفنية للمستشرقين الغربيين، لقد شجعت المدارس الفكرية الأوروبية نمو الإنتاج الفوتوغرافي وبصورة خاصة الرومنطقي منه التي انطلقت في بادئ الأمر من مجرد التشجيع على التقاط الصور الطوبوغرافية التي كان لها تأثير قوي على الرسامين المستشرقين، ثم تحول الوضع بعد حوالي ثلاثين سنة من ظهور التصوير الشمسي، إلى التقاط صور أخرى ذات مواضع مختلفة، لكن جميع المصورين عكسوا في إنتاجهم نظرتهم الاستعلائية ولم يتحرروا من عقدة النظرة الغربية إلى المنطقة حتى بعد وصولهم إليها وتجوالهم فيها .
وهناك عوامل أخرى أسهمت أيضاً في ازدهار التصوير الشمسي في المنطقة العربية منها إدخال السفن التجارية إلى الخدمة سنة 1840 فازداد نتيجة لذلك عدد السياح والحجاج، إلى المنطقة التي أصبحت أكثر فأكثر قريبة من أوروبا بافتتاح خط مرسيليا – الإسكندرية البحري ثم يافا وبيروت، ولذلك أعلن توماس كوك في لندن سنة 1868 عن تنظيم رحلات سياحية إلى مصر وسورية .
ومع انتقال عدد كبير من السياح الأوروبيين إلى المنطقة وتطور أساليب التصوير بحيث أصبحت أكثر سهولة للاستعمال، أخذت الاستوديوهات المحلية بالظهور في كل من بيروت والقدس ويافا والقاهرة، وتحول الإنتاج والتصنيع من أوروبا إلى المنطقة .
أخيراً لا بد من الإشارة إلى أن أول مدرسة لتعليم التصوير الشمسي كانت في مدينة القدس، فقد افتتح الأسقف الأرمني يساي غرابيديان المدرسة في أواخر الخمسينيات وتخرج منها مصورون ما لبثوا أن حلوا محل المصورين الأجانب وسيطروا على السوق التجارية في أواخر القرن الماضي ومطلع القرن الحالي .
والمعلومات المتوافرة عن غرابيديان أنه أمضى شبابه في استنبول ثم توجه إلى القدس العام 1844 حيث بدأ الدراسة وبقي في المدينة حتى العام 1859، وأمضى تلك الفترة في تجارب على التصوير الشمسي في كاتدرائية سانت جيمس للأرمن، وزار استنبول العام 1859 حيث أمضى أربعة أشهر تدرب فيها على أساليب التصوير وعاد إلى القدس، وتوجد الآن مجموعة من الصور التي وقعها العام 1860 تحتفظ بها الكنيسة الأرمنية في القدس، الأمر الذي يشير إلى أنه بدأ الإنتاج الفوتوغرافي في مرحلة متأخرة من العام 1859 .
وفي العام 1863 توجه غرابيديان إلى أوروبا حيث زار مانشستر ولندن وباريس وأطلع على أحدث الأساليب في صناعة الصور، وبعد عودته إلى القدس العام 1865 عين بطريركاً. إلا أن ذلك لم يحل دون مواصلة نشاطاته التصويرية، وقد أشار دليل باديكر (Baedecker) عن فلسطين العام 1876 إلى استوديوهات التصوير في القدس وكان من بينها (استديو الكنيسة الأرمنية الوحيد في المدينة)، كما يشير الرحالة الفرنسي جول هوش (jules hoche) العام 1844 إلى دور يساي غرابيديان في تدريس التصوير بقوله : ((في استديو البطريركية الأرمنية يدرس يساري غرابيديان بعض الشباب الأرمن من أنحاء الإمبراطورية علم التصوير، وخلال فترة توليه مهام البطريركية الأرمنية (1865 – 1885) ازدهر فن التصوير الفوتوغرافي في سورية وتفوق من بين تلامذة غرابيديان كل من غرابيد وكيفورك كريكوريان واللبناني خليل رعد. وكان كيفورك كريكوريان يعمل في استديو الكنيسة الأرمنية ويلتقط صوراً (بوتريه)، كان يطلق عليها اسم “صورة الهيئة” وكان يوقع صوره على الشكل التالي ((كريكوريان مصور شمس، القدس الكنيسة الأرمنية) .
إن الأعمال الفوتوغرافية الأولى التي التقطت في المنطقة العربية نادرة جداً الآن، وكل مشهد في حال العثور عليه يصبح بحوزة المتاحف والمكتبات وأثمان هذه المشاهد النادرة باهظة جداً ويصل بعضها إلى آلاف الدولارات، لأنها سجل وثائقي مهم يصور المنطقة كما كانت عليه قبل حوالي قرن من الزمن. ولعل أبرز المصورين الذين أدركوا قيمة هذه الوثائق هو المصور أدريان بونفيس الذي عمل وعاش مع عائلته في بيروت، فهو في مقدمة ألبوماته المصورة بعنوان souvenir dorienta يلخص أهمية هذه الصورة بقوله ((كل شيء يبدو ثابتاً في الشرق حتى في التفاصيل الدقيقة، عشرون قرناً مرت دون أي تغيير في شكل أو ديكور هذه الأرض الفريدة، لذلك علينا العمل بسرعة للتمتع بهذه المناظر، فالتقدم سوف ينهي هذه المشاهد ويدمرها، والمدينة التي تدخل في كل منحى من مناحي الحياة سوف تنهي في هذه البلاد – كما أنهت في بلاد أخرى – خصوصيتها ..)

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.