الوقوف أمام الكاميرا قديماً يتطلب الرسمية في تعابير الوجه

توثيق ب«كاميرا كوداك» و«بولارويد» وانتظار تحميض الأفلام على «أحرّ من الجمر»

ذكريات التصوير مع أجمل أيام العمر

إعداد- حمود الضويحي

عندما تُمعن النظر إلى صورة قديمة وأنت تقلبها بين يديك حتماً تعيدك إلى الوراء بعدد سنين عمرها؛ لتتذكر تلك اللحظة التي التُقطت فيها، والتي غالباً ما تكون سعيدة، وتشعر معها أن الزمن قد توقف ليمنحك ذكرى جميلة تتجدد كلما أمعنت النظر إليها بين فترة وأخرى.

«صورة المدرسة» أول اختبار أمام «الفلاش» ثم «التابعية» و«الوظيفة».. وأخيراً تعليق «صورة الزواج» في المجلس

وها هو الوقت يمر سريعاً وتنطوي صفحات العمر ويتقدم الإنسان في السن ليبدأ يستعيد شريط الذكريات، خاصةً الجميلة والمحببة للنفس، يُقلب صفحات الماضي ويقارنها بالحاضر، حينئذ لابد له أن يستعين بذاكرة لا يمكن أن يمحوها الزمن، يتذكر أدق التفاصيل التي تحكي روعة المكان الذي التقطت فيه، وكذلك الأشخاص الموجودون.

عند الحديث عن التصوير فإنه لابد لنا أن نستكشف بداياته في بلادنا الذي لم يكن فيما مضى منتشراً وميسراً لكل من يريد، فقد شهد ظهور التصوير في عالمنا نوعاً من الدهشة التي ارتسمت على الوجوه وعلامات التعجب، فكيف لآلة صغيرة أن تحفظ أدق تفاصيل الشخص وتنسخها في ورقة صغيرة لا تتعدى حجم كف اليد؟، والإجابة الأكيدة هي توافد الرحالة والمستكشفين إلى بلادنا الذين جلبوا معهم كاميراتهم ونصبوها والتقطوا أوائل الصورة التي لازالت باقية إلى اليوم رغم رحيلهم عن الدنيا لعقود كثيرة من الزمن، وذلك من خلال إضافتها لكتبهم أو في معارضهم، حيث يعود الفضل إليهم في توثيق تاريخ حياة الناس في ذلك الوقت.


توثيق ذكريات جيل عاش أجمل أيام عمره

ولعل أول صورة التقطت في الجزيرة العربية هي صورة اللواء “محمد صادق باشا” الذي زار الحرمين الشريفين فالتقط صورة للمسجد النبوي عام 1277ه، أي منذ (158) عاماً مضت، وبعد ذلك توالت وفود الرحالة والمستكشفين إلينا يحملون معهم كاميراتهم البسيطة، فالتقطوا معظم معالم المملكة ووثقوها، وكذلك عدد من الأشخاص البارزين الذين غيروا وجه التاريخ وعلى رأسهم المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- حيث التقطت أول صورة له في عام 1910م في الكويت، وبعد توافد شركات البترول جلبت معها المهندسين والمصورين وشيئاً فشيئاً عرف الناس التصوير باحتكاكهم بهؤلاء الأجانب، ثم انفتح الباب على مصراعيه باستيراد تلك الكاميرات، وكان بعض مجالس البيوت يزين بصورة صاحب المنزل لتعلق على أحد جدرانه بعد وضعها في إطار.

عكس الصورة

ومن الأسماء الطريفة التي واكبت بداية تعامل الناس مع الكاميرا للتصوير أن الناس لم تكن تسمي الصورة بذلك بل كان لها اسم آخر وهو “العكس”، فإذا أراد أحد أن يلتقط صورة لشخص آخر فإنه يقول له: “أبعكسك”، ويقول للصور: “عكوس”، ولعل هذه التسمية جاءت من تفسيرهم لعمل الكاميرا حيث تعكس ما تراه فتصوره على هيئته.

وبرع عدد من الناس -خاصةً المتعلمين- في “تحميض” الصور في المنزل، حيث يتطلب ذلك شراء العدة اللازمة، وهي مادتين سائلتين الأولى تسمى “تحميض”، حيث يعمل الشخص بغمس الصورة في مكان مظلم وبعد دقائق يغمسها في السائل الآخر الذي يسمى “مظهر”، وبعد دقائق يُخرج ويُجفف الصورة، وبعد لحظات يُطلعها إلى النور، فيجد أن الصورة قد ظهرت وبانت معالمها شيئاً فشيئاً حتى تكتمل وهكذا.

«لا يحترق الفيلم» جعلت السياح «يحمضّون» الصور قبل العودة للوطن.. وكلٍّ يشوف نفسه أمام «أخوياه»

صور شمسية

من شواهد التصوير التي لا يمكن أن تنسى تلك الصور الخاصة بالتسجيل في المدارس قبل نحو نصف قرن من الزمن، إلى جانب ما كان يُطلب من خريجي المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية من إحضار صورٍ شمسية لوضعها في الشهادة، حيث كانت إدارات المدارس تعتبر ذلك شرطاً أساسياً للمتقدمين لاختبار إتمام الشهادة في جميع المراحل، ونظراً لأن “استديوهات” التصوير لم تكن متوفرة إلاّ في المُدن الكبرى فقد كان أصحاب القرى يجتمعون ويستأجرون سيارة أحد سكان القرية، والتي غالباً ما تكون “لوري”، فيذهب بالطلاب إلى المدينة لتصويرهم، حيث يأخذ على كل طالب مثلاً خمسة ريالات، فيذهبون إلى “الأستديو”، وكلهم يشتركون في التصوير ب”شماغ” و”عقال” أحد الطلبة الموسرين، وقد يكون لدى صاحب الأستديو شماغ وعقال للتصوير، فيلتقط لكل طالب صورة ومن ثم يعود بهم إلى القرية، وبعد أيام يشد الرحال إلى المدينة ويحضر الصور من الاستديو بعد تحميضها الذي قد يستغرق اليوم أو اليومين.

ومن الصور التي لا ينساها جيل الأمس ما يراه من صورة “راعي البيت” وهي مبروزة ومعلقة على حائط المجلس، حيث كانت تمثّل ديكوراً خاصاً، وشهادة إثبات على ما وصل إليه عمر الإنسان، وغالباً ما تكون الصورة مرتبطة بموقف مثل تجديد حفيظة النفوس “التابعية”، أو بداية المشوار الوظيفي، أو صورة الزواج الأول أو ربما الثاني!.


صورة في قلب تفنن المصورين في الاستديوهات قديماً

كاميرا فورية

وكانت الصورة في بداية انتشار الكاميرات مثل “كوداك” و”بولارويد” مزودة بفيلم كبير معه الصور، ولا تحتاج إلى تحميض، فبمجرد التقاط الصورة تخرج على شكل ورقة بيضاء بمقدار أصغر من كف اليد وسطح أحد وجهيها ناعم والآخر عادي، ولكي تظهر الصورة بوضوح يحركها المصور في الهواء لعدة ثوان، فتبدأ ملامح الصورة في الظهور شيئاً فشيئاً حتى تثبت وتظهر كلياً، وبعد فترة من الزمن وتقدم الصناعة وردت كاميرات بأفلام ذات حجم أكبر تستطيع التقاط ست وثلاثين صورة، وكان فيلمها صغيراً كحجم إبهام اليد لكنها كانت تحتاج إلى “تحميض” في “الأستديو”، ويتميز هذا الفيلم بحساسيته للضوء، حيث يفسد بمجرد تعرضه للضوء قبل لفه جيداً عند الانتهاء من التصوير، لذا كان كل من ينتهي من التصوير ولف الفيلم لا يخرجه إلاّ لدى محل التحميض لضمان سلامة الصور من الاحتراق، وكثيراً من الذين يقضون إجازاتهم خارج المملكة في تلك الفترة يحرص على تحميض أفلام كاميرته هناك قبل رجوعه للمملكة خشية تعرضها للضوء، فقد كان البعض يوثق رحلته بالصور ويروي أصحابه الأماكن التي زارها والمشاهير الذين التقاهم وصوّر معهم.


رحلة مدرسية في مرات منذ 50 عاماً

شماغ وباروكة

شهدت “استديوهات” التصوير في بداية انتشارها رواجاً كبيراً لكثرة المترددين عليها خاصةً من الشباب الذين يؤمونها لالتقاط صور فردية أو جماعية للذكرى، وقد تنافست تلك في تقديم كل جديد من “الديكورات” و”الخلفيات” وكذلك الملابس ك”الشماغ” و”الغترة” و”العقال” و”البشت”، بل إن بعضها أمّن “باروكة شعر” تسمى “قذلة”، وهي موضة يلبسها الشباب على رؤوسهم تحت الشماغ خلال التصوير لإخراج الشعر على الكتفين، كما كان بعض المصورين يتفنن بأن يخرج صورة ملتقطة من زاوية معينة ويعمل حركات على الصورة، كوضع اليد على الخد، أو الجلوس على كرسي فاخر، أو يضع خلفية توحي أن الشخص الذي التقطت له في مكان خارج البلاد كصور غابات وأشجار وأنهار وخلاف ذلك.

تصوير بالخدعة

بعد انتشار الكاميرات وسهولة الحصول عليها إمّا بالشراء أو إهداء الأهل، فقد صار الجميع يهوى التصوير، يصور اللحظات السعيدة التي تمر في حياته، ولكن كان هناك أحد الشباب الصغار الذي كانت هوايته غريبة، فقد كان يهوى تصوير كبار السن وكأنه كان ينوي أن يجعل من ذلك “أرشيفاً” سيكون له قيمة غالية مع مرور الزمن، خاصةً بعد رحيلهم عن هذه الدنيا الفانية، فبدأ بوالده وأقربائه ومن ثم جيرانه، خاصةً جيران محل والده الذي كان عبارة عن “ورشة” سيارات بسيطة، مما وفر له عناء البحث عن كبار السن الذين يتوافدون بين فينة وأخرى لإصلاح سياراتهم، فاستطاع أن يصوّر كل من أراد ولكن بقي واحد لم يتمكن من تصويره نظراً لهيبته ومكانته ألا وهو “رئيس النواب” أي “رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” ببلدته.

أعد الشاب خطة لتصوير “رئيس النواب” بالخدعة وجاء يوم تنفيذها كما أراد، فبعد أن كان في الورشة لوحده بعد أن ذهب والده إلى المنزل وأذّن المؤذن لصلاة الظهر لم يغلق المحل، بل بقي جالساً على الكرسي والكاميرا بيده، فمر رئيس النواب وتوقف وقال للشاب: “أغلق المحل الصلاة”، فلم يجب ولم يتحرك فضرب على منبه السيارة وكرر قولته، ولكن الشاب لم يتزحزح فغضب الرئيس ونزل من السيارة و”الخيزران” بيده وتوجه للشاب وهو “يزمجر” غاضباً ويقول: “ألم تسمع المؤذن؟، لماذا لم تغلق المحل؟”، ولما قرب منه أخرج الشاب الكاميرا والتقط صورة له وفر هارباً إلى داخل البيت الذي كان خلف الورشة بواسطة باب مرتبط بها وأغلقه، فغادر رئيس النواب غاضباً، لكن الشاب حقق أمنيته بتصويره، وبقيت هذه الصورة ذكرى جميلة لهذا الشيخ الذي فارق الدنيا منذ ثلاثة عقود من الزمن.


كاميرا أحد المعلمين توثق جلسة معلمين في المدرسة

مقابل مادي

وبرزت أهمية وجود الكاميرا والتصوير في بداية انتشارها في المواسم والإجازات وأيام الأعياد، حيث كانت ترصد التعبير عن الفرحة بقدوم يوم العيد، خاصةً عيد الفطر، وكان من يمتلك كاميرا في تلك الفترة من الزمن يعد من المحظوظين الذي ينم امتلاكه لها أنه إمّا صاحب دلال أو ابن أحد الموسرين الذين لا يبخل عليهم ذووهم بإغداق الهدايا، خاصةً هدايا النجاح، فتراه يمر من حول الناس وهو يتبختر في مشيته مفتخراً بكاميرته التي يلتقط بها الصور لإخوته وأصدقائه، ولكن هناك من كان يسعف حال الناس الذين لا يمتلكون كاميرا للتصوير، فقد استغل هذه الحاجة بالمتاجرة، فكان يعلن عن استعداده تصوير من يرغب بمقابل مادي كبير في تلك الفترة وهو خمسة ريالات للصورة، أو ربما عشرة لمن كان منهم جشعاً، وبالفعل فقد كان الشباب والأطفال يتهافتون على صاحبها من أجل حصولهم على صورة ترتسم فيها ابتسامة لا تفارق محياهم.

لن أدفع

وصاحب ظهور الكاميرات وانخراط الناس في عالم التصوير العديد من المواقف الطرائف ومنها أن أحد المصورين الشباب الذي كان في مناسبة العيد يعرض خدماته لمن يريد أن يصوره بكاميرته الفورية بمقابل خمسة ريالات للصورة، وبالفعل وجد الكثير من الزبائن وأثناء انهماكه في العمل اختلس أحد الشباب الكاميرا منه وصور صديقه، فلما انتبه صاحب الكاميرا طلب من هذا الذي التقط صورة لزميله أن يعطيه ثمنها فرفض بحجة أنه لم يتم تصويره، بل صور صديقه، فكيف يدفع له.؟، فاتجه إلى الشخص الذي صوره زميله فرفض، فذهب صاحب الكاميرا إلى والد الذي أخذ الكاميرا وصور زميله وطلب منه أن يعطيه مبلغ خمسة ريالات قيمة الصورة، فاستدعى ولده واستعلم عن الموضوع فلما سمع القصة قال لصاحب الكاميرا: “تريدني أن أدفع قيمة الصورة وأنت لم تصور ولدي، اذهب فلن أعطيك شيئاً”.

نسي الفيلم

وفي موقف آخر، استعار أحد الشباب كاميرا زميله لتصوير مناسبة خاصة فأعطاه الكاميرا، وبعد أن انتهى من التصوير أعادها إليه شاكراً، وقال له أخرج لي الفيلم كي أذهب به إلى الأستديو ل”أُحمضه”، فلما أراد لف الفيلم تفاجأ بأن الكاميرا فارغة حيث لا يوجد بها فيلم، فقال لصاحبه: “الكاميرا فارغة، ألم تضع داخلها فيلماً عندما أخذتها واستعرتها مني؟”، فقال: “لا، فقد ظننت أنك قد وضعت بداخلها فيلماً، فأنا لا أجيد ذلك، فقد كنت أصور فقط بالضغط على الزر كما علمتني عندما أريد التصوير، فلا خبرة لي بالكاميرات ولا بالتصوير”، عندها تحسر صاحبنا على تعبه في التقاط الصور وتخيل كل ابتسامة تصاحب “وميض” الفلاش عند التقاط الصور من أهله وأقاربه وهم ينتظرون صورهم في شوق ولهفة، وقال بصوت حزين: “يا سفاب التعب”.


صورة القلب «موضة» التصوير في استديوهات الثمانينيات هجرية

سيارة متعطلة ولقطة للذكرى

الكاميرا حاضرة في مناسبات الزواج

طريقة تركيب وفبركة الصور قديماً

عدد من الكاميرات التي كانت تستعمل قديماً

جلسة صفا في أحد المجالس القديمة منذ 50 عاماً

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.