2003082836.jpg

الشاعر فؤاد كحل بين النرجس والظلام

 يبدو لامعاً من الحزن ، يشرد وهو يسترجع زمناً مضى لا يظنّه سيعود، يصفعه الحنين كلما قصّ علينا فعلاً مضى، يومَ كان يجتاز قرى الساحل على قدميه فيدخلها بيتاً بيتاً وقرية قرية، لكنه ومذ بدأت الحرب، كان عليه أن يحمل معوله، لا ليزرع هذه المرة، بل ليقتلع النرجس الذي غرسته بيديها تلك الفتاة القادمة من الغاب (حماه) . في ذلك المساء، لم يكن هناك من قمر يبدّد ظلمة الليل وغضبه، أصرّت ابنة الغاب أن تغرس النرجس بيديها. كبُر النرجس وأضاء وبات يحيط بمنزله كما بات خيال تلك الفتاة يُحيط به اليوم. كان ذلك قبل أن يبدأ الخوف وقبل أن تبدأ العاصفة، قبل أن يشيخ الأطفال، وقبل أن تتحوّل البلد إلى مقبرة ونتحوّل معها إلى جثث نتوسّل من يسدل ستارة الجفون على عيوننا المفتوحة على الموت وعلى المشنقة وعلى فتاةٍ التهت بقشرة التفاحة عن والدها المُصاب وهو قبل لحظات فقط كان يهدهدها، قبل أن تنقلب السيارة وتنقلب معها الدنيا. هذه هي البلد، أشخاص التهوا بالقشرة فضاعوا وأضاعونا وأضاعوا البلد .

  يعيش الشاعر فؤاد كحل (1949) بين زمنين، زمن الحرب ضدّ إسرائيل (1973) وزمن الحرب السورية (2011) . في الحرب ضدّ إسرائيل، كان الشاعر ما زال ضابطاً، قاتل العدو في جبل الشيخ . يتذكّر في كل لحظة حياة وبطولات وذكريات رفاقٍ شاركهم البندقية والجبل وظل الشجرة وجرح الصخرة وبرودة الثلج وسخونة الدم المتدفّق في تلك الحرب التي كانت واضحة المعنى والهدف والطريق. في زمن الحرب السورية، يتجنّب فؤاد التنقّل بين الحواجز كي لا تلتقط أذنه في غفلة منه ما لا يرغب في سماعه. يجلس على التلّة ويتفرّج وينتظر، علّ العاصفة تهدأ، علّ الريح تكنس كل هذا العبث والجنون. علّ البلاد تعود إلى الروح. إلى ذلك الوقت، يتنقّل الشاعر بين مكتبته وأبطالها، يعيد قراءة نصوصه الشعرية، يشتمّ رائحة من عبروها في الماضي القريب عندما كانت الكلمات تنبع من ضفّة الخندق، عندما كان للكلمات حرارتها، وهجها، ألقها، بريقها. أما وقد بدأت العاصفة، فأنا أنزف دوماً وأسال نفسي دوماً : هل فعلاً أنا وُلدت هنا ؟ أشكّ أنني رأيت وجه بلدي يوماً، حتماً كان وجهها، لكنه كان وجهاً بملايين الأقنعة، يراودني الشكّ مرّات كثيرة أن هذه البلد لم تكن يوماً إلا قفصاً، لم تكن إلا مصيدة، لم تعد بلدي تلك الفتاة الجميلة التي نشير لها، لم يعد سكّانها أشخاصاً من لحم ودم، باتت جثّة نجرّها كلنا إلى المقبرة. أين ذهب كل هؤلاء الناس الذين كنّا نتحدّث معهم؟ نرتبط بهم؟ نبحث عنهم ؟ من سيكون قادراً على تجميع أجزائنا المبعثرة بعد كل ما حدث؟

يتنفّس الشاعر فؤاد كحل القصيدة لا يصنعها، ولأن القصيدة عنده هي فراشة وجدانه، فإنك ستصدّقه عندما يلقي قصيدته. ستصدّقه حتى لو رأيت طيور أحلامه تهبط ورأيت أجنحتها تتكسّر.

لم تكن القراءات النقدية لتجربة فؤاد كحل بمستوى الشعريّة لديه، كان النقّاد وما زالوا من راكبي الرغبة، جاؤوا على الدوام وهم يحملون الرغبة بتشكيلك كما يريدون هم لا كما أنت عليه في الحقيقة، لم يعثر على عين الناقد العبقريّ أو الناقد البريء ، ذاك الذي يصيح في لحظة الذروة  (الله ) . ربما لو تكرّس الشاعر فؤاد كحل إعلامياً لكان له دارسوه ومحبّوه ومتابعوه الكثر في أنحاء الوطن العربي، لكن فؤاد الشاعر (المنعزل بإرادته) قلّما التفت إلى النقّاد، إنه يلتفت إلى أشخاص لم يقرؤوا الكثير في حياتهم لكنهم يصدّقون ما يكتبه ويستمتعون عندما يقرأ لهم شيئاً من شعره، وتتملّكه السعادة، كلّ السعادة، عندما يقرأ شخص ما قصيدة من قصائده بينه وبين نفسه، في وحدته، ويبتسم وهو يصغي إليك بكلّيته”. “عظمة الكلمة كما يراها الشاعر : تلك التي لا تخضع لشرط المكان ولا الزمان، تلك الكلمة التي تخضع لشرطها الفنّي العظيم.

تعالوا نقرأ ونصدّق كثيراً ونعيش كثيراً ما يقوله الشاعر “فؤاد كحل” لابنة الغاب في قصيدته (نرجس وظلام) التي كتبها بعد أن فرّقت البندقية والعقيدة صداقتهما الطيّبة :

لابنة الغاب ذاك المدى …

لابنة الغاب هذا الكلام ..

ولها سِحرُ قطر الندى

وهي تزرعُ نرجِسها ليضيءَ الظلام

ولها ما لكوكبها من دم ٍ

ولها ما لأبعادها من هواءْ

ولها موجُ أزهارها

وهي تمنحنا نجمها

ثم توقد بهجتها

عند بدءٍ وعند ختامْ

كيف يفتعلون الحواجز ما بيننا ..

كيف يستعمرون أحاسيسنا ..

ويبثّون أحقادهم

لتمزّق ما أبدع الأهلُ من لحمةٍ

ذات حريةٍ

وفصول تتوّج أيامنا

يا ابنة الغاب ….

يا وردة الذكريات التي وحّدتنا معاً

مثل منزلةٍ من سحب ..

هل تطير إلى أفقها الشام ؟

أو نبعها أنهر النور ؟

أو طلعِها لغة الضاد

مثل انخطاف الشهب ؟

كنتِ ذات منىً نخلة

ضوّأت دون أن تتسمّى ..

بغير مداها

وغير رؤاها

وغير مفاتنها

كلّما هل ّ صبح ورفّ حمام

يا ابنة الغاب

ها شعلةُ القلب بوصلةُ للزمان

وللرقصات التي جهِلت بُعد آلامها

مذ غدت قمراً للنبيذ المفاجئ في اللحظة المذهلة ..

أنكون معاً

عندما يهبط الليل

أو يبزغ الفجر

أو تستردّ القلوب قصائدها من فم المرحلة ؟

آه كم فرّقتنا العقائد والبندقيات ..

فلنبتدئ نشر أطيارنا

في الفضاء المُوحِّد ….

علّ البلاد تعود إلى الروح

ذات مفاجأةٍ

ويعمّ السلام ..

فؤاد كحل، مواليد ( 1949 ) سهوة بلاطة ـ مدينة السويداء. درس في جبل العرب حتى البكالوريا. انتسب إلى الكلّية العسكرية وتخرّج عام 1970. ثم انتسب إلى جامعة دمشق لدراسة اللغة العربية. وقد خاض حرب تشرين في جبل الشيخ ولبنان.

كُتبت عشرات الدراسات النقدية عن تجربته الشعرية. شعره مقروء في كل أنحاء الوطن العربي. اعتُبر من أهمّ عشرة شعراء في سوريا خلال الثلاثين سنة الأخيرة. طُبعت كتبه في بيروت وبغداد ودمشق وطرابلس. شارك في أهمّ المهرجانات الشعرية داخل سوريا وخارجها، عضو في اتّحاد الكتاب العرب منذ عام 1974 تولّى رئاسة مجلس الاتّحاد لأكثر من دورة . يكتب في الصحافة العربية منذ نصف قرن .

من دواوينه : صرخات للرقص العاري 1974 ـ حصار الحبّ والموت 1976 ـ العشق في الزمن الضحل ـ 1976 ـ أتولد بيروت وجهاً جميلاً 1977 ـ سبعون جمرة 1979 ـ مدينة العطش 1980 ـ الجبل 1982 ـ سيصدر له عن وزارة الثقافة السورية ديوان (كروم في بيتي)، وديوان للأطفال بعنوان (دفتر مايا).

قد تسقط أوراق الحلم، يقول الشاعر فؤاد كحل : لكنّ شجرة الأمل لا تسقط أبداً .

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.