جوزف الحاج
(لبنان)

مارتين فرانك إمرأة مستلقية تقرأ كتاباً، أما الوجه فخارج إطار الصورة: هكذا ظهرت مارتين فرانك (Martine Franck) في إحدى صور زوجها هنري كارتييه- بريسون. في الصورة كما في الواقع، كان حضورها صلباً، أنيقاً ورقيقاً. نجحت في إبراز قيمة أعمال زوجها من دون أن تضحي بمهنتها.
رحلت مارتين فرانك عن 74 عاماً في السابع عشر من آب الحالي بعد مرض عضال. عاشت مع زوجها هنري الملقب بـ»عين القرن» 34 عاماً. مع رحيله في 2004 أصبحت وريثة من صنف نادر: كانت بعيدة عن أن تدعي أو تنصّب نفسها كحارسة للهيكل، بل، على العكس، شجّعت مقاربات مفارقة وحتى متنافرة لأعمال زوجها، واضعة أرشيفه أمام الباحثين، مرحِّبة حتى بأعمال مصورين آخرين لعرضها في مؤسسة تحمل إسم هنري كارتييه- بريسون. لم تمنعها شهرة زوجها من مواصلة مهنتها كمصوّرة تعشق تصوير وجوه الفنانين، واللقاءات الإنسانية والتأمل في الزمن والصداقة.

بلجيكية، ولدت في أنفير العام 1938، نشأت بين بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، في كنف عائلة بورجوازية تجمع اللوحات. درست تاريخ الفن في مدريد ثم في «معهد اللوفر»، للعمل في المتاحف. لكن رحلة إلى الشرق الأقصى في 1963 غيّرت كل الطموحات. في كلمة ألقتها في «لقاءات آرل الفوتوغرافية» في تموز المنصرم عن تجربتها تلك، قالت: «سافرتُ من دون أفكار مسبقة، لأكتشف ببساطة، العالم وذاتي». زارت الصين المنغلقة على ثورتها آنذاك، ثم اليابان، الهند، النيبال، أفغانستان… برفقة صديقة الطفولة، المخرجة أريان منوشكين. إفتتنت بجمال الطبيعة والوجوه، وبالأخص أولئك الأطفال البوذيين المعتبرين كتقمص لكبار معلميهم الروحيين. هناك خطت أولى خطواتها الفوتوغرافية. لدى عودتها، أحضرت الصور إلى مكتب «تايم- لايف» في باريس، الذي كلّفها بالإهتمام بمصوري المجلة الأجانب أثناء زياراتهم إلى باريس. عملت كمساعدة للمصورَين إليوت إليزوفون وجون ميلي الذي عرّفها على صديقه الفرنسي هنري كارتييه- بريسون. نشرت العديد من التحقيقات المصوّرة وبورتريهات الفنانين، من دون أن تترك موضوعها الأساسي، المسرح. رافقت أريان منوشكين منذ بداية تجربتها في «مسرح الشمس»: صوّرت البروفات والعروض. دخلت إلى وكالة «VU« في 1970. في 1972 أسست وكالة «فيفا» مع سبعة من الزملاء: «كان من المهم بالنسبة لي ألاّ أكون في خط هنري. «فيفا» كانت أساسية في تطوري كمصوِّرة لأنني وجدت طريقي عبرها». مارتين هي التي إختارت الإسم «فيفا»: «تحيا الحياة! إنها صرخة فرح» قالت مارتين، المرأة الوحيدة في هذه الوكالة، لذلك لقبت بـ»بيضاء الثلج»(Blanche Neige) والأقزام السبعة».
مارتين الكتومة خالفت كل زملائها المسيسين، المتلهفين للجدالات الهادرة في «فيفا» التي وسمت كل حقبة السبعينات، لإستهدافها الحياة اليومية، خصوصاً مع مباشرتها في 1973 بأضخم تحقيقاتها المصوَّرة «عائلات في فرنسا». في 1973، تترك مارتين فرانك «فيفا« لتكرّس وقتاً لكتابها «أوان الكهولة». في 1980 تدخل إلى «ماغنوم». «أوان الكهولة» الذي لم يحظ بناشر، لفت في 1985 إنتباه جمعية «الإخوة الصغار للفقراء» التي تعنى بالمحرومين، تعاونت فرانك معها فصوّرت مواضيع عن الوحدة والإقصاء والشيخوخة. في 1983 تناولت حقوق المرأة في فرنسا. تحول عملها أكثر ذاتية، مع ميل إلى إنسانية الصورة الصحافية، فاختارت المواضيع الإجتماعية الأشد تأثيراً في الشهادة على الواقع. لم يكن لصور فرانك أي صخب أو إثارة: إنها صور تقليدية، معتنى بسوادها وبياضها، باستثناء صور المسرح التي فضّلتها بالألوان. تكويناتها هندسية، إنحناءات وخطوط تستمد مرجعياتها من الفن التشكيلي. بورتريهاتها العديدة للفنانين، التي عرضت أغلبها في 2011 بعنوان «قادمون من أمكنة أخرى»، تناولت اللغز ولعبة المرايا والإنعكاسات، (صورة زوجها، مثالاً، حيث الوجه نفسه يتكرر ثلاث مرات، أثناء رسمه صورته الشخصية). «أحاول تصوير الأشخاص الذين أحبهم أو أعجب بهم» تقول فرانك الخجولة، المتلاشية أمام مواجهة شخصياتها.
تقول مارتين فرانك: «الفوتوغرافيا لحظة زمنية قصيرة لا يمكن أن تتكرر»، وعن طريقة عملها مع الفنانين الذين لم يكونوا من أصدقائها: «كان يجب علي التحدث معهم وإراحتهم. لم أكن أجرؤ على المبادرة لمواجهة الآخرين. بدأت تصوير الأعراس، وفيما بعد إلتفت إلى إحتفالات وأعياد أخرى، فكانت كاميرتي تهدئ من قلقي. كانت حجة لحضوري تلك المناسبات».

لم تكن مصوِّرة فقط، بل سيدة عظيمة، عفوية في أناقتها وسلوكها. ثقافتها بورجوازية أنجلو- ساكسونية. نظرتها إلى العالم رزينة متكتمة، ما يبدو مناقضاً للعرف السائد: «في داخل كل مصور متلصص». خجولة إختارت الجهة الخلفية للكاميرا التي إتخذتها بمثابة قناع يساعدها على إختراق هذا العالم.
صورت الشباب والكهولة، النجوم والطلاب، الحدائق العامة ومشاغل الفنانين وممثلي مسرح الشمس. تصويرها لأنشطة هذا المسرح لسنوات طويلة، كان أشبه بالمغامرة: شغف لا يختلف عن تصوير باقي المواضيع. بورتريهاتها عكست بأمانة مواقفها من الآخرين وبحثها المستمر في أعماق الكائنات، حتى قيل عنها :»قل لي من تصوِّر أقل لكَ مَن أنت». من صوّرت من الفنانين كانوا لها أصدقاءها قبل أن يكونوا من أهل الفن. لا يزال في تلك الصور ما هو غير مرئي كفاية، رغم مرور الزمن، إن لم تكن الوجوه، فربما الأشكال والخطوط والأبعاد والآفاق المكوَّنة من أسود ورمادي وأبيض، وحبيبات فضية، تعيد تشكيل الواقع.
لم يكن من السهل أن تكون مصوِّرة في «ماغنوم» بعد أن شاركت في تأسيس «فيفا» وتزوجت من هنري كارتييه- بريسون؛ لكنها لم تطلق على نفسها السيدة كارتييه- بريسون. كان هذا رأي هنري أيضاً. يقال أن من بين الأسباب العديدة التي دفعته إلى إعتزال التصوير الفوتوغرافي في 1970، سبب يتعلق بمارتين، هو رغبته في عدم إزعاجها. معرضها الأضخم في 1971 عن «مسرح الشمس» لم يكن صدفة. لم يعرف الزوجان هنري وفرانك الغيرة أو المنافسة، البرهان: من دون همتها ورعايتها لأرشيفه لم ترَ مؤسسة «هنري كارتييه- بريسون» النور غداة رحيله.
أثناء إفتتاح آخر معارضها في «البيت الأوروبي للفوتوغرافيا» العام الفائت حرصت على استقبال ضيوفها بإبتسامة هزيلة بفعل المرض.
قالت للكاتب جون برجر، الذي أعد مقدمة ألبومها «بين يوم وآخر»(1998): «لم أرغب في التفكير يوماً بالمكان الذي سيحضن رفاتي، لكن إذ تسألني الآن، أبوح لك عن رغبتي في نثر رماده عند جذع شجرة جميلة. تروقني فكرة إتحادي بالأرض، لكن، أرجوك، ليس في الحال.»
عشقت مارتين فرانك التصوير بالأسود والأبيض، بورتريهات الفنانين والكتّاب، وأريان منوشكين و»مسرح الشمس»، الأطفال النيباليين، المشاهد الطبيعية الشتوية، الأفق المغطى بالضباب والغيوم. أحبت الإنسان والفوتوغرافيا: «ليست الصورة الفوتوغرافية خدعة بالضرورة، لكنها ليست أبداً الحقيقة. إنها بالأحرى إحساس متردد غير ثابت. ما يعجبني أكثر في الفوتوغرافيا هو تلك اللحظة التي نعجز عن إستباقها: يجب أن نكون دائمي الترصد لها، والإستعداد لتلقي المفاجئ.»