الإمبراطور فيليب العربي
Philippus
244 ـ 249م
معجزة اللّجاه ـ إبن شهبا

المهندس جورج فارس رباحية

كان والد فيليب العربي أحد الشيوخ العرب من القبائل العربية التي أقامت في اللّجــاة (1) وغيرها من المناطق واتّسع نفوذها بتزايد عدد أفرادها وقدراتها القتالية وفعاليّاتها الإقتصـادية المختلفة حتى أصبحت قوّة هامّة لها وزنها الكبير في المنطقة ، وجعلها تحلّ محلّ سلطة العرب الأنبـاط الذين قضى الرومـان عليهم عام 106 م على يد القائد ( كورنيــليوس بالـــما Cornelius Palma) في عهد الإمبراطور تراجان Trajan ( 92ـ 117) وأسّس القائـد كورنيليوس الولاية العربية متّخذاً مدينة بصرى عاصمة لها . كان كثير من المواطنين في سورية وغيرها في العصر الروماني يلقِّبون أنفسهم بلقب روماني وذلك بعدما مُنِحَتْ الرعوية الرومانية في عهد الإمبراطور كاراكالا Caracalla إلى كــل المواطنين في الإمبراطورية الرومانية . وهكذا فقد تلقَّب والد فيليب العربي بإسم جوليوس مارينوس وعُرِفَ فيليــب العربي بإسـم ماركوس جوليوس فيليبوس الذي وُلِدَعام 200م ( أو 204 م حسب رأي آخرين) قرب مدينة بصرى عاصمة الولاية العربية في قرية صغيرة عُرِفَتْ فيما بعد بإسمه فيليبوبوليس المعروفة حالياً بإسم شهبـا ( أو شحبة قديماً ) وتقع في الطرف الشمالي من جبل العرب وتبعد عن دمشق مسافة 90 كم جنوباً وترتفع عن سطح البحر حوالي 1000م نشأ فيليب في بيئة عربية متميّزة بغناها بالتراث الحضاري وبجمال الطبيعة وصفاء هواء البادية وممارسة الفتيان والشباب مختلف أنواع الرياضة منها الفروسية حيث تميّزوا بقوّة أجسامــهم وبصحّتهم البدنية والنفْســية ومزاولتهم الفعاليات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية وغيرها كما كان إهتمامهم الكبير بالقيَم الأخلاقية وميلهم إلى الحريّة ، تلك البيئة الجميلة أسهمت في تكويـن طباعه ونمو شخصيّته وقوة إرادته والرغبة في تحقيق تطلّعاته عن طريق الخدمة العسكرية في الجيش الروماني مثل كثير من مواطنيه الشباب، فالتحق بجيش الشرق الروماني الذي ليس لـه في الواقع من الصبغة الرومانية سوى الإسم فقط لأن معظم عناصره كانوا من أبناء المنطقــة العربيــة . تميّز فيليب بالجُرأة والشجاعة والتعاون والتضامن والنجدة وغيرها من الصفات العربية التـي يتميّز بها أبناء بيئته . هذه الصفات أسرعت بتدرّجه وإرتقائه في منصب الجيش حتى أصبح أحد قواد الحرس الإمبراطوري في عهد الإمبراطور جورديان الأول Jourdian عام 238 ـ الذي أشركَ إبنه جورديان الثاني معه في الحكم نظراً لكبر سنّه ـ وبعده إبن أخيه جورديان الثالــث ( 238 ـ 244 ) ونظراً لصغر سنّه أعتمد على قائد حرسه الإمبراطـــوري تيميســيثيوس Timisitheusلكن بعد وفاة هذا القائد عام 243 بدأ الإمبراطور البحث عن بديل له يتمتـــّع بالصفات والمؤهّلات العسكرية المطلوبة فلم يجد أفضل من فيليب العربي الذي عيّنه قائداً لحرسه الإمبراطوري . اعتاد جنود الجيش الروماني على التمرُّد منذ بداية القرن الثالث نتيجة تزايد شعورهم بأهميّتهم وقلّة إنضباطهم وفرض إرادتهم بقوّتهم واغتنموا فرصة قلّة المؤَن والإمدادات اللاّزمة لهم وضعف شخصية الإمبراطور جورديان الثالث وقلّة خبرته العسكرية ، فثاروا ضدّه وقضوا على حكمــه وحياته عام 244 في وقتٍ كان يستعدّ لقتال الفرْس الساسانيين ونادوا بقائد حرسه فيليب العـربي إمبراطوراً في أواخر شهر شباط عام 244 م ، فرأى فيليب العربي Philippus ( الذي يعني إسمه المُحِبّ للفروسية ) إنه من الواجب أن يحيطَ مجلس الشيوخ في روما بنبأ اغتيال الإمبراطـــور جورديان الثالث ووجوب إعتراف مجلس الشيوخ به إمبراطوراً . فاجتمع مجلس الشيوخ واعترف رسميّاً بالقائد فيليب العربي إمبراطوراً جديداً للإمبراطورية الرومانية . بعد أن تسلّم مهام الإمبراطورية رأى أن الأوضاع تتطلّب توقيع معاهدة صلح مع شابور الأول ملك الفرس الساسانيين ـ حيث كان الجيش الروماني في قتال معهم ـ لوضع حدّ لتلك الحـروب التي دامت بينهم سنوات عديدة . فوقَّع المعاهدة معهم في شهر آذار عام 244 م واتّجه بعد ذلك من ساحات القتال في حوض الفرات الأوسط إلى أنطاكية عاصمة سورية فوصلها يوم السبت في نيسان 244 م حيث كان المسيحيون يحتفلون بليلة عيد الفصح فأجلسه القديس بابولا في أحـد مقاعــد التائبين والموعظين فاعتبر موقف القديس بابولا متميّزاً بالجرأة الأدبية . وبما أن سك النقود يعتبر رمزاً للسيادة ويؤكّد سلطة الإمبراطور فقد سكّت أنطاكية نقوداً بإسـم الإمبراطور فيليب العربي . ثم غادر مدينة أنطاكية متابعا سفره بحراً الى روما . وكان طيلة سفره يُفَكِّر بكل ما يتعلَّق بالإمبراطورية الرومانية ومسؤولية الحكم وقضايا الإصلاح واستعراض الخطط التي تُعالج مختلف الأزمات قبل تزايد خطرها على الإمبراطورية . وقد استقبله جميع المسؤولين في روما متفائلين به . وفعلاً لم يخب ظن المسؤولين به فبدأ بتنفيذ الإصلاحات , فأعاد إلى مجلس الشيوخ الصلاحيات التي كانت قد سُلِبَت منه وأدرك خطأ سياسة الإعتماد كلّياً على الجيش وحـده ورأى الإعتماد في الحكم على الشرعية وكسب تأييد الطبقات الشعبية ، وكانت إصلاحاته تشمـل مختلف ميادين الحياة الأمنية والإجتماعية والإقتصادية وغيرها وأهمّها : إلغاء السخرة والقضاء على العبودية والعفو عن المعتقلين والسماح بعودة المنفيين والإعتماد على القوانين ومبادىء العــدل والإهتمام بالزراعة وحماية المزارعين ، وبذلك عرفوا فيه الوَرع والتقوى والحكمة والعـــدل . كان فيليب العربي قد تزوّج عام 237 م من الفتاة ( مارتيا أوتا سيلا سيفيرا ) ورأى فيــها الصفات النبيلة وطلب يدها من أبويها فتمّ الزواج وفق تقاليد بيئتها ومجتمعها ، فأنجبت له مولوداً عُرِفَ بإسم ( فيليب الثاني ) ووقفت إلى جانب زوجها في أحرج المواقف وأصعب الظروف وسُكَّت النقود بإسمها في عدة مراكز لسك النقود منها : دمشق ـ بعلبك ـ نابلس . كما سُكَّت النقود بإسم فيليب الثاني الذي أخذ والده يُشركه في الحكم ومنحه لقب قنصل ، قيصر …. وأخيـــراً لقـب ( أوغست ) في عام 247 عندما كان عمره أقلّ من عشر سنوات . كما عهدَ الإمبراطور فيليب العربي الى أخيه يوليوس بريسكوس Priscus بالحكم في بلاد مابين النهرين ثم جعله حاكم كل الولايات الشرقية … وأخيراً عيّنه قائداً للحرس الإمبراطوري وبالنسبة لوالده فقد أمـربتأليــه جوليوس مارينوس ورفعه الى مصاف الأرباب كعادة الرومان المتعلّقة بتعظيم عظمائهم وأصـدر له ميدالية تكريم تحمل صورته وعليها صورة الربة روما تحيط بها عبارة : المستعمرة فيليبو بوليس لم يقتصر عمل فيليب العربي على الإصلاحات في الإمبرطورية بل كان يقود الجيش الروماني بنفْسه لاسيما لصدّ القبائل الغازية في عامي 245 و 246 وانتصر عليهم ولُقِّب ( غـازي الجرمان Germanicus Maximus)كما لُقِّب(غازي الكاربيين Carpicus Maximus ) واحتفلت البلاد بهذه الإنتصارات أجمل إحتفال . وأراد أن يُكَرِّم عاصمته روما فأعلن في 21/نيسان/ 248 عن الإحتفال بذكرى مرور ألف عام على تأسيسها وإعداد أجمل الألعاب وحفلات الرقص والموسيقى وصراع الحيوانات المختلفة وكان من أهم مظاهر تلك الإحتفالات إحيـاء ( الألعـاب الرياضية الكبرى ) التي كان من عادة الرومان إحياؤها في كل مائة عام . في نهاية عهد الإمبراطور فيليب العربي بدأت الفِتَن والإضطرابات بالظهور وتزايدت أعمال التمرّد في صفوف الجيش في مناطق الدانوب ونادوا بضابط صغير اسمه ( طيباريوس كلاوديوس مارينوس باكاتيانوس ) إمبراطوراً ، وتأثّر مجلس الشيوخ بهذه الأنباء وأدرك خطرها على البلاد ، ووقف القائد الروماني داقيوس Decius ( 201 ـ 251 ) مندِّداً بشدّة بسوء تصرّفات الإمبراطور الذي نادوا به وتنبّأ بأن المتمرّدين سيقضون عليه بأنفسهم ، وتحقّقت نبوءته فقضى المتمرّدون عليه عام 249 م . فاعتبر الإمبراطور فيليب العربي ان داقيوس هو الرجل المناسب للتصدّي للمتمرّدين فعيّنه قائداً على فِرق الجيـش الروماني وكلّفه بالقضاء على الفتنة وإعادة النظام . وقد نجح داقيوس بمهمّته لكنه ما لبث أن استجاب لطلب الجنود المتمرّدين في الدانوب لمناداته إمبراطوراً . عَلِمَ الإمبراطور فيليب العربي بأن داقيوس قد خدعـه فرأى أنه لابدّ أن يقود الجيش بنفْسه لقتال دوقيوس ، فالتقى المتخاصمان في موقع قرب مدينة فيرونــا الإيطالية ، في نهاية شهر إيلـول وبداية تشرين أول 249 م وكانت معركة حاسمة كل منهم اعتبر ان هذه المعركة بالنسبة له حياة أو موت ، وانتهت المعركة بموت الإمبراطور فيليب العربي وهزيمة جيشه . وهكذا انتهى عهد الإمبرطور فيليب العربي ليبدأعهد جديد للإمبراطورية الرومانية . الإمبراطور فيليب العربي في رأي المؤرّخين : 1 ـ موقفــه من المسيحية : بعد أن عانىالمسيحيون كثيراً من الإضطهادبنحو قرنين ونصف في عهود عدد من الأباطرة مثل ( نيرون 54 ـ 68 ) الذي اتّهمهم قي إحراق روما و( تراجـان 98 ـ 117 ) الذي اضطهدهم و ( مكسيمينوس التراقي 235 ـ 238 ) الذي اتّهم رجال الكنيسة بإبعاد الرومان عن ديانتهم . ونتيجة هذا الإضطهاد جعل قدماء المسيحيين يمارسون عبادتهم في الكهوف والمغاور في جو من الخوف من الإضطهاد . وبعد أن اعتلى فيليب العربي عرش الإمبراطورية الرومانية عام 244 شهدت المسيحية في عهده التسامح الديني وتمتّع المسيحيون بالحماية ، مما جعل بعض المؤرخين يذهبون الى القول بأن فيليب العربي كان مسيحياً وأنه تأثر بعادات مجتمعه وبيئته وأخلاقية شعبه لاسيما فكرة التسامح كما أن المسيحية ديانة شرقية نشأت في بيئته وبلاده ففازت بعطفه وحمايته فعاش المسيحيون بسلام في عهده في حين أن كثيرين منهم يشكّون في صحة هذا الرأي لأسباب أن الإمبراطور فيليب تابع تمسّكه بالدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية وأمر بتأليه والده وليس هناك أية وثيقة تؤكِّد بأنه كان مسيحياً . 2 ـ جُرأته وشجاعته وقوة شخصيّته وإرادته الفولاذية . 3 ـ حُسْن إختياره العمل العسكري في الجيش الروماني كمهنة التزم بها التي حقّقت له طموحاته . 4 ـ حُسْن أدراكه ظروف عصره بكل أبعادها واتّخذ كل ما يلزم لمواجهة الصعوبات والأخطار بأعصاب قوية وإرادة فولاذية لاتلين . 5 ـ إعتزازه بمجتمعه وبيئته ، واهتمامه بمدينته التي نشأ فيها فجعلها من المدن العظيمة فــي الإمبرطورية الرومانية فتحيط بها الأسوار المنيعة وتنتشر في داخلها أجمل المباني المدنية والثقافية والعامة والجنائزية وأجمل روائع الفسيفساء لاسيما التي اكتشفت في قصر الحاكم المحلّي التي تُمثِّل ( ثالاسّا ) أو ربّة البحر وثانية تمثِّل الفصول الأربعــة وعطايا الأرض وثالثة تُمثِّل لوحة أُرفيوس عازف القيثارة الشهير وهو أبن أبولو وحفيد زيوس واللوحة الرابعة تُمثِّل لوحة ولادة أفروديت ربة الجمال وتُعْرَض جميع اللوحات بمتحف شهبا الذي يُسمّى متحف الفسيفساء . نقود الإمبراطور فيليب العربي : سُكَّت نقود للإمبراطور طيلة سنوات حكمه من عام 244 ـ 249 م وتضمّنت صورته الشخصية الحقيقية الواقعية بطابعها الإمبراطوري التقليدي تحيط بها كتابة ذكرت إسمه وألقابه وقد سُكَّت بدور السك في : أنطاكية ـ دمشق ـ شهبا ( فيليبو بوليس ) ـ نابلس ـ روما . وإن المتحف الوطني بدمشق يحتفظ بمجموعة كبيرة من هذه النقود بالإضافة إلى بعض متاحف العالم . كما أن مصرف سورية المركزي أصدر عملة ورقية فئة المئة ليرة سورية تحمل رسماً للإمبراطور فيليب العربي تخليداً وتقديراً له . إن سك هذه النقود وبكمّيات كبيرة يدل على الإزدهار الإقتصادي في عهده لتلبية حاجة المواطنين وعمليات التبادل التجاري . تماثيل الإمبراطور فيليب العربي في متاحف العالم : اهتمّت متاحف العالم بالمحافظة على الصوَر الشخصية لأباطرة الرومان ومنهم الإمبراطور فيليب العربي وتحدّث المختصّون بهذا المجال عن وجود تماثيل الإمبراطور فيليب العربي في عدد كبير من متاحف العالم بالعواصم والمدن المختلفة مثل : دمشق ـ شهبا ـ طرابلس ـ روما ـ أمستردام ـ برلين ـ بودابست ـ ديترويت ـ فلورنسا ـ إزمير ـ كوبنهاكن ـ لينينغراد ـ ميونخ ـ نيويورك ـ باريس ـ ستوكهولم . وان معظمها يحتوي على رأس الإمبراطور فيليب العربي والجدير بالذكر انه في عام 1975 اكتشف في مدينة شهبا أجزاء تمثال الإمبراطور فيليب العربي في موقع الحمّامات الكبرى يتضمن رأس الإمبراطور من الرخام الأبيض مع قاعدته ومحفوظ بمتحف شهبا . وإذا كانت حمص تفخر بأسرة الأباطرة السيفريين السوريين( أباطرة روما الحمصيون ) فإن شهبا تفخر بشخصية الإمبراطور فيليب العربي حيث كان من عظماء الرجال الذين تحدّثت عنهم كل الأجيال بكثير من الإحترام والتقدير والإعجاب . حمص 1/6/2006 المهندس جورج فارس رباحية المفـــــردات : (1) ـ اللّجــاة : هي المنطقة الفاصلة بين جبل العرب وحوران وتسمّى ( الحَرَّة السوداء والصفا والراجل وديرة التلول ) وهي منطقة بركانية صمّاء بازلتية مساحتها حوالي 1400 كم2 وتشبه صخور حمص . المصادر والمراجــع : ـ الإمبراطور فيليب العربي : بشير زهدي 1990 ـ مقالات للمهندس ملاتيوس جبرائيل جغنون ( نائب رئيس جمعية العاديات بحمص ) ـ نشـرات وزارة السياحة ـ المنجد في اللغة والأعلام : بيروت 1973 ـ عشائر الشام : احمد وصفي زكريا طبعة2 الجزء 1و2 عام 1983
ـ مجلّة العُمـران : وزارة البلديات : السنة5 العدد 33و34 عام 1970

 

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.