المرحوم الدكتور فاخر عاقل: شهادات فيما قدمه للعلم والثقافة والمعرفة

لم تخسر سورية عالماً نفسياً ومفكراً جليلاً وباحثاً عظيماً قدَّم العشرات من الكتب في علمي التربية والنفس هو المفكر الدكتور فاخر عاقل وحسب، وإنما خسره الوطن العربي بأجمعه، فالكتب التي ألَّفها ولا تزال تدرَّس في جامعات الوطن العربي، وتُعدُّ مراجع مهمة للباحثين والدارسين والقراء، دليلٌ على أنه لم يكن ابن دولة وإنما ابن وطن.

إن كل ما يخطر ببال المرء -وهو يؤبِّن هذا الرجل العظيم- من صفات يستنبطها من مراحل حياته العلمية والفكرية، ومن خلال احتكاكه بالأساتذة والأصدقاء والطلاب والأهل، ومن مواقفه المشرفة وحبه للوطن الذي آثر ألا يبتعد عنه طلباً للمال، إن كل ما يخطر بالبال لهو قليلٌ، فسيرة الكبار تحكيها أعمالهم، ولم يكن عمل الدكتور عاقل خلال سني حياته إلاّ عملاً تفخر به سورية والوطن العربي، فما جاء به من علم ومعرفة وما قدمه للأجيال ليعد من المفاخر والمآثر التي يتركها الآباء للأبناء لتكون نبراساً ينير طريق مستقبلهم.

ولعل في سيرة راحلنا الذي شيعتْه حلب منذ أيام بكثير من الحزن والأسى، دليلُ عملٍ ومنهاج قويم تستفيد منه الأجيال على مر العصور، ففيها دروس وعبر، ومواقف رجل وطني وعالم وباحث حري بنا أن نستلهم منه حب العمل والعلم، والمثابرة على التحصيل العلمي وحب الوطن. كانا دائماً يتحدث في كتبه ومقالاته ودراساته عن قضايا هامة ومتنوعة كشاهد على العصر بأحزانه وأفراحه، ودائماً ما كان يطرح أفكاراً عديدة تستحق التأمل والتفكير، وقد بدا في جميعها مفكراً معاصراً وواقعياً وعالماً دقيق النظرة.

أنكر على فرويد نظريته وقدم نظرية تعيد النظر في حاجات الإنسان:
ومما يحسب لهذا العالم الجليل أنه أنكر على فرويد نظريته في علم النفس، بل وإنه نسفها من أساسها، ليؤكد في حوار نشر في صحيفة الثورة في عام 2006 العدد 13018، أن فرويد ليس أول من قال بالغريزة الجنسية كمحرك للسلوك البشري، وإنما سبقه إلى ذلك أستاذه الفرنسي شاركو الذي تتلمذ فرويد على يده بعد تخرجه من كلية الطب في فيينا وسفره إلى باريس، حيث سمع شاركو يقول: «إن الغريزة الجنسية هي محرك السلوك البشري، وإن “الليبيدو” هو الأساس في تصرفات الإنسان وأمراضه النفسية». شاركو هذا أول من قال بالمركَّبات (العقد النفسية). وفرويد لم يكن أول القائلين بالتحليل النفسي، ولا بالعقل الباطن الذي كان معروفاً منذ القرن الثامن عشر. لقد عاد فرويد إلى فيينا، ومارس التحليل، فنجح حيناً وأخفق أحياناً، فشد الرحال من جديد إلى فرنسا، حيث تتلمذ على مدرسة «تانسي» وأفاد منها.

أما نظرية الدكتور فاخر عاقل في علم النفس، وهي النظرية التي لم تصدر عن تخيل أو عبث وإنما عن دراسة عميقة واطلاع واسع وتأمل جدي -كما قال في ذاك الحوار-، فهي أن الحب هو أهم حاجات الإنسان، وأن الإنسان السوي بحاجة إلى أن يحِبّ ويُحَبّ. إن الإنسان الذي خلقه اللّه في أحسن تقويم، مخلوق رجلاه على الأرض وبصره شاخص إلى السماء يقتبس منه النور.

وفي موقع آخر قال: «الدافع إلى الحب هو الحافز الأول والأهم في الحياة. أن تكون محبوباً من الآخرين، فلا يكفيك أن تكون غنياً أو صاحب نفوذ، ولا يكفيك أن تكون سيداً لك رأي مسموع، بل تريد أن تُحبّ وأن تكون محبوباً ومحترماً. الكل يسعى إلى أن يُحب وإلى أن يَحبه الناس ويحترموه».

لقد نُشرت هذه النظرية التي أكدها الدكتور عاقل بالعلم والدراسة والاطلاع والتأمل الجدي النابع من فكر فلسفي واع في مجلة المعرفة العدد 502 – تموز 2005م‏.

شهادات وآراء مثقفي حلب في عالم النفس السوري الدكتور فاخر عاقل:
بعد رحيل الدكتور فاخر عاقل، ماذا يقول عنه أبناء حلب من مفكرين ومثقفين وأساتذة ممن عاصره وتتلمذ على يديه؟ في أقوالهم تلك نقرأ شهادات وآراء أولئك الذين استفادوا من علمه وثقافته ومعرفته وحبه للعمل والجد والعلم، والذين يجدون فيه خير عالم نفس أنجبته مدينة حلب للعالم العربي أجمع.

الشيخ الدكتور محمود عكام -مفتي مدينة حلب وأحد طلاب فاخر عاقل-:
فاخر عاقل علامة فارقة في مسيرة العلم في العصر الحديث بشكل عام، وفي علوم النفس والتربية بشكل خاص. فهو الدارس الجاد والباحث الواعي، والعالم الموثق المحقّق، والمعلم المتمكن، والمربي الحاني، والموجّه الراقي، والعاقل الحكيم، وما أنا بقائل هذا عنه إلا عن معرفة نسجتها تلمذة وفية راصدة، وصحبة صادقة متابعة، ولذا فها أنذا أفاخر بفاخر وأقول: «من له أستاذ كأستاذي؟!» طبتَ يا شيخ العلماء حياً وميتاً، وكن مطمئناً فوطنك الغالي لن ينساك بل سيظل يوصي أبناءه بالإفادة من سيرتك وتراثك. فأما السيرة فمدرسة حكمة وعلم وأما التراث فإنتاج عظيم نافع بامتياز. كنت في حياتك -يا أستاذنا الجليل- تجربة غنية، وها أنت بعد مماتك غدوت قيمة نبيلة لها المكان الأسمى في سجل الفضائل الإنسانية والوطنية. والسلام عليك في كل زمان وفي كل مكان. وصدق الله العظيم القائل «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» -فلا وأيم الحق- لم يستووا ولا يستوون.

نيافة المطران يوحنا إبراهيم -رئيس طائفة السريان الأرثوذكس بحلب-:
وإن غادرنا إلى دار الخلود بعد أن أمضى تسعين عاماً في خدمة الكلمة والفكر في سورية والوطن العربي، فإن الدكتور فاخر عاقل يبقى ركناً من أركان الثقافة العربية في القرنين العشرين والواحد والعشرين. لهذا فإن غيابه يشكِّل خسارة كبيرة للوطن والعلم والثقافة خاصة وهو من كبار المفكرين والمثقفين والمبدعين.

لقد سلّح الدكتور فاخر عاقل نفسه بالعلم منذ نعومة أظفاره، وبعد أن حصل على شهادة الدكتوراه عاد إلى مصنع الرجال جامعة دمشق حيث بقي وفياً أميناً لرسالة العطاء كواحد من أبرز وأهم أساتذتها، ثم كرئيس لقسم علم النفس فيها، ولولا تألُّقه كعالم وباحث في علم النفس لما دعته منظمة اليونيسكو للعمل فيها لمدة تزيد على السبع سنوات، ولما كان من أهم من شارك بإنشاء الجامعة الأردنية التي درّس فيها ثلاث سنوات بعد تأسيسها.

لقد خلَّد الدكتور فاخر عاقل ذكراه بين الباحثين والمبدعين أولاً بعطاءاته الفكرية التي سجلها في سبعة وعشرين كتاباً هي بمثابة عصارة فكره، إلى جانب عشرات المقالات التي نشرها على صفحات المجلات والصحف العربية الرائدة. ولا أحد ينكر دوره خلال مشاركاته في الكثير من الندوات العلمية في علم النفس، فقد كرَّمته سورية بشخص رئيسها المبجل أولاً الراحل الخالد حافظ الأسد رحمه الله، وثانياً بشخص الرئيس الدكتور بشار الأسد حفظه الله. لقد كان طوال خدمته في جامعة دمشق عند ثقة الرئيسين ومحبتهما.

عزاؤنا بعد رحيله عن هذا العالم هو أن نرى في أبنائه وتلامذته من يحمل رسالته للأجيال القادمة.

الدكتور عبد الرحمن عجان -عميد كلية التربية بجامعة حلب-:
ولد الأستاذ الدكتور فاخر عاقل في بلدة كفر تخاريم عام 1918، ودرس الابتدائية في مدينة الباب، والمتوسطة والثانوية في ثانوية المأمون بحلب. أما الدراسة الجامعية فكانت في كلية الطب بالجامعة السورية ثم في الجامعة الأميركية في بيروت حيث حصل على شهادتي البكالوريوس والماجستير في علم النفس والتربية، ثم‏ حصل على شهادة الدكتوراه من لندن باختصاص «علم النفس التربوي». وقد رزق الدكتور عاقل بولدين وبنت يعيش جميعهم في الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد عمل مدرِّساً في دور المعلمين في دمشق، ثم مفتشاً لمعارف دمشق، ثم أستاذاً مساعداً، ثم أستاذاً في علم النفس، ورئيساً لقسم علم النفس بجامعة دمشق،‏ وتقاعد عام 1983م. ثم عمل خبيراً ورئيساً لبعثة اليونسكو في مصر والأردن، ودرّس في الجامعة الأردنية لمدة ثلاث سنوات كما عمل أستاذاً زائراً في جامعة الكويت.‏ بعدها عمل نائباً لمديرية التربية الأساسية في المنوفية في مصر ورئيساً لقسم التدريب فيها.‏

وقد ألف الدكتور عاقل 30 كتاباً في علم النفس والتربية باللغتين العربية والانكليزية، منها 3 مترجمة، وقاموسان أحدهما «معجم العلوم النفسية»، وفيه قرابة ثمانية آلاف مصطلح. أما القاموس الثاني فهو باللغات الثلاث العربية والإنكليزية والفرنسية، وهو القاموس الأول للاختصاصيين في علم النفس. وقد قدّم مكتبته الشخصية التي تجاوز محتواها 4500 كتاب ومجلد هدية لمكتبة الأسد.

إن الدكتور عاقل حائز على وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة بتكريم من سيادة رئيس الجمهورية الدكتور بشار الأسد. تغمد الله فقيد البلد برحمته وأسكنه فسيح جنانه.

الأستاذ الدكتور محمد قاسم عبد الله -أستاذ الصحة النفسية ونائب عميد كلية التربية بجامعة حلب-:
حين نتحدث عن مسيرة علم النفس والتربية في سورية خاصة وفي العالم العربي عامة، فلا يمكن لأي مربٍ أو متخصص إلا وأن يتذكر فاخر عاقل. يُعتبر الدكتور فاخر عاقل من مؤسسي علم النفس في سورية فقد ساهم مع الرعيل الأول من المتخصصين أمثال الدكتور جميل صليبا، والدكتور كامل عياد، وحافظ الجمالي في إرساء أسس هذا العلم. فبعد جلاء القوات الفرنسية عن سورية وحصولها على استقلالها عام 1946، تمَّ إيفاد العديد من الطلاب للتخصص في البلدان الأوروبية والأمريكية، وذلك بسبب الاهتمام بالتعليم العالي، حيث اُفتتح في عام 1946 المعهد العالي للمعلمين (كلية التربية حالياً في جامعة دمشق). وتضم الكلية قسماً لعلم النفس والصحة النفسية. وقد كانت كتب الدكتور فاخر عاقل من أبرز الكتب التي دُرِّست في جامعة دمشق، بل وفي الجامعات العربية الأخرى، واُعتبرت بمثابة مراجع علمية للطلاب والمتخصصين. ومن أبرز تلك الكتب التي تمت دراستها: «علم النفس العام» (1945)، و«مدارس علم النفس»، و«نظريات التعلم» (1956)، و«علم النفس التربوي». وقد أُعيدت طباعة هذه الكتب مرات عديدة.

حين يقرأ أي إنسان مثقف أو متخصص هذه الكتب يجد فيها المتعة، وسلاسة الأسلوب، حيث يقدِّم لك فاخر عاقل النتائج العلمية المتعلقة بالسلوك الإنساني بطريقة مشوقة، مع الاحتفاظ بالمنهجية العلمية التي تصدر عن باحث متمكن. من جهة أخرى كان للدكتور عاقل أسلوبه المتميز والذي حاول من خلاله أن يطبق مبادئ علم النفس والتربية على مشكلات الحياة اليومية والاجتماعية التي عاشتها سورية والوطن العربي في منتصف القرن الماضي، وأصدر كتابه المتميز «التربية قديمها وحديثها» والذي كانت طبعته الأولى عام 1974، والثانية عام 1977. فبعد خبرة طويلة من التدريس الجامعي والعمل البحثي، أسقط العاقل مبادئ التربية وعلم النفس بطريقة سلسة في فهم مشكلاتنا التربوية والاجتماعية، حيث عرض في جزئه الأول نظريات معاصرة مثل «صراع الأجيال، الأصالة العربية، أهدافنا التربوية، إصلاح التعليم، أسس المناهج، التربية والعمل، والبحث العلمي»، ثم حاول تطبيقها في علاج قضايا مثل: «التربية الجنسية، تفريد التعليم، المرأة والعمل، الجامعات العربية، دراسة الطفل، ونصائح للشباب». تُعتبر هذه الموضوعات بمثابة انعكاس للواقع العربي الذي يسعى للتطوير، وربط العملية التربوية بالمجتمع من أجل النهوض به من خلال التعليم بمراحله المختلفة. من هنا يمكن القول بأن الدكتور عاقل قد سعى إلى النهوض بسورية من خلال النهوض بالواقع التربوي والسلوكي في مراحل التعليم المختلفة، وذلك لإيمانه بأهمية التربية والتعليم في التنمية.

لا بد لنا أن نذكر أن المرحوم عاقل كان بمثابة قدوة حسنة للأجيال، وأن جميع تلامذته يذكرونه ويذكرون سلوكياته التي كانت مثالاً للمربي القدير، والباحث المتمرس، والإنسان الخلوق. لقد فقدت سورية علماً من أعلام الفكر التربوي والنفسي بوفاة الدكتور فاخر عاقل، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.

الدكتور عمر الدقاق -أستاذ جامعي وباحث في اللغة العربية-:
في بلدة كفر تخاريم الوادعة بمحافظة إدلب الخضراء التي أنجبت إبراهيم هنانو أحد كبار زعماء الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي، وُلد أيضاً الطفل فاخر عاقل سنة 1918، وتبعاً لتفوقه درس في ثانوية المأمون، تجهيز حلب، ثم تابع دراسته وتفوق فأوفد إلى بريطانيا لمتابعة دراسته العالية في جامعة لندن حيث تخرج فيها حاملاً شهادة دكتور في الفلسفة – قسم تربية وعلم نفس، وحين عاد إلى سورية عيّن مدرساً في كلية الآداب بجامعة دمشق، ثم تم اختياره للعمل خبيراً تربوياً في منظمة اليونيسكو.

تمكن فاخر عاقل من إتقان اللغة الإنكليزية بفضل دراسته في الجامعات الأجنبية في لبنان وبريطانيا وأمريكا، كما كان له إلمام جيد باللغة الفرنسية، وقد أهّله هذا التكوين اللغوي لخوض غمار التأليف المعجمي ومجال المصطلحات العلمية على أفضل وجه من الدقة، وكانت حصيلة جهوده إصدار ثلاثين كتاباً باللغتين العربية والإنكليزية، ثم كان آخر كتبه «معجم العلوم النفسية»، إنكليزي-عربي، وقد توّج به جميع كتبه.

أخيراً لقي فاخر عاقل تكريماً لعدة مرات في مدينة حلب من قبل تلاميذه ومحبيه، ثمّ كان التكريم الأكبر الذي تجلّى لدى أعلى مستوى في الدولة حين منحه السيد رئيس الجمهورية حافظ الأسد رحمه الله وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة.

بارك الله هذه المدينة حلب المحروسة التي احتضنت في نهاية المطاف أحد أبنائها الأوفياء وأحبتها المبدعين وضمته إلى شغاف قلبها.

المربي العلامة الأستاذ محمود فاخوري:
يطيب لي الحديث عن آخر أساتذتي الذين درسوني في دبلوم التربية بجامعة دمشق عام 1958 – 1959، ولا يزال صوته يرن في أذني بعد نصف قرن وذلك بطلاقة لسانه، وجمال أسلوبه، وسعة اطلاعه، وفصاحة لغته، وصوته الجهوري العذب.

واستمر خلال هذه العقود كلها من حياته جمّ النشاط قوي الحضور، حتى انتهى به الأمر إلى دار السعادة في حلب، ولم ينقطع البتة خلال السنوات التسع التي أمضاها في هذه الدار عن الكتابة والتأليف برغم شيخوخته ومرضه الذي اشتد عليه في السنة الأخيرة، حين زرته يوماً واستعدنا بعض الذكريات الجميلة الغابرة، وكانت ساعة غنية بالنسبة إلي، وكان يبدو عليه التعب وكأنه يشعر بدنو أجله، ولما سألته عن حاله قال لي: «ماني منيح».

إن فاخر عاقل أحد العمالقة الأفذاذ الذين وهبوا حياتهم للعلم والبحث، حتى إنه صاحب نظريات فلسفية ونفسية فاق فيها فلاسفة الغرب وعلماءه النفسيين وكثيراً من فلاسفة المشرق. لقد أحب وطنه ومدارج شبابه وكهولته، فآثر أن تكون فيه خاتمة حياته بدلاً من البقاء مع أبنائه الثلاثة في المغترب، بعد أن توفيت زوجته. لذلك كله كانت الخسارة فيه فادحة، ولا يمكن أن يجود الزمان بمثله علماً وتأليفاً ودأباً ومثابرة حتى في فترة مرضه، فمثله مثل أديبنا الجاحظ الذي ألف أكثر كتبه وهو طريح الفراش، رضي النفس، هادئ البال. ولا أنسى محاضرته في المركز الثقافي العربي بحلب منذ أربع سنوات تقريباً عن «الإنسان بين العاطفة والعقل»، وكان يرتجل محاضرته متدفقاً كالنهر الجاري، وكانت ساعة من أمتع الساعات وأجملها.

الدكتور وحيد صبحي كبّابه -أستاذ الأدب والنقد القديم في كلية الآداب بجامعة حلب-:
ما إن يُذكر اسم فاخر عاقل حتى تعود بي الذاكرة إلى سبعينيات القرن المنصرم، أيام كانت مؤلفات الرجل تتصدر واجهات المكتبات العامة، وتزين رفوف المكتبات الخاصة، وتملأ العقول والنفوس. ولا أبالغ إذا قلت إنه كان الرائد الأول في ميدان علم النفس والتربية في سورية، وذلك بما أثرى به المكتبة العربية من مؤلفات أذكر منها: «علم النفس»، «علم النفس التربوي»، «اعرف نفسك»، «مدارس علم النفس»، وغيرها. هذا فضلاً عما ترجمه مما يتعلق بعلم نفس الطفولة والمراهقة. فقد وقف قلمه على تقديم هذا العلم للناس بلغة سليمة وأسلوب بعيد عن الرطانة والتعقيد، مما حبَّب هذا العلم إلينا وجعله بمتناول الجميع. وقد كان لمقالاته في المعرفة السورية في السنوات الأخيرة أثر طيب في النفس، إذ أعادت إلى الذاكرة اسم هذا الرائد الذي كان له مع أبناء جيله حافظ الجمالي، أنطون مقدسي، ومن قبلهما جميل صليبا دور كبير في بناء صرح الثقافة في سورية، فضلاً عن دورهم التربوي في الجامعة السورية بدمشق. وحتى لا ننسى آباءنا وحتى لا نكون من أولئك العاقين أرى أن يعاد نشر نتاج هؤلاء الأعلام، وأن يُوجَّه الطلاب إلى دراستهم لعلهم بهم يقتدون.

الدكتورة أسماء أحمد معيكل -مدرّسة النقد الحديث في جامعة حلب ونائب عميد كلية الآداب الثانية بإدلب للشؤون الإدارية-:
إن أي كلام سيقال في حق الأستاذ الدكتور فاخر عاقل -رحمه الله- سيبقى قاصراً عن التعبير عن هذه القامة العلمية التي كان لها بصمة واضحة في مجال الدراسات النفسية والتربوية، فقد ترك لنا مجموعة ضخمة من المؤلفات، ولعل «معجم العلوم النفسية» من أهمها، فقد أمضى في تأليفه ما يقارب السبع سنوات فجاء أشبه بالموسوعة.

ومن اللافت للنظر ما قدمه الراحل من أفكار مهمة في مجال البحث العلمي وتطويره، ووعيه لأهميته في التقدم العلمي وتطوير الجامعات السورية وتحديثها، وهذا ما يتم العمل عليه اليوم. فقد أولت الحكومة ووزارة التعليم العالي أهمية كبرى للبحث العلمي في الجامعات السورية. ومن الأمور المهمة التي تنبه إليها الدكتور عاقل أيضاً سياسة الاستيعاب في الجامعات السورية، وضرورة إعادة النظر فيها، لأنها تقف وراء تراجع مستوى التعليم العالي وذلك لأنها تسمح لكل طالب أن يدخل الجامعة بدون أن يداوم أو يتصل بالأساتذة. وإذا كان الدكتور فاخر يشير إلى أن مستوى الطلاب لا يجب أن يكون محصوراً بالكتاب المقرر مما يسهم في تراجع السوية العلمية لأنه ينبغي على الطالب أن يطلع على مراجع أخرى. والآن تعمل وزارة التعليم العالي على حله، وقد تمت الموافقة مؤخراً على اعتماد نظام الساعات المعتمدة في عدد من الكليات للعام الدراسي 2010/2011، ومن هذه الكليات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الثانية بإدلب. ولعل ما كان يصبو إليه الراحل الدكتور فاخر عاقل سيغدو حقيقة في قابل الأيام.

الدكتور حليم أسمر -أستاذ تاريخ الفلسفة في كلية الآداب بجامعة حلب-:
إن فاخر عاقل من رواد الدراسات الإنسانية والتربوية في النصف الثاني من القرن العشرين وفي العقد الأول من الحادي والعشرين. لقد اهتم كثيراً بقضية الذات الإنسانية ومعرفة الإنسان وقبوله لذاته والنظر إليها بإيجابية، وأكثر ما اهتم بمسائل التنمية الفكرية والسواء النفسي. ومن منطلق واقعيته هاله ما أصاب الإنسان في الربع الأخير من القرن العشرين، وخاف كثيراً على ما سيؤدي إليه الاستهلاك بقضايا الانتماء وإيجابية الحياة.

من هذا المنطلق تابع رحلته البحثية واختار دار السعادة بحلب مسكناً جديداً بعد أن زودها بمكتبة وحسّن كثيراً في الأثاث. عاش عمره خلية نحل لا تكل ولا تمل، ويكفي الاطلاع على مؤلفاته كي نتيقن من هذا الكنز الذي حمله هذا عاقل. حقاً تموت أجساد هؤلاء وتفنى لكن تبقى شعلة إبداع العاقل وأمثاله منارة متقدة في شرقنا الجميل.

الشاعر محمود علي السعيد -رئيس لجنة حلب لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين بحلب ورئيس اللجنة الثقافية في النادي العربي الفلسطيني بحلب-:
في حضرة الموت وأمام سطوة جبروته، ماذا بمقدور المرء أن يقول أو يصرّح؟ وبخاصة إذا كان الراحل هرماً من أهرامات الثقافة، وركيزة أساسية من ركائز المعمار التربوي الشاهق، ومحجاً تطرق أبواب أروقته طلبة العلم وظمأى المعرفة وقاصدو الفكر، فما بالك إذا كان المومأ إليه بالمهج والأفئدة اسم علم تجلت فيه صفتان ناصعتان من صفات النبل والبهاء والتألق، إنه «فاخر» بكل ما تتضمن هذه اللقطة من شيمة السؤدد والفخار والفروسية، و«عاقل» بكل ما يؤجُّ في موقدها من جمرات سداد المحاكمة، ونفاذ البصيرة وضلاعة المناقب ورجاحة الفكر.

فحقيقة الأمر باعتراف النخب العربية المثقفة، قاصيها ودانيها، أن هذا العلامة الاستثنائي والمربي السبّاق والباحث والموجه والمفكر الذي تنصب له أقواس الولاء والاعتراف والتقدير، وتقام له أعراس واحتفاليات التصفيق، أسطورة علم النفس والتربية، بكل تجليات وجوهها، ومناهل أفرعتها، ضخ في شرايين الأجيال المتعاقبة طهارة الدم ونقاءه وفي قفصها الصدري صفاء الأوكسجين وفاعليته، وفي حوجلة عقولها نصوص التقدم والمواكبة لحضارة الثقافة وتخلقاتها العصرية بتقانة الأداة والبنية والمعطى من خلال بعض المعاجم في العلوم النفسية التي ترجمت إلى غير لغة عالمية، فخسارة هذه القامة العلمية والتربوية والاجتماعية التي كانت العربية أهلها وقبيلتها، وجامعة دمشق وقاعات اليونيسكو فضاء ومأوى لواعجها. إنه ليس خسارة فردية للأهل والأقارب والخلان فقط، بقدر ما هي خسارة جمعية ومصاب جلل مُنيَت بها أمة الضاد من فاتحة قاموس الكلمات الأولى (اقرأ) إلى خاتمة مطاف الأسئلة الوجودية من أين وإلى أين وكيف ومتى؟!

الشاعر محمود أسد:
برحيل الدكتور فاخر عاقل عن اثنين وتسعين عاماً، تفتقد الساحة المعرفية علماً من أعلامها ورجلاً أعطى الأجيال ثمار تجربته وخبرته المديدة والغنية التي توّجها بمؤلفاته في الفلسفة والتربية. رحل بصمت وعمل بصمت وترك الآخرين يقدّرون جهده ومعارفه من المحيط إلى الخليج.

لي محطات عدة مع المرحوم الدكتور فاخر عاقل رغم الفارق بالسن، عرفته صغيراً دون أن أقابله أو أقرأ له، فهو من كفر تخاريم ولادة ونشأة أولى، وأنا أنتمي بالأصل لهذه البلدة الجميلة والغنية بمثقفيها ومبدعيها. وكثيراً ما كان يُذكر أمامي من الوالد رحمه الله، ويذكر والده وأسرته بالعلم والأخلاق والنشأة الفقيرة والعصاميّة في النهوض والتأسيس. وهذا ما حببني وجعلني أزهو به أمام الأصدقاء وزملاء الدراسة. واللقاء الأخير به تتويج للمعرفة الأولى، وذلك عندما فتحنا أعيننا على مجلة «العربي»، في بداياتها وبداية نشأتها على المطالعة بفضل المدرّسين الذين حببوا لنا المطالعة، وكانت المجلة تحتفي بمقالاته إلى جانب الكثير من الدوريات، وجل مقالاته ليست عصية عن الفهم، وليست ألغازاً يبتغي من ورائها الاستعراض المعرفي، بل كان على مقربة من الأجيال تبسيطاً للمعرفة، ومدّاً للجسور، ومجلة «المعرفة» السورية تثبت ذلك.

والمعرفة عن قرب كانت في دار السعادة للمسنين، زرتُه مرتين بصحبة أبناء البلدة والأقرباء له، وكانت الجلسة معه دوحة عطرة، وكانت إقامته ممتازة، وفيها الكثير من الرعاية به وبتوجيه من السيد الرئيس الذي كرّمه وبمتابعة من المحافظة. في هذه الجلسة، شدّني حديثه الذي يشي بأدب معرفي، وركز على أهمية التحليل المخبري في مجالات المعرفة.

المرحوم الدكتور فاخر عاقل لم تمت أبحاثه، ولم ترحل روحه عن صفحات كتبه، طلابه يذكرونه ولم أكن طالباً إلا بما قرأت واستمعت له، هو أنموذج للاستمرار، وهو نافذة لبوابات المعرفة لمن يجهل الطريق إليها، وما أحوجنا إلى آرائه، نستعين بها في مناهجنا وأسس التربية. رحمه الله.

بيانكا ماضيّة – حلب

اكتشف سورية

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.