عاصي في بال فيروز.. وفي بالنا جميعاً
شكّل الرحابنة وتجربتهم حالة موسيقية خاصة

إيمان الذياب

حزيران 21, 2017

عاصي في بال فيروز.. وفي بالنا جميعاً

تناقلت وسائل الإعلام خبراً عن شريط فيديو، تضمّن لحناً موسيقياً لأغنية جديدة، نشرته السيدة فيروز على صفحتها في فيسبوك. وجاء في الخبر أن السيدة فيروز تستعد لإطلاق أغنيتها الجديدة “ببالي” يوم الأربعاء 21 حزيران المصادف لذكرى رحيل زوجها الفنان عاصي الرحباني.

وبغض النظر عن النقاش الذي أثارته الأغنية وعن الانتقادات التي توجهت إلى ريم الرحباني – وهو ما يمكن الحديث عنه على حدى- إلا أنه ليس غريباً على السيدة فيروز أن تحييّ الفنان عاصي الرحباني في ذكرى وفاته، وأن تختار الغناء طريقة للتحية. فعاصي الرحباني بالنسبة لها ليس مجرد زوج، بل هو شريك حياة ومسيرة فنية مميزة، وتجربة رائدة واستثنائية غنية في الغناء والمسرح.
شكّل الرحابنة وتجربتهم حالة موسيقية خاصة، تمكنت من الارتقاء بالذائقة الفنية العربية، وكان لهذه التجربة سلطتها الواضحة على ذائقة متلقيها، وعلى كل المكوّن الثقافي الشعوري والنفسي العام. تميّز فن الرحابنة بما قدموه، شعراً وغناء وموسيقا ومسرحاً وتأليفاً وتمثيلاً، عبر ترويض الحرف واللحن. كما تميّز فنهم أنه محبوب من جمهور واسع متنوع الميول والثقافات، من خلال الأغنية التي تبدو بسيطة وعفوية ولكنها تلامس هموم الناس اليومية ومشاعرهم، ومن خلال المصداقية العالية في كتابة اللحن والحوار.
عاصي الرحباني غني عن التعريف، انه واحد من اثنين أوجدا في تاريخ الموسيقى العربية ما عُرف بـ “الأخوين رحباني” عاصي ومنصور رحباني. ولد عاصي في 4 أيار1923 في بلدة أنطلياس بلبنان، في عام 1954 عقد عاصي الرحباني قرانه على فيروز وأسسا معاً مشوار الفن والحياة ، حيث اكتمل الوجود الرحباني بوجود فيروز ولاحقاً بوجود ابنهم المؤلف والملحن زياد رحباني. قدم عاصي مع أخيه منصور الأعمال الغنائية والمسرحية تحت اسم الأخوين رحباني. أصيب في عام 1982 بنزيف حاد في الدماغ وأجريت له عملية ناجحة و كانت مسرحية المحطة أول عمل مسرحي له بعد الشفاء.
في عام 1957 قدمت فيروز من ألحان الرحباني مسرحيتها الغنائية الأولى (جسر القمر) في مهرجانات بعلبك الدولية. ومنذ عام 1962 وحتى عام 1976 توالت الأعمال المسرحية الغنائية لتبلغ ستة عشر عملاً . وكانت مسرحية (هالة والملك) عام 1967 أول مسرحية تقدم على مسرح بيكاديللي في بيروت، ويتكرس معها طقس سنوي تتحول معه العاصمة اللبنانية كل عام إلى مهرجان كبير.
كان للمسرح الرحباني حضوره السياسي والاجتماعي الدائم، تمكن من خلال صوت فيروز وكلمات أغانيها، أن يظهر ملامح هوية واحدة، وأن يكون وسيلة لتلاقي اللبنانيين في زمن تفاقم فيه صراعاتهم الدموية، حيث كان صوت فيروز هو الرابط الوحيد الذي يجمع العائدين من نهارات حافلة بالموت العبثي، وكما تقول في إحدى أغانيها، كان: «القمر بيضوي عالناس والناس بيتقاتلوا». أما سبب تأثير الأغنية الرحبانية على شرائح هامة ومتعددة من الناس فقد اكتسبته من صوت فيروز المتفرد، وإمكانيات الرحابنة الغنية في الشعر والموسيقى، إضافة إلى المحتوى الهام والعميق الذي قدموه في فنهم.
استطاع المسرح الرحباني الخروج من التقليدية والنمطية، وأضاف الرحابنة بعداً درامياً من خلال تلحين الكلام البسيط والعادي من جهة، ومن خلال رسم شخصيات لا تنسى، شخصيات تعلق في الذاكرة، ببساطتها وعمقها وما تمثله في الواقع الحي، من جهة أخرى. إضافة إلى كونها شخصيات غنية ومتنوعة لا يمكن إحصاءها هنا، ولكن يمكن الحديث عن بعض النماذج، كشخصية الشاويش، وشخصية ريما الفتاة التي تشفق على خالها المختار نصري شمس الدين وتضيق من أكاذيبه، وراجح الذي خرج من إطار الصورة الخرافية (لقاطع الطريق) إلى الواقع إلى راجح (بياع الخواتم). إضافة إلى شخصيات أخرى ذات طابع رمزي، مثل شخصية (البلدية)، فالبلدية هي “الشخص” الذي يرتعد الناس عندما يذكر. ومازالت هذه الشخصيات حاضرة كأيقونات، يتناولها الناس عندما يواجههم موقف مشابه.
أما في السينما، لم تكن الأفلام الثلاثة التي وضعها الأخوان عاصي ومنصور الرحباني مختلفة كلّياً عن أجواء أعمالهما المسرحية. فالفيلم الأول، بياع الخواتم (1965) ليوسف شاهين، ليس إلاّ تصويراً سينمائياً لمسرحيتهما التي تحمل العنوان نفسه، وكذلك كان حال الفيلمين الآخرين، سفر برلك (1966) وبنت الحارس (1967) لهنري بركات، وقد كُتبا خصيصاً للسينما، إلاّ أن الأخوين الرحباني (اللذين ألّفا القصّة وكتبا السيناريو والحوار للفيلمين الأخيرين، بينما كتب صبري الشريف نص بياع الخواتم، بالإضافة إلى تأليفهما الموسيقى والأغنيات) اعتمدا الصيغ نفسها التي ميّزت أعمالهما المسرحية، المناخ الريفي غالباً، ومقاومة الظلم، حب ورومانسيات وتقاليد… الخ) من العناوين التي كرّراها مراراً في مسرحهما.
مسرحيات غنائية عديدة تركها عاصي الرحباني في إرثه: (البعلبكية، أيام فخر الدين، جبل الصوان، الشخص، يعيش يعيش، الليل والقنديل، صح النوم، المحطة، لولو، ميس الريم….)، وأخيراً بترا عام 1976 التي طوت بها فيروز صفحة من حياتها بغياب عاصي الرحباني.
عاصي الرحباني في ذاكرتنا، ولا بد من استذكار بعض كلماته: “لا يُمكن لأحد أن يُسمّي نفسه جديداً أو قديماً أو ثوريّاً. ما سَيُسمّيه ويقيّمه في النهاية :الناس والزمان”. نتذكره نحن أيضاً كل صباح بصوت “السيدة”، نفتتح به نهاراتنا.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.