محمود طه

الفنان التشكيلي محمود طه . بقلم

الفنان التشكيلي الفلسطيني الأردني (محمود طه) من مواليد بلدة “يازور” قضاء مدينة يافا بفلسطين عام 1942، ارتحل مع جموع المُهجرين قسراً من بيوتهم بفعل الغزوة الصهيونية على فلسطين عام 1948، أخذته دروب نكبتها، وأسرته كلاجئين مقيمين إقامة مؤقتة في مدينة عمان الأردنية. الخيمة والمخيم محطته الأولى بما فيه من بؤس وألم وتأثير في تكوين ملامح شخصيته السلوكية والفنية، ومساحة كاشفة لمعاناته ومبلورة لمواهبه المتوارية في عقله الباطن، ومخيلته الجامحة ليدخل مسيرته الفنية بثقة وقوة، عاكساً مرئياً لسجل واقعه البائس، الذي دفعه إلى تشكيل مناطق وعيه المبكر بالقضية الفلسطينية وموقعه فيها، وقد كانت موهبته الفطرية في مجالات الكتابة وخط الرقعة خصوصاً، نقطة الانطلاق نحو نضجوه الفني والتقني في ميادين الحياة العملية، والفنون التشكيلية والتطبيقية.

بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، خاض معركة القبول في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد عام 1962، وفي تلك الفترة تعرف على الخطاط العراقي الشهير هاشم محمد البغدادي، وتتلمذ على يديه أصول الحرفة والصنعة، متابعاً بذات الوقت مجال تخصصه الأكاديمي في ميادين الخزف مُتخرجاً عام 1968، مستكملاً دراساته العليا في كلية كاردوف للفنون في مقاطعة ويلز البريطانية عام 1974. مكنته حرفة الخط العربي بعد عودته إلى مدينة عمان الأردنية من فتح دكانه الخاص بالمواد الدعائية الإعلانية، ومتابعة مسيرة حياته وفق آليات محددة، وعمل أيضاً في مجالات البحث الفني وتدريس الخط العربي والتربية الفنية في كليات المجتمع بمدينة عمان، وكان له شرف المساهمة في تأسيس الاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين ورابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين.

لوحاته الخطيّة والحفرية ومنحوتاته الخزفية، تُشكل عالماً غنياً بالصور المرئية والمبتكرات الفنية التشكيلية والتطبيقية، مفتوحة على موهبة صادقة ويد خبيرة أتقنت مجال حرفتها الأكاديمية والمهنية باقتدار فكري وتقني، وشكلت رافعة جمالية لفنون الخزف الفلسطيني، والقائمة على التنوع في المحتوى البصري والمواضيع المسرودة، واللصيقة بذاتية الفنان الشخصية وطريقته في التفكير والتوصيل، ومقدرته الفنية في رسم عوالم متعددة في خصوصية التفرد التقني، وتخير محتوى الموضوعات المطروقة، وأعماله الخزفية ومدوناته السردية حفرت له بصمات راسخة وأنيقة في الفن التشكيلي العربي والفلسطيني خصوصاً.

بداية مسيرته الفنية كانت متكئة على نبش ركام المواضيع ذات الصلة بالتراث العربي الإسلامي، وتأخذ من الخزفيات الإسلامية نماذج مُستعارة لتوليد خزفيات في معالم سردية جديدة، حاضنة لمفاتن الخط العربي التقليدي، والمسطحات الهندسية المكررة والمتوازنة في تناغم الإيقاع والتوالد والمقابلة، والمشابهة الشكلية في سياقاتها النمطية التي تولي الأهمية للتجريد وروحانيات المدلول الرمزي المتوارية في ثناياها، محمولة بجماليات الشرق العربي الإسلامي بكل تجلياته الوصفية.

أعماله مُحملة بمفاتن الوصف البصري، وتجليات التقنية المفتوحة على جودة الصنائع والحرفية المتمكنة من حدود موهبة صانعها، وطاقة الخامات المستعملة متعددة المشارب والصنائع والدروب، سواء أكانت في ميادين الخط العربي والحفر والطباعة اليدوية، المشغولة على مواد ولدائن وخامات بيئية متعددة، أو مشغولات خزفية عامرة بفنون النحت ثنائي وثلاثي الأبعاد المنظورة، جميعها موصولة بخبرة ذاتية مفتوحة على التجريب والمحاولة، والوصول إلى جادة الإتقان والخبرة والابتكار، وجودة في الصنعة وتفرد في الأسلوب وتصلح أعماله وتجاربه الفنية لأن تكون مدرسة فنية ومرجعية بصرية وتقنية لدارسي عوالم الخزف الفني بملامحه العربية الإسلامية.

الأحداث الجسام المواكبة لحركة النضال الوطني الفلسطيني والقومي العربي، أخذت من أعماله ومبُتكراته كل مأخذ، وضجيج الحروب والمعارك الصهيونية وسياسة القتل الدامية للأطفال والنساء والشيوخ من أبناء الشعب العربي الفلسطيني، احتلت حيزها المكاني ولحظتها الموثقة لسجل الإجرامي، وأمست بمثابة صلة وصل بصري، ووثيقة سردية تؤرخ لتلك المجازر الصهيونية المرتكبة بحق شعبنا الفلسطيني لاسيما في قطاع غزة العزة المُحاصرة، والمطوقة بالحروب متعددة الأشكال، وما الحرب العدوانية المجنونة في نهايات العام 2007 إلا بعضاً من سجاياها.

ولمدينة القدس المُقدسة بجميع معالمها وخصوصيتها ثمة متسع لفرجة وتدقيق لبيان بصري، كانت ومازالت تستوطن مساحة الوعي الفكري والفني والجمالي من ذاكرة الفنان الشخصية، ومكانتها في مساحة حلم التحرير والعودة الفلسطيني، ما زالت عبقة في نسيجه الوصفي والشكلي، تُمثل عروسه البصرية ومرجعيته البحثية المزينة بوهج الأفكار، وجماليات التأليف الشكلي، ومفتوحة على جميل الصنعة وغواية التنوع التقني، يربطها الفنان بخيط ابتكار تقني ومعرفي واحد، قوامه مفهوم الوطن الفلسطيني والمواطنة وحلم الدولة الفلسطينية الجامعة لتراب الوطني الفلسطيني من أقصاه إلى أقصاه، وتجسيد حسي لذات غارقة في هموم الوطن، مدرجة بتقنيات متنوعة وجامعة لمقاماته البصرية في لحمة فكرية واحدة أيضاً.

فالقدس المدينة المقدسة هي الاسم الحركي لمجموع المدن الفلسطينية، ومفردة تشكيلية جامعة، ومستعارة من بيوت القدس القديمة ومعالمها التاريخية الدينية المسيحية والإسلامية، ومستلهمة من سور وآيات قرآنية دالة على قدسية المكان في ذاكرة العرب والمسلمين، عبر توظيفه التقني الموفق في لوحات وأعمال فنية تشكيلية متعددة الصنائع، تخرج من بين يد الفنان وذاكرته الحافظة، رؤى سردية جامعة وشاملة لجماليات النفس والهوى والطموح، تُخلد الأثر المكاني ويوميات المعايشة في أعمال فنية تشكيلية وتطبيقية، هي أشبه بتذكارات وبطاقات دخول مريحة إلى فضاء القدس، وتوثيق بصري فكري وجمالي لمدارات الوطن الفلسطيني والمدينة المقدسة.

عن موقع مؤسسة فلسطين للثقافة
http://www.thaqafa.org/Main/default.aspx?xyz=BOgLkxlDHteZpYqykRlUuI1kx%2fVDUOFoRdwhY%2bFKoYcgx9pW9pRqdojbFsgaQsTXgZFV%2fkvlXRhPrxAewbcYQvd8WHqSp6I9eeiWH5KmoUPxN%2f7ha2SaY8kTjxtosqlruldP8ipqgZQ%3d

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.