واقفًا على صخرة مرتفعة بينما يرقد ثقب أسود فاغر الفم بالأسفل؛ قد لا تجد الشجاعة لمجرد النظر إلى الهوة المريعة يلا قاع تحتك فضلًا عن القفز إلىها! فقط هم سكان ولاية تكساس والسائحون القادمون إليها هم من قد يفعلون هذا طيلة الصيف كطقس محبب للتخفيف من قيظ النهار الذي لا يحتمل!

في ولاية القش تكساس كما يطلقون عليها، يقع ذلك الينبوع الطبيعي الشهير باسم “بئر يعقوب Jacob’s Well”. وعلى الرغم من أنه مقصد سياحي واستجمام معروف يقصده الآلاف كل عام خلال الصيف للاستمتاع بجمال مياهه الصافية والباردة، إلا أن الجميع يعلم كيف تتحول الهوة المظلمة بلا قاع إلى فخ مميت يقتل كل من يغامر باستكشاف ما يخفيه البئر الظاهري عن الأعين عميقًا.

وبالتماشي مع مظهره المخيف للكثيرين والساحر في الوقت نفسه، يعد بئر يعقوب أحد أخطر الأماكن للغوص في العالم إن لم يكن أخطرها على الإطلاق؛ بعدما حصد أرواح ما يزيد عن 9 غواصين حتى الآن، بخلاف حالات الاختفاء والموت غير المسجلة.

جمال يطغى على الخطر

ولاية تكساس الأمريكية معروفة بطقسها الحار للغاية في الصيف. لا تنسوا أن تكساس تقع أقصى الجنوب، أي أنها بمثابة الصعيد للولايات المتحدة الأمريكية. دعكم من أنها كانت يومًا جزءً من المكسيك، أي أنها تشاركها مناخها الرطب شبه المداري. هكذا، يهرع السكان إلى شواطيء المحيط الأطلسي أو إلى العيون والجداول المائية العذبة هربًا من الحر؛ وبئر يعقوب أحد المقاصد المميزة مع مياهه العذبة اللطيفة التي تصل درجة حرارتها إلى 20 درجة سيلزية فقط أثناء الصيف، ومع درجة الصفاء والنقاوة الفائقة للمياه نفسها.

يبلغ قطر الينبوع الظاهري على السطح حوالي 4 أمتار، ويهبط عموديًا لحوالي 10 أمتار، ثم يواصل الهبوط بشكل مائل عبر سلسلة من الغرف المترابطة التي تعد مدخلًا لأطول ثاني كهف مغمور بالمياة في تكساس بعمق يصل إلى 37 مترًا وأكثر كما سنرى لاحقًا. ويحصل بئر يعقوب على مياهه العذبة في الأصل من خزان ماء Trinity Aquifer الجوفي المهول الذي تفيض مياهه عبر الكهف المغمور إلى السطح عبر البئر وتنطلق لتغذية جدول Cypress Creek القريب.

كهوف مميتة!

على الرغم من أن العمق الذي يصل له البئر نفسه كبير بما يكفي لتعريض حياة الزائرين للخطر، إلا أن السبب الحقيقي للوفيات التسع المسجلة حتى الآن تعود إلى نفاذ أسطوانات الأكسجين الخاصة بالغواصين المدربين والاختناق حتى الموت! قد يبدو هذا غريبًا للوهلة الأولى خاصة مع احترافية وتدريب من يغوص إلى الكهف الرابض بالأسفل والذي يصل عمقه كما قلنا إلى 30 مترًا فقط، وهو عمق ليس بالكبير في عالم الغوص المجهز بالأدوات. لكن الحال يختلف هنا مع كهف بئر يعقوب المميت، أو بالأحرى كهوفه المميتة!

لحل لغز كهوف بئر يعقوب المتداخلة والمتشابكة، تم إطلاق حملة استكشاف بقيادة مجموعة مدربة من الغواصين المحترفين في عام 2000 فيما عرف بمشروع استكشاف بئر يعقوب Jacob’s Well Exploration Project- JWEP؛ وبعد 7 سنوات كاملة في عام 2007 استطاع الباحثون رسم خريطة كاملة ودقيقة لشبكة كهوف بئر يعقوب. حتى الآن، تم توثيق ما يقارب 2 كيلومتر من الممرات والكهوف الممتدة تحت الماء! لا عجب أن ضل البعض طريقه في تلك الكهوف عند استكشافها دون حذر، لينتهي به الأمر تائهًا وسط الظلام والبرودة إلى أن لاقى مصيره المؤلم والمحتوم.

من جربوا الغوص في كهوف بئر يعقوب يقولون أنه لا مشكلة بأول كهفين في ممر الكهوف الطويل والمتشابك، فقط بعدها تصبح الأمور أكثر خطورة، حيث تثير أي خطوة زوابع صغيرة من التراب والطمي الذي يجعل الرؤية مستحيلة مما يثير الذعر لدى الكثيرين.

"لا يمكنك تمييز أي اتجاه، فلا تعلم أين الأعلى من الأسفل، أو أين اليمين من اليسار بينما تزحف على القاع الموحل وترتطم أسطوانة الأكسجين على ظهرك بالسقف المنخفض الذي يضغط على عالمك! لا يوجد ما يمكنه إنقاذك هنا إلا تدريبك ومدى احترافك؛ ولكم كانت سعادتنا غامرة عندما خرجنا من ذلك الجحيم المائي بالأسفل!"

كان ذلك أحد الغواصين الذين شاركوا في عملية انتشال جثة أحد الضحايا الغارقين في أحد كهوف بئر يعقوب المنسية عام 2000، كما جاء في مقال مطول للكاتب لوي بوند Louie Bond والذي يصف به القصص المقبضة لمهام الغواصين في 5 كهوف أسفل البئر بفتحات ضيقة للغاية بحيث اضطر الغواصين إلى انتزاع اسطوانة التنفس مؤقتًا لعبورها! في الواقع، يضيق تنفس المرء مع تخيل هذه الأماكن الكابوسية تحت الأرض المغمورة بالماء…

وحتى على السطح حيث فوهة البئر الخلابة، لا يخلو الأمر من المخاطر التي لا يحمد عقباها حيث يحلو للجميع القفز إلى قلب فوهة البئر المفتوحة من قمة الصخور المرتفعة التي تطل على البئر، ويتسابقون كذلك للقيام بحركات أكروباتية في الهواء قبل الارتطام بمياه التيار الصاعد عبر البئر. لا حاجة لنا بالقول بأن كل هذه الأمور ممنوعة قانونًا، لكن موقع يوتيوب يضج بعشرات المقاطع التي تعرض كيف يضرب زوار البئر بتلك القوانين عرض الحائط بحفلات جماعية يتم توثيقها للذكرى!

بئر مقدسة؟

وفي الختام، فعلى الأرجح قرع العنوان في رأسك جرسًا ما؛ جرس يتعلق ببئر يوسف عليه السلام أو بئر يعقوب عليه السلام وقصص كليهما قد وردت في الكتب السماوية كالعهد القديم والعهد الحديث والقرآن. ربما كان هذا هو الحال قبل قراءة المقال بالكامل، فكما هو واضح، بئر يعقوب الموجود في ولاية تكساس الأمريكية لا علاقة له على الإطلاق لا ببئر يعقوب المقدس (بئر السامرية) الموجود في بلدة بلاطة على مقربة من مدينة نابلس الفلسطينية، أو ببئر يوسف عليه السلام الذي لا يعلم أحد على وجه التحديد أين هو بالضبط على الرغم من أن هناك من يقول بأنه موجود في مصر بقلعة الجبل بينما يقسم آخرون بأنه في سوريا؛ ويعتبر البعض الآخر الأمر منتهيًا بأنه موجود في نابلس الفلسطينية ببلدة قبلان.

هكذا، لم أجد سببًا مباشرًا لتسمية ينبوع تكساس الشهير ببئر يعقوب، لكن على الأغلب هو لصبغ بعض القدسية على ذلك الينبوع المعجز الذي لا ينضب بتشبيهه بالبئر الذي حفره نبي الله يعقوب ليشرب هو وأبناؤه وقطيعه منه منذ آلاف السنين. مع هذا، وسواء كان هذا هو السبب وراء التسمية أو لا، سيظل ينبوع بئر يعقوب بولاية تكساس أعجوبة مدهشة تجمع بين الجمال والموت في آن واحد!

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.