ابراهيم هزيمة

الفنان التشكيلي الفلسطيني “إبراهيم هزيمة ” المولود في مدينة عكا عام 1933، فطرته دفعته نحو مزاولة الفنون وهو في سن مبكرة، لكن نكبة فلسطين الكبرى على يد المغتصب الصهيوني عام 1948، أجبرته وذويه قسراً إلى مغادرتها باتجاه مدينة اللاذقية السورية، لتكون مقراً مؤقتا لإقامته، شأنه في ذلك كسائر الأسر الفلسطينية المشردة، عمل في بداية مرحلة التشرد في ميناء اللاذقية، محاطاً بامتداد بحر عكا وذكرياته وأماله وطموحاته، موهبته دقت على مساحة المخيلة وجماليات التذكر والرؤى دقاً تعبيراً حثيثاً، لتمتد يده المرنة بمرح وعبث طفولي فوق شفاف الورق وتداعيات الخطوط والملونات، تبني قصور حلم خفي ودفين.

محاولاً عبر الرسم والتلوين بث همومه وانفعالاته، في لوحات متعددة المشاهد والتقنيات والمواضيع، قادته مواهبه للانتقال إلى العاصمة السورية دمشق كمجال حيوي لعرض منتجاته الفنية، وليتاح له الفرصة حينها لمتابعة الدراسة الأكاديمية لفنون الرسم والتصوير في جامعة “لايبزنغ” بألمانية الديمقراطية وقتذاك، لينال شهادة دبلوم في فن التصوير وشهادة خبرة عالمية بالفنون الجميلة عام 1967، أقام بعد تخرجه مجموعة من المعارض الفردية في المدن الألمانية والأوربية، جعلته محط أنظار جمهور الفن ونقاده، فاتحاً سجله السردي على موطنه فلسطين، ومدينته عكا عروس البحر بكل ما فيها من جماليات واقع وأسطورة ومضامين، يتنقل في حقولها وشواطئها وجبالها طفلاً حالماً، مُحملاً بفرحة الوصول والعودة.

لوحاته مفتوحة على الاتجاهات الواقعية التعبيرية، والتعبيرية الرمزية المكحلة برومانسية سابحة في فضاء الحلم والطفولة، ومدارات التذكر العفوي والساذج لأماكن وشخوص رافقته في طفولته بفلسطين ورافقته في غربته متعددة الأماكن والأسماء، لترسم ملامح شخصيته الفنية، وتعكس حقيقة وجوده كانسان فلسطيني مُشرد محمول بمفاعيل الأمل، وتجليات الحلم المتبقي بالعودة إلى أراضي الجدود. مواضيعه مشدودة إلى بحر مدينته الفلسطينية “عكا” تدخل أزقتها وحواريها وأسواقها، وتلامس سمائها ومائها، ترسم جداول أمل وحكايات لا تنتهي في حدود الخطوط والملونات، تشدو بملوناتها المعشبة بزرقة السماء وخضرة السهول والمروج، موشاة بقصائد التراث الفلسطيني، ووجوه النسوة المتفائلات بغد مشرق عزيز، بحر عكا هو مفتاح أسراره، ولازمة موسيقية تشكيلية تُرافق جميع مكوناته.

تحيل الرموز والشخوص إلى مكانها الطبيعي في مداد الذاكرة الحافظة، باعتبارها مجاله الحيوي المقابل لفطرته ودربته وخبرته الأكاديمية والمهنية، يجود فيها بملامس ريشته المرنة فوق سطوح الخامات المستعملة، تبني هندستها المعمارية المتواترة، داخل متن قصائده البصرية المسرودة، والمتناسلة في سياق عمائر هندسية من خطوط وألوان وعناصر مستعارة من ذاكرة وواقع، جعلته الأكثر رومانسية في توصيفات البحر وفضاء الجغرافية والطبيعة الفلسطينية، ذات التوجه الرمزي المُحمل بتجليات الواقع والتراث. الوطن والمواطنة ساكنة في ضلوعه وجوارحه ومناطق وعيه وحدسه وتفكيره، محمولة بحق العودة المقدس إلى فلسطين الحبيبة بالرغم من مرور نحو اثنين وستين عام على الاغتصاب الصهيوني لفلسطين. هي الأرض الفلسطينية المخضبة بدماء أبناءها ومكوناتها الطبيعية، ضاربة عميقاً في تربتها المعطاء، تستوطن جميع مكونات لوحاته.

وترقص على أنغام التغريبة الفلسطينية متعددة التقاسيم والأوتار، تجدد في فسحتها التصويرية متسعاً لقول فلسطيني متاح، ولتجعل من الفنان واحداُ من أعمدة الفن التشكيلي الفلسطيني ومن رواده المؤسسين، ولتجد أساليبه ومحتوى لوحاته طريقها إلى لوحات الآخرين، كمرجعية ثقافية وبصرية للعديد من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، وتجمع في طياتها الموصوفة أشتات الوطن الفلسطيني، ومساحة الحلم بالتحرير والعودة في مجموعة من اللوحات المستوفية لجميع شروط مقوماتها، والمُكرسة في شكلها ومضمونها وخصوصية منتجها، كقامة فنية تشكيلية فلسطينية لها مكانتها في مساحة التشكيل العربي والعالمي.

لوحاته هي نسيج ذاته الوجودية كإنسان، وما تبقى من يفاعته وطفولته عن ذكريات الوطن الفلسطيني المستلب، والمتوالدة في مخيلته المعمرة بدراسته الأكاديمية في أحضان التعبيرية الألمانية، تأخذ بعضاً من رحيقها، ويعود في متنها المسرود إلى أحضان مواطنته العربية الفلسطينية الحالمة، في سياق مقطوعات لونية لمساحات راقصة فوق قماش اللوحات. وكأنه مُطرز تشكيلي بملونات حاشدة بالتناسق والتوازن البصري في مرئياتها الشكلية، غير معني بالأبعاد المنظورة المتبعة في مستويات الإيهام والبعد الثالث المنظور في الرؤية الغربية، بل ترنو من اتخاذ المساحة المفرودة، والمتآلفة من بعدي الطول والعرض كمجال مرغوب في صياغته مفرداته وعناصره الشكلية المنشورة داخل مكوناته.

اللون في كتله الشكلية المتجاورة هي المجال الحيوي لنسج تقاسيمه البصرية،مليئة بالمشابهة والتواتر الشكلي والمسحة اللونية في كثير من عمائره التشكيلية المطروحة، ولعل لوحته الموسومة باسم “مدينتي بعد المطر” نموذجاً مناسباً لمجموع تجلياته الوصفية والتقنية. ومفتاحاً شكلياً لجميع تجلياته البحثية، نفذها بألوان “غواش” المائية، سعى فيها إلى تكريس مواهبه وخبراته ودربته التقنية، من خلال إيجاد بيئة تشكيلية مواتية في تأليف مساقات وحدته العضوية، في بنائية مؤتلفة من مجموعة عناصر ومفردات منثورة داخل أسوار المساحات المفرودة ، والمستوعبة لخط واللون وتوزيع الكتل الشكلية المتجانسة، والمُعبرة في نهاية المطاف عن وطن ومدائن مقدسة، وشعب عربي فلسطيني مُتمسك بهويته ورموزه ومُعطياته الوجودية والتاريخية، تُشير بوضوح إلى تعلقه بجميع المدن والقرى الفلسطينية وفي مقدمها عكا ومدينة القدس خصوصاً والتي تأخذ من لوحاته حيزاً واسعاً لتفاصيل حكايته الفلسطينية.

البنية الهندسية لعموم لوحاته مؤسسة على أساس تقطيع اللوحات إلى ثلاثة مستويات رؤية وبمسافات طولية وعرضية متماثلة بعض الشيء، المنطقة الخلوية العليا مخصصة للسماء وتداعيات النجوم والغيوم وسواها، والمستوى الشكلي المقابل في أسفل اللوحات فيه حسبة لونية وخطية متوازنة ومتممة ومتكاملة في ملامسها وسحنتها التقنية، بينما يعتلي وسط اللوحة جوهر الفكرة والموضوع المطروح، والتي تُكرس حقيقة وجود الإنسان الفلسطيني بجميع حيويته ونضالاته ودثاره التراثي، كمجامعي لكتل بشرية ذكرية وأنثوية في كثير من الأحوال. تجعل من المساحة المبسطة والفسحة التجريدية داخل عناصرها الرئيسة وخلفياتها الشكلية المتممة، مجرة شكلية مفتوحة على التأمل والقراءة والمحاورة الفنية والمعنوية، وتلمس المقاصد الثقافية والنضالية التي تقف وراء كل لوحة منها. وتدخل المتلقي ومساحة الرؤى من بصره وبصيرته على متن روح القصيدة البصرية التي يسعى الفنان ” هزيمة” الوصول إليها. كتدوين لذاكرة شخصية جمعية في مدلولها ومحتواها الشكلي ورمزيتها الموصولة بالقضية الفلسطينية من ألفها على ياءها.
ــــــــــــــــــــــ

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.