الفنان عماد الطيب
الفنان التشكيلي الفلسطيني “عماد الطيب” من مواليد مخيم اليرموك بالعاصمة السورية دمشق عام 1966، يعود في أصوله إلى قرية “معذر” بفلسطين المحتلة إثر نكبة فلسطين الكبرى عام 1948. تعلم في مدارس وكالة الغوث الدولية “الأونروا” بمرحلتيه الابتدائية والإعدادية، متابعاً دراسته الثانوية في ثانوية اليرموك بالمخيم، مواهبه الفطرية ودروب صقلها وجدت لها موئلاً مناسباً من خلال الرعاية المستدامة والاهتمام من مدرسي الفنون وإدارة المدرسة ومحيطه الأسري، ليجد لموهبته الفنية الواعدة متسعاً لمكان، وبما يحيطه من وعي سياسي وثقافي لطبيعة المرحلة السياسية التي تعيشها فصول الإحباط المتوارية في أحضان فصائل وحركات المقاومة الفلسطينية في ثمانينيات القرن الماضي.

وجدت مواهبه الفنية لها طريقها الطبيعي من خلال انتسابه لكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، ومن ثم التخرج من قسم العمارة الداخلية “ديكور” عام 1988. عمل بعد تخرجه مُدرساً لمادة التربية الفنية في مدارس وكالة الغوث الدولية بدمشق، ولم ترق له كثيراً هذه المهنة، وغادرها مُبكراً لمتابعة دراسته الفنية العليا في عاصمة الثقافة الأوربية والنور مدينة باريس وعلى نفقته في البداية، ليدخل مسارات التعلم الذاتي عبر مرئياته ومُشاهداته فيها، مُعداً نفسه وذاته الفنية والأكاديمية لمتابعة رحلة العبور إلى مراحل أكاديمية ومهنية متقدمة، تمهيداً لنيله شهادة الدكتوراه في مجالات تخصصه، وذلك من خلال منحة خاصة مقدمة من الحكومة الفرنسية والالتحاق بجامعة ليوناردو دافنتشي المتخصصة في ميادين التصميم المعماري وفنون الديكور. هو عضو في اتحادي الفنانين التشكيليين الفلسطينيين فرع سوريا، والفنانين التشكيلين السورين، ومُشارك في مجموعة من المعارض الفنية التشكيلية الجماعية الفلسطينية والسورية، وله عدة معارض فنية في المدن الفرنسية.

لوحاته التصويرية سابحة في أتون الرقص اللوني والحساسية التأثيرية لشفاف النفس المكحلة بمساحات من الحلم، والمفارقة لواقعية الواقع الطبيعي المرئي والمألوف في ذاكرتنا اليومية العربية، وتُغادر سرب الفن التشكيلي الفلسطيني المباشر والمعهود، لترسم عوالم خاصة، مبتعدة كثيراً عن يوميات الألم والمعاناة والحزن الفلسطيني الموصوف، ومتخلية عن قوانين النسبة الذهبية وكلاسيكية الفن وأكاديميته التقليدية، وتاركة الحبل التصوري على غاربه في أوصاف شكلية مشبعة بالحداثة التشكيلية والمعاصرة الأوربية المفتونة بالتجريد المساحي للسطوح. لا تبق في واحاتها الشكلية مكاناً لهيئات صوريّة متغنية بملامح الفدائيين الخارجين من واحة الأرض ومسارات الحلم والتمنيات الفلسطينية المرغوبة، والمتوارية في دثار ملامح طبيعية أو شخوص وتراث والمعمدة بأسلحة هنا، ووجوه ملثمة هناك.

تخير الفنان “الطيب” مضامينه من رؤى بصرية إنسانية الهيئة، متوالدة من فسحة الاتجاهات التعبيرية الرمزية والرمزية التجريدية كمساق بصري متآلف، مُنسجم وذاته الشخصية المفتوحة على خيارات الحداثة والثورة بالفن، والموصولة بالتجريب وخيارات تقنية متسعة على جميع المواد والأدوات والأفكار التعبيرية المرافقة، والمنسجمة وحالات الرغبة بالرسم والتصوير والتعبير الذاتي والشخصي لما يجول في النفس والهوى من أفكار، والمتأتية من طريقته التقنية المتراكمة والقائمة على تجليات البناء والهدم التشكيلي التجريدي لمصلحة خياراته الشعرية المحلقة في فضاء التصوف اللوني، والمشغولة عبر خطوات متعاقبة لرسم جملة من الرسوم التمهيدية التخطيطية كمقدمات طبيعة لاختيار واحة رؤاه البصرية.

اللوحة التصويرية لديه مؤتلفة من قماش الخامة البيضاء مفتوحة على تنويعات الطبقات اللونية المتناسلة من تدريجات دائرة الألوان الرئيسة، ومكشوفة على الحسبة الهندسية الرياضية لمتواليات المساحات المتجاورة والمتقابلة، مُشكلة عالماً شكلياً تجريدياً طافحاً بالرومانسية الذاتية، وشاعرية التجلي اللوني الممزوجة بقراءات بصرية لجماليات قصيدة شعرية وقصة هناك، وهي أشبه بترجمات حسيّة من رسام وفنان شاعر وأديب على طريقته التشكيلية الخاصة، والتي تحمل لوحاته باقات من لون وخط وسطوح ومفاهيم. تسربلت الصور والمرئيات باتجاهات التعبيرية الألمانية التجريدية إلى متن لوحاته، استعارة سردية ومعالجة تقنية، تستقوي بالسطوح الملونة لتبني شخوصها المتوالدين في حركاتهم المتداعية فوق سطوح اللوحات، وتجد لها فسحة وارفة الظلال لتناغم الأجساد والملونات في عجينة لونية متواترة، تفتح حضن القصيدة البصرية لمتاهات الرؤى الذاتية للفنان، وتمسك بتلابيب النجوى الشخصية المتخمة بفلول التجريب التقني على السطوح الممتدة دسامة لونية ونفور شكلي لمواد تقنية مُضافة، وكأنه في حضرة ميدانه الأكاديمي “الديكور” يجمع في أعماله جميع فضاء التشكيل والموائمة ما بين الشكل والمضمون، الكتلة والفراغ، فسحة المكان والزمان في تعاقبه السردي.

الذاكرة اللونية هي زاده البصري الذي لا ينضب معينه، وهي مداده السردي في تبيان مقولاته الفنية التشكيلية، وفيه ومن خلاله يتم التآلف السردي ما بين الشخوص الذين يلتقي بهم أو القراءات الشعرية ومنثور الأدب ومجامع المقولات الفلسفية، التي يجد من خلالها متعة لتشكيل عوالم حلم شخصي منتظر على قارعة ذاكرة ومفترق طريق. تبقى تلك الملامح معلقة في ثنايا خفايا حسه الشخصي، انتقالاً عبثياً فوق قماش اللوحات، لترصف يوميات بحث متوارية بأحجية بصرية مفتوحة على التأمل والمحاورة. هذا الأمر جعله يدخل بوابة الأدب عموماً والشعر الفلسطيني خصوصاً من خلال قصائد الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” لاسيما المعنونة “الجدارية” التي فيها ما فيها من تجليات الأنا الذاتي المندمجة بالأنا الفلسطينية الجمعية، والتي وجدت في متنها فرصة لأشكال تعبيرية موصوفة، صاغها في مجموعة من اللوحات، شكلت في متنها الشكلي قطعة فسيفساء واحدة تشكيلية، تستوعب روح النص الشعري بجمالية لونية متكافئة مع ضجيج الحداثة التصويرية الجامعة ما بين الرسم والتلوين والنصوص الأدبية.

لوحته الجدارية تقتحم أسوار القراءات الذاتية للفنان، تسبح في واحة اللون وتدخل دهاليز الذاكرة البصرية المعنية بجدلية الحياة والموت، وفتنة التحدي وصولجان الأمل، وتجوب مساحة دروبهما الوعرة بملامس لونية متسعة على التناغم الشكلي والإيقاعات البصرية المتجانسة، في أطولها الممتدة بنحو سبعة أمتار” كل متر منها حاضن لثلاثة لوحات مربعة في بطول متر متجاورة في واقع ثلاثة أمتار، وكأنه فيها يستحضر الأحجية الرقمية لمدلول رقم سبعة في الأسطورة والميثالوجيا التاريخية من ناحية، ومكانته في النص القرآني من ناحية ثانية، وعلاقته بالمعدود الرقمي ثلاثة في الأشهر الميلادية كاستعارة مكنية على دورة الحياة الطبيعية المتجلية بشهر “آذار” من ناحية ثالثة.

وكأنه يشي بمقولات فلسفية في عين المشاهد وعقله، مقولات شديدة الخصوصية متوازنة وحاصل ضرب الرقمين: (7×3=21) أي الحادي والعشرين كبداية لسنة طبيعية في الفصول الربعة، ودلالة فلسفية رمزية عن ربيع الأرض وميلادها ودورتها الطبيعية. واللوحة تختصر جملة تجاربه السابقة وتختزل مسيرته الفنية تقنياً وشكلياً ومحتوى ومضمون رمزي وفكري وجمالي، يدخل في إطارها مجموعة متناسقة من التلوين والنحت البارز ثنائي الأبعاد من نوع “روليف” يُعشبها بعبارات خطيّة متحركة في سياقها التشكيلي دون دلالات مفهومة ومقروءة، وجودها متمم جمالي ليس إلا. وليُقدم صورته التشكيلية بأثواب الحداثة الغربية الأوربية ذات السمات التركيبية من خواص مواد ولدائن تقنية متعددة

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.