عارف الريس الراقص على إيقاع اللوحة والمنحوتة والكلمة

سناء الجاك
(لبنان)

صاخباً كان الفنان عارف الريس وساخراً حتى لحظاته الأخيرة، لذا رحل من دون تمهيد أو إعلان لمرض ومعاناة. ولم تحل العصا التي كان يتوكأ عليها دون جنون، مارسه وحافظ عليه بامتياز، ليندفع عبره إلى صوفية نسجها من تناقض الثقافات والزهد والاستمتاع بالحياة في آن معاً. خمسة وخمسون عاماً من الرسم والنحت والكتابة. وقبلها اثنان وعشرون من البنيان الإنساني لشخصية الفنان فيه، اجتازها الراحل عارف الريس بالطول والعرض وبتوتر المبدع الضنين بأعماله، والكريم في منحها حتى ابعد الحدود.
ربما يعود السبب إلى أن الرجل كان محكوماً بالتناقض من خلال حياته المتأرجحة بين طفولة مهجرية وعلاقة اختيارية وثيقة بمدينة عاليه في جبل لبنان، حيث كان منزله متحفاً ومحترفاً ممتداً في حضن الطبيعة. وربما ينعكس التأرجح مع بداياته ورغبته الموقتة باعتناق الرقص الإيقاعي ودراسته إياه في احد معاهد باريس، ثم انحرافه عن المشروع إلى عالم آخر يعتمد الحركة، ولكن وفق مفهوم الصدمة، التي لم تفارق أعماله، مهما تنوعت مشاربها ومدارسها.
ولعل مفهوم الصدمة برز في أعمال “الكولاج” النابضة بالسخرية المرة، بعد تشبّع واثبات وجود في الرسم. فلا عجب إن كان يلصق صورة الأميرة الراحلة ديانا إلى جانب هلوسات يستوحيها من كوابيس العالم الثالث. وقد تضيق به الألوان، فينزح إلى الأسود والأبيض ويكدس جماجم تحكي الحرب اللبنانية أو المجهول الذي ينجرف إليه وطنه. وقد يصوم عن الريشة ليروح إلى الكتابة. ثم يفطر فيعمّر فوق نصوصه لوحات جامحة بأداء جمالي يفي بترجمة روح النص وإغنائها. والعمارة هنا فن من فنون الراحل الذي استهوته الهندسة المعمارية، كما قال لي، مؤكداً أنها لا تتناقض مع الجموح والانفلات، رغم الخديعة البصرية التي تملأ بها العين، كما تدل جداريات ضخمة اعتمد فيها المساحات الشاسعة والأشكال الهندسية بصفاء يشغل البصر، ويفصل جوانية الأمكنة عن فضائها الخارجي بحدود تخضع إلى حداثة تشكيلية، تميّز الريس بسبر تفاصيلها.
ولعل تجوال الراحل بين عوالم عدة منحه هذه القدرة على التناقض والتنويع والرقص بين اللوحة والمنحوتة والكلمة، فمن باريس وصراعاتها الفكرية إلى القارة السوداء وعربها إلى أميركا اللاتينية حيث أمضى فترة طويلة إلى لبنان وهمومه الصغيرة قياساً على هموم العالم، لكن الكبيرة في وجدانه، نسج الريس أسلوبه وطوره ومارس عليه انقلاباته كلما طاب له ذلك.
فالحياة لديه تترابط بين المشاغل الشخصية الخاصة والعامة والسياسية والاقتصادية، لذا اخبرني “انه لم يكن يؤمن بنظرية الفن للفن، وإنما الفن للناس، وكما كان يحب أن يقول للسياسيين الذين يدللونه، ويجلدهم بانتقاداته وجهاً لوجه. فقد كان يعرف ويرى ابعد من سطحية المشهد. لذا كان لا يرحم”.
رحل عارف الريس تاركاً لي لوحتين ومجلداً وقعها وأرخها، وتاركاً محترفه الأشبه بالفردوس وابنة وحيدة ربما لا تنوي الاستقرار في البلاد، وكثيراً من الصخب والسخرية الحادة، وأعمالا دخلت تاريخ الفن حتى قبل رحيله، وهذه نعمة قلما حظي بها فنان حقيقي من بلاد العرب.

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.