muslem altaan 

 صوفيّة الصورة الشعرية وشعرية الصورة الفوتوغرافية

د. مسلم الطعان

قراءة مسافاتية في نص (لا تقفل قلبك) للشاعرة والكاتبة العُمانية أمامة اللواتي

تشتغل الشاعرة العُمانية أمامة اللواتي في معظم نصوصها النثرية الشعرية  على مسافة النص الحوارية ما بين صوفية الصورة الشعرية وشعرية الصورة الفوتوغرافية. ثمّة مسافاتية تبادلية بين صوفية الصورة الشعرية وشعرية الصورة الفوتوغرافية في النص الابداعي الذي تكتبه الشاعرة,فالمسافة البصرية تحرّك مكنونات الوعي واللاوعي الجمعي, واللون لا يكتفي بمسافاته الدلالية والسيميائية, وانما يتعداها نحو درامية حوارية تنسج  خيوط لعبتها الجمالية أصابع الشاعرة حين تتعالق مسافة الذهني بمسافة البصري عبر آلية شعرية النص Mechanism of the Text’s Poetics.

مسافة أولى

في النص الشعري الموسوم (لا تقفل قلبك) تستهل الشاعرة نصها المسافاتيّ بالقول:

لا تقفل قلبَكَ للريح

لا تقفل قلبكَ على وجعٍ

ارسم في الصفحةِ ورداً

وغداً يزهرُ في الطرقات.

المسافات تنفتح في نص أمامة اللواتي وهي تنهى عن اقفال القلب وهو منبع الأمل والحياة والإيمان والحب الصوفي الطاهر.فالمسافات تتناسل سريعا في المقطع الاستهلالي للنص.ثمّة دعوة شعرية موّشاة بايقاعية الحس الصوفيّ تصوّر القلب مسافة مشرعة النوافذ على الريح التي تحرّك ستائر النبضات لتبث الحياة ليس في القلب وحده وانما في الوجود برمّته. إن مبدعة النص توظف التقانة اللغوية بايقاع مسافاتي حين تلجأ الى تكرار لا النافية بمسافتين متباعدتين هما مسافة الريح ومسافة الوجع لكن الرابط بينهما تلميحا وتصريحا هي عملية اقفال القلب.أن اقفال القلب دون الريح يجعل الفعل المسافاتي الذي تنشده الشاعرة حبيس المكان,فالريح تشكل قوة مسافاتية اذ انها تنقل الفعل الجمالي الذي ينتجه القلب من الداخل الى الخارج وهذا بحد ذاته فعل صوفيّ مسافاتيّ, وأن عملية اقفال القلب على الوجع يرهقه ويعطل فعله الجمالي المسافاتي الذي ينشده الصوفي في مناجاته وبوحه العرفاني,فهي اذا تنهى عن اقفال مسافة الوجع لأنه يستهلك القلب ويقتات على طاقته ويعطل فعله الجمالي, ونتيجة لذلك يكون لا مناص من فتح نوافذ القلب لتشرع ريح الأمل بتطهيره من ركامات الوجع, وبذلك تتحقق الغاية الجمالية من أن الفعل الشعري هو فعل تطهيري بامتياز. بعد ذلك تنقلنا الشاعرة لاشعوريا الى مسافات عالمها الطفوليّ الأثير لديها كأم وكاتبة تشكل حضورا مهما في أدب الطفل بصورة عامة و في ميدانه السردي على وجه الخصوص. أن أمامة اللواتي تركب هنا مركب المسافة الجمالية اذ تفتح أبواب التأويل مجدّداً عندما تخاطب القارئ-الطفل وتدعوه منذ البدء أن لا يقفل قلبه على الوجع والآهات التي تنهي جمال طفولته وإنما عليه أن يشرع برسم ورود الأمل في أول صفحة من حياته وكأنها تخاطب طفلها أو أي طفل في البيت أو المدرسة أو في مدرسة الحياة على نحو مسافاتيّ, وهذا ما يؤكد شعرية فعل الكاميرا الجمالية للشاعرة التي ترصد كل شيء كما هي في الحياة, اذ أن أمامة اللواتي في واقع الحال تحسن الاشتغال على آلة التصوير التي ترافقها في حلها وترحالها, فهي مصوّرة بارعة في اقتناص اللحظة الجمالية لحركية الوجود ومترجمة حاذقة للحظات صمته المسافاتيّ بلغة ذات شعرية تصويرية وحرفية سردية ذات ايقاع طفوليّ وصوفيّ في غاية الدهشة والجمال, ولا عجب في ذلك فأمامة اللواتي قاصة وشاعرة ومصوّرة حاذقة, وبداهة أن الفن والابداع الانسانيّ يبدأ بالرسم على صفحة القلب وصفحة الوجود ولكن الأروع أن ترسم ورودا في الطرقات وهنا دلالة مسافاتية جلية على الانفتاح على رؤيا الأمل وعدم الركون الى اليأس والخيبة واقفال أبواب القلب, وبذلك فأن الشاعرة تقدم لنا درسا جماليا وأخلاقيا في الوقت ذاته.

مسافة ثانية

في المسافة الثانية للنص تشرع لنا الشاعرة اللواتي نوافذها المسافاتية بالانفتاح على الموروث الديني  Religious Traditionوالميثولوجيا الشعبيةPopular Mythology  اذ تجمع بين شعرية الاحساس اللحظوي وايقاعية الصورة الجمالية لآلية التسجيل الصوري عبر محاورة بصرية-لونية وحسية-لونية في آن. ثمّة لونان يتقاسمان المسافة الشعرية للصورة الفوتوغرافية وهما الأزرق بمرجعياته الدلالية المشيرة لمسافات الحكمة والصداقة والكون المسافاتي اللازوردي, والأبيض الدال على براءة طفولة الكون الأولى ورمز الصفاء والنقاء والطهر والسكينة اذ تقول:

افتح كفَّكَ لا تتردد

في الوسط عينٌ للقدر

(يا حافظ) كن في العون

من شّرٍ يترّصدُ بالقلب.

ثمَّة اشتغالٌ صوريّ يوحي بالبوح اللونيّ المسافاتيّ, فلون الباب أزرق وثمّة عيون تترصد وتضمر الشر, وتأتي المسافة الحسية ممثلة بالأكف ذات اللون الأبيض, اذ تستحضر الشاعرة هنا الارث الشعبي-الديني-الميثولوجي. ومنذ البدء ندرك بأن الشاعرة لم تزل تتحدث عن الشروع بمسافة الفتح وهي مسافة مضادة بطبيعة الحال لمسافة الانغلاق او الغلق القصدي, فالقفل والباب الموصدة من الجانبين هي علامات مسافاتية لفعل الغلق. الشاعرة هنا تتقمص دور العرّافة أو قارئة الكفّ  لتشعل اوار نار النص الدرامية بتوظيف مسافة تراثية أخرى ذات ايقاع ديني Religious Cadence يحيلنا اليها النص, فالعين التي تفتح في وسط الكف هي  بؤرة للشر المضمر الذي تدرأه كلمة (ياحافظ) والحافظ هو اسم من أسماء الله الحسنى تستحضره إليات اللاوعي الجمعي عندما تشعر بمداهمة الخطر ليكون (في العون). ومن أجل التحسب للشر المترصد بسكينة القلب ودعته, تطالب عرّافة الشعر القارئ او جمهور القصيدة بفتح الكفّ وكأنها تريد أن تقرأ مسافة الطالع أو ما سيحدث في قادم الأيام.

مسافة ثالثة

كلّ الموج هنا

فابحر لا تخشى الغرق

الخوف داء عضال

والروح لا تخشى الأقدار

ابحر في أبواب الجنة

من نفسك قم وتحرر

ما جدوى جسدٍ مقدام

و الروح تخشى الظل ؟

في المسافة الثالثة تتناسل المسافات لتنجب لنا مسافات أخرى:فالموج والإبحار والخشية من الغرق والخوف الذي دب في الأوصال واستشرى وأصبح الداء العضال والروح التي لا تخشى الأقدار والإبحار الصوفيّ الذي تتجه بوصلته المسافاتية نحو أبواب الجنة, والدعوة لتحرر النفس من القيود والثورة على قيود الجسد, حيث أن الجسد المقدام ليس له معنى اذا كانت الروح تخشى الظل, و تلك مسافات تقود الى مسافات أخرى. ومن البديهي أن نقول بأن ثمّة مسافات متلاطمة في بحر النص الذي تدعونا الشاعرة أمامة اللواتي للإبحارفي مياهه العميقة بلا خشية. من استدعى الموج في تلك اللحظة الجمالية من زمن النص والأبواب مغلقة؟ هل اللون الأزرق المتسيد هو من استدعى مسافات البحر ليصبح (كل الموج هنا)؟ واذا كان لابد من الإبحار فعلّام تلك الخشية من الغرق؟ وتلك التساؤلات تحيلنا الى فهم المسافة مابين اشتغال الشاعرة على الذهني-الصوفي في كتابة النص وعلى البصري-التصويري في محاورة شعرية الواقع بأداة تسجيل تحملها يد الشاعرة-الرحّالة وهي تؤرخ لنا نصا ينفتح على كل مسافات التأويل. وفي عبارة (الخوف داءٌ عضال) تقترب الشاعرة الى حدّ التماهي من مسافة السردي اليومي. أن رحلة الإبحار تكون مسافاتية هي الأخرى: نحن نبحر,تلبية لدعوة الشاعرة, في بحار النص للظفر بصيد لؤلؤي ثمين علينا أن نعثر عليه في القيعان الجوانية البعيدة, ونبحر مسافاتيا أيضا بروح لا تخشى قسوة الأقدار.أن رحلة الإبحار الصوفيّ هي قراءة مسافاتية متسامية من أجل الوصول الى أبواب الجنة لنبدأ رحلة ابحار مسافاتيّ هناك حتى بلوغ سدرة اليوتوبيا. هي دعوة لكسر قيود النفس الأمارة بالخنوع والسكون الأرضي المقيت. أن أمامة اللواتي تشتغل وببراعة المتمرس على مسافات التضاد ما بين الجسد المقدام والروح المستكينة التي تخشى الظل. ثمّة أبواب أخرى تنفتح على مسافات الفلسفة في هذا النص والنصوص الأخرى التي تكتبها الشاعرة التي تمنح قارئها الحرية المسافاتية لفتح أبواب التأويل والولوج بعيدا في قيعان النص عبر آلية القراءة Mechanism of Reading باسلوب صوفيّ الإيقاع يتطهر من أدران الإستكانة والإلتصاق بالعبارات الجاهزة Ready  Cliches  ويغادر لغة الجسد المتكلسة والراكدة المتعفنة ويتسامى بروح الإبداع النقي حيث لا يمكن لسفن الخوف والخشية والتردّد أن تبحر في أمواج بحرها اللجّي الزاخر بنفائس الجمال والعفة والنقاء المسافاتي الذي لا تحدّه أية حدود.

 

بقلم: د.مسلم الطعان

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.