صورة من القرن الرابع عشر لمدرسة.

المدرسية أو السكولائية (فلسفة المدرسة) (بالإنكليزية: Scholasticism، بالفرنسية: Scolastique) هي فلسفة يحاول أتباعها تقديم برهان نظري للنظرة العامة الدينية للعالم بالاعتماد على الأفكار الفلسفية لأرسطو وأفلاطون. [1]

تنقسم الفلسفة المدرسية تاريخياً إلى ثلاث فترات هي:

  • الفلسفة المدرسية المبكرة
  • الفلسفة المدرسية الكلاسيكية
  • الفلسفة المدرسية الجديدة

  مراجع

  1. ^ الموسوعة الفلسفية. مجموعة من العلماء السوفياتيين. إشراف: م. روزنتال، ب. يودين. ترجمة: سمير كرم. دار الطليعة. بيروت. الطبعة الخامسة.
  2. مدرسية (فلسفة)

    المدرسية أو السكولائية (فلسفة المدرسة) (بالإنكليزية: Scholasticism، بالفرنسية: Scolastique) هي فلسفة يحاول أتباعها تقديم برهان نظري للنظرة العامة الدينية للعالم بالاعتماد على الأفكار الفلسفية لأرسطو وأفلاطون. [1]

    تنقسم الفلسفة المدرسية تاريخياً إلى ثلاث فترات هي:

    • الفلسفة المدرسية المبكرة
    • الفلسفة المدرسية الكلاسيكية
    • الفلسفة المدرسية الجديدة

    التاريخ

    تزامنت فترة المدرسية المبكرة مع نمو الفلسفة الإسلامية المبكرة (في أعمال الكندي، الفارابي، ابن سينا، الغزالي وابن رشد) والفلسفة اليهودية (وخصوصاً في حالة ابن ميمون وابن گرشوم). ومن القرن الثامن، اضطرت مدرسة المعتزلة في الإسلام، دفاعاً عن مبادئهم مقابل المدرسة الأشعرية التقليدية، بحثوا عن تأييد في الفلسفة. وكانوا ضمن أول من انتهجوا اللاهوت العقلاني، علم الكلام، والتي يمكن مشاهدتها كأحد صيغ الفلسفة المدرسية. ولاحقاً، بذلت المدارس الفلسفية السينائية والرشدية تأثيراً على الفلسفة المدرسية (انظر الاسهامات الإسلامية لاوروبا الوسيطة).

    الفكر الحر

    المقالة الرئيسية: الفكر الحر

    إذا شئنا ألاّ نفهم الفلسفة المدرسية على إنها تكديس لا طائل من ورائه للتجريدات المملة، وجب علينا ألا ننظر إلى القرن الثالث عشر على انه الميدان الذي يصول فيه الفلاسفة المدرسيون ويجولون غير منازعين، بل أن ننظر إليه على انه ميدان اصطرع فيه مدى سبعين عاما المتشككة، والماديون، والأحديون القائلون بوحدة الوجود، والجاحدون بالله، اصطرع فيه هؤلاء مع علماء اللاهوت المسيحي للاستحواذ على العقل الأوربي.

    ولقد لاحظنا من قبل وجود نزعة عدم الإيمان بين أقلية ضئيلة من سكان أوربا، وزادت هذه الأقلية في القرن الثالث عشر على اثر اتصال الأوربيين بالمسلمين عن طريق الحروب الصليبية وتراجم الكتب العربية. ولما تبين الأوربيون وجود دين آخر، اخرج رجالاً عظاماً أمثال صلاح الدين والمندي، وفلاسفة مثل ابن سينا وابن رشد، كان ذلك في حد ذاته كشفاً اضطربت له نفوسهم؛ ذلك أن مقارنة الأديان لا تنفع الدين أي نفع. ومن الشواهد على هذا ما نقله ألفونسو الحكيم Alfonso the wise، (1252- 1284) عن انتشار عدم الاعتقاد بالخلود بين مسيحيي أسبانيا(21)؛ وليس ببعيد أن تكون آراء ابن رشد قد تسربت إلى الشعب نفسه. وكان في جنوبي فرنسا في القرن الثالث عشر جماعة من أصحاب النزعة العقلية القائلين بان الله بعد ان خلق العالم تركه تسيره القوانين الطبيعية؛ وكانوا يعتقدون أن المعجزات مستحيلة، وان الصلاة لا تستطيع تغيير مسلك العناصر، وان الأنواع الجديدة لم تخلق خلقاً خاصاً وإنما وجدت بالتطور الطبيعي(22). وكان بعض أصحاب التفكير الحر- وبعض القساوسة أنفسهم – ينكرون تحول العشاء الرباني إلى جسم المسيح(23). وأخذ أحد المدرسين في أكسفورد يشكو قائلاً (انه ليس ثمة ما هو أشبه بالوثنية من القربان عند المذبح)(24). ويقول ألان من ليل Alain of Lille (ع1114- 1203) أن كثيرين من المسيحيين الزائفين في وقتنا هذا ينكرون البعث لان الروح تفنى مع الجسم)؛ وهم يؤيدون اعتقادهم بأقوال أبيقور ولكريشيوس. ويعتنقون مذهب الجوهر الفرد، ويخرجون من هذا إلى أن خير ما يفعله الإنسان هو ان يستمتع بالحياة على ظهر الأرض(25).

    ويبدو إن انتشار الصناعة في حواضر فلاندرز قد عمل على نشر الإلحاد. وشاهد ذلك إننا نجد ديڤد من دينانت في بداية القرن الثالث عشر وسيجر من برابنت قرب اختتامه يتزعمان حركة تشكك قوية. وكان داود (حوالي 1200) يدرس الفلسفة في باريس، ويمتع إنوسنت الثالث بجدله الدقيق(26)، ويعبث بضرب مادي من عقيدة الأحدية مضمونه إن الله، والعقل، والمادة الخالصة (المادة قبل ان تتشكل) أصبحت كلها وحدة في ثالوث جديد(27). وحرم كتابه كواترنولي Quaternuli ، والذي لا وجود له الآن. وأحرق بأمر مجلس باريس المقدس الذي عقد في عام 1210. وندد هذا المجلس نفسه بأحدية قال بها أستاذ آخر من جامعة باريس هو أملريك من بنا، ومضمونها ان الله والخليقة شيء واحد. وأرغم أملريك على أن يرجع عن قوله ومات، كما يقول، من حسرة الخيبة (1207) (28). وأمر المجلس تنبش عظامه وتحرق في ميدان باريس إرهاباً لاتباعه الكثيرين. غير انهم ظلوا مستمسكين بآرائهم على الرغم من هذا، ووسعوا نطاق آرائه فأنكروا وجود الجنة والنار، وقوة القربان المقدس. وحرق عشرة من اتباع أملريك هذا أحياء (1210)(29).

    وازدهر التفكير الديني الحر في جنوبي إيطاليا الذي كان يحكمه فردريك الثاني، حيث شب القديس تومس، وحيث أعلن الكردنال أبلديني صديق فردريك جهرة اعتناقه المذهب المادي(30). أما في إيطاليا الشمالية فان عمال الصناعة، ورجال التجارة والمال، والمحامين، وأساتذة الجامعات اندفعوا إلى حد ما في تيار المتشككين. واشتهرت جامعة بولونيا بعدم مبالاتها بالدين، فكانت المدارس الطبية فيها وفي غيرها من المدن مراكز للشك، وفيها نشأ القول المأثور (حيث يجتمع ثلاثة أطباء يكون اثنان منهم كافرين ubi tres medici duo athei )، وكادت آراء ابن رشد حوالي عام 1240 تصبح الطراز العصري بين الطبقات المتعلمة من غير رجال الدين في إيطاليا. وكان آلاف منهم يقبلون عقائد ابن رشد القائلة بان القانون الطبيعي يحكم العالم دون تدخل من قبل الله؛ وان العالم مخلد كله؛ وانه لا يوجد إلا نفس واحد خالدة هي (عقل) الكون (الفعال)، وان النفس الفردية ليست إلا مظهراً أو صورة عابرة زائلة من هذا العقل، وان الجنة والنار قصص اخترعت لتغرى العالم أو ترهبهم فيحسن سلوكهم(32). وأراد بعض المعتنقين لآراء ابن رشد ان يسترضوا محاكم التفتيش فتقدموا بعقيدة الحقيقة المزدوجة؛ فقالوا أن القضية قد تبدو صحيحة من ناحية الفلسفة أو حسب التعليل الطبيعي، ولكنها مع ذلك قد تكون خاطئة حسب الكتب المقدسة أو الدين المسيحي؛ واقروا في الوقت نفسه انهم يؤمنون بمقتضى الدين بما يشكون فيه حسب العقل والمنطق. وهذه النظرية تنكر الفرض الأساسي من فروض الفلسفة المدرسية – وهو إسكان التوفيق بين العقل والدين.

    وكانت جامعة پادوا في أواخر القرن الثالث عشر، وطول القرنين الرابع عشر والخامس عشر مركزاً مضطرباً لفلسفة ابن رشد. ونذكر من الشواهد الدالة على هذا الاضطراب أن بطرس من أبانو Peter of abano (حوالي 1250- 1316) أستاذ الطب في جامعة باريس ثم أستاذ الفلسفة في جامعة پادوا، ألف كتاباً يراد به التوفيق بين النظريات الطبية والفلسفية. وقد اكتسب مكانة ملحوظة في تاريخ العلوم الطبيعية لأنه قال في دروسه أن المخ هو مصدر الأعصاب وان القلب مصدر الأوعية الدموية. ولأنه قدر طول السنة تقديراً مدهشاً في وقته وهو 365 يوما، وست ساعات وأربع دقائق(34). وكان لثقته بالفلسفة يرجع العلل كلها تقريباً لقوة النجوم وحركتها، وكاد يبعد الله عن حكم العالم(35). واتهمه رجال محاكم التفتيش بالإلحاد؛ غير أن المركيز أزو الثامن دسته Azzo VIII d’Este والبابا هونوريوس الرابع كانا من بين مرضاه فبسطا حمايتهما عليه. ثم اتهم مرة أخرى في عام 1315، ونجا هذه المرة من المحاكمة بان مات ميتة طبيعية. وحكم قضاة التفتيش بان تحرق جثته في ميدان الحريق، ولكن أصدقاءه أخفوا رفاته إخفاء محكما اضطرت المحكمة أن تنفذ حكمها بحرق صورة له(36).

    ووجد توماس أكويناس بعد انتقاله من إيطاليا إلى باريس أن فلسفة ابن رشد قد استحوذت من زمن بعيد على جزء كبير من الجامعة، ويؤيد هذا ما لاحظه وليام من أوڤرن William of Auvergne في عام 1240 من أن في الجامعة (كثيرين من الرجال يلتهمون هذه النتائج (من فلسفة ابن رشد) من غير تمحيص)؛ وان تومس نفسه وجد فلسفة ابن رشد منتشرة بين شباب الجامعة(37). ولعل ما نقله توماس عن هؤلاء قد روع البابا أسكندر الرابع (1256) فكلف ألبرتس مجنس أن يكتب رسالة في وحدة العقل ضد فلسفة ابن رشد. ولما جاء توماس ليدرس في باريس (1252- 1261، 1269- 1276) كانت حركة الفلسفة الرشدية قد بلغت ذروتها؛ وقد درس زعيمها في فرنسا سيگر من برابنت Siger of Barbant في هذه الجامعة من 1266 إلى 1276. وظلت فلسفة ابن رشد والكثلكة تتخذان من جامعة باريس ميداناً لاقتتالهما جيلا من الزمان.

    وكان سيگر (1235؟- 1281) وهو قس من غير رجال الدين الاديرة متجراً في العالم؛ وحتى الأجزاء القليلة الباقية من مؤلفاته تنقل عن الكندي، والفارابي، والغزالي، وابن سينا، وابن باجة، وابن جبروئيل، وابن ميمون. ويقول سيجر في سلسلة من الشروح والتعليقات على أرسطو، وفي مقالة جدلية ضد رجلي الفلسفة الذائعة الصيت، ألبرت وتوماس، يقول سيجر في هذه وتلك أن ألبرت وتوماس يفسران الفلسفة تفسيراً خاطئاً وان ابن رشد يفسرها تفسيراً صحيحاً(39). وهو يستخلص ما يستخلصه ابن رشد من أن العالم أزلي، وأن القانون الطبيعي لا يتبدل، وان نفس النوع وحدها هي التي تبقى بعد موت الفرد. ويقول سيجر أن الله هو العلة النهائية، لا العلة الفعلية، للأشياء- وهو هدف الخليقة لا علتها. وقد افتتن بالمنطق فقاده هذا الافتتان كما قاد ڤيكو Vico ونيتشه إلى الإيمان بعقيدة تسلسل الحادثات تسلسلاً لا نهائياً فقال: بما أن جميع الحادثات الأرضية تحددها في نهاية الأمر تجمعات النجوم، وبما أن عدد التجمعات الممكن حدوثها محدودة، فان كل تجمع لا بد أن يتكرر بصورته نفسها المرة بعد المرة في زمن لا نهائي، تكراراً تعقبه حتما نفس النتائج التي أعقبته من قبل؛ وبذلك تعود (نفس الأنواع، ونفس الاراء، والقوانين، والأديان) (40). وقد حرص سيرجو على أن يضيف إلى هذا (ونحن نقول هذا أخذاً برأي الفيلسوف، دون أن نقطع بصحته) (41). وكان يضيف مثل هذا الاحتياط إلى كل رأي من آراءه الملحدة. ولم يكن يجهر بعقيدة الحقيقتين؛ وكان يعلم تلاميذه أن بعض النتائج تستتبعها آراء أرسطو ويستتبعها العقل؛ فإذا كانت هذه النتائج تناقض العقائد المسيحية، فانه يؤكد إيمانه بعقائد الدين، ويسمها هي وحدها، دون الفلسفة بميسم الحق(42).

    ويدل تقدم سير إلى المطالبة بان يكون مديراً للجامعة على انه كان له فيها اتباع كثيرون، وان لم يوفق في طلبه هذا (1271). وليس أدل على تمكن فلسفة ابن رشد في جامعة باريس من تنديد إتيان تمپييه Etienne Tempier أسقف باريس بهذه الحركة المرة بعد المرة. ففي عام 1269 حكم بأن ثلاث عشرة قضية من القضايا التي يعلمها في الجامعة بعد الفلاسفة مبادئ الحادية لا تتفق مع الدين، وهذه القضايا هي: انه لا يوجد في الناس كلهم إلا عقل واحد…. وان العالم أزلى… وانه لم يوجد قط رجل أول… وان النفس تفسد بفساد الجسم… وان إرادة الإنسان تريد وتختار بحكم الضرورة… وان الله لا علم له بالحوادث الفردية… وان أعمال الإنسان لا تسيطر عليها العناية الإلهية(43).

    ويبدو أن مدرسة ابن رشد الفلسفية ظلت تعلم كما كانت تعلم من قبل، وشاهد ذلك أن الأسقف اصدر في عام 1277 ثبتاً بتسع عشرة ومائتي مسألة قرر رسمياً إنها تسم القائلين بها بالإلحاد. وهذه المسائل، على حد قول الأسقف، كان يعلمها سيجر أو بوئثيوس من داتشيا Boethius of Dacia أو غيرهما من أساتذة جامعة باريس ومنهم القديس توماس نفسه. وكانت هذه المسائل التسع عشرة والمائتين تشمل التي حكم عليها في عام 1269 وغيرها من المسائل الشبيهة بالأقوال الآتية:

    إن عملية الخلق مستحيلة… إن الجسم إذا فسد (بالموت) لا يمكن أن يقوم بعدئذ بوصف كونه الجسم نفسه… أن من واجب الفيلسوف ألا يؤمن ببعث في المستقبل، لان هذا لا يمكن ان يمحصه العقل… أن أقوال علماء الدين قائمة على الطرافات… أن علوم الدين لا تضيف شيئاً ما إلى معلوماتنا… أن الدين المسيحي يقف في سبيل العلم… أن الإنسان يحصل على السعادة في هذه الحياة لا في غيرها… أن العقلاء في هذه الأرض هم الفلاسفة وحدهم… انه ليس ثمة حالة افضل من أن يجد الإنسان فراغاً في دراسة الفلسفة(44).

    وأدانت محكمة التفتيش سيگر في شهر أكتوبر من عام 1277؛ وقضى سنيه الأخيرة في إيطاليا سجيناً بأمر المحكمة الرومانية حتى اغتاله مختال نصف مجنون في اورڤييتو Orvieto.

    تطور الفلسفة المدرسية

    لم يكن الحكم على هذه القضايا الإلحادية يكفي لصد هذه الهجوم الشديد على الدين المسيحي. ذلك أن الشباب ثمل بخمر الفلسفة القوي. فهل كان كسب المعركة بالالتجاء إلى العقل؟ لقد اقبل علماء الدين من الرهبان الفرنسيس والدومنيك، والأحبار من غير الرهبان أمثال وليام من أوفرن وهنري من گنت Henry of Ghent ، للدفاع عن المسيحية وعن الكنيسة، كما كان المتكلمون من قبلهم يدافعون عن الإسلام ضد المعتزلة.

    وقسم الدفاع نفسه الى معسكرين رئيسيين: المعسكر الصوفي- الأفلاطوني ومعظم رجاله من الرجال الفرنسيس؛ والمعسكر العقلي- الأرسطوي ومعظم رجاله من الرهبان الدومنيك. أما البندكتيون أمثال هيو Hugh وريتشارد السانت فكتوري فقد كانوا يحسون أن خير الدفاع عن الدين هو إدراك الإنسان المباشر وجود حقيقة روحية اعمق من كل تعمق ذهني. وكان (المتزمتون) أمثال بطرس من بلوا Blois ، واستيفن من تورنيه يقولون إن الفلسفة يجب ألا تبحث في مسائل اللاهوت، فإذا فعلت فعليها أن تتحدث وتسلك بوصفها خادماً للاهوت(46). ومن واجبنا أن نذكر أن هذا الرأي لم يكن يقول به إلا قسم من الجبهة المدرسية(47).

    وعالج عدد قليل من الرهبان الفرنسيس أمثال اسكندر الهاليسي (1170؟- 1245) المسألة عن طريق العقل، وحاولوا أن يدافعوا عن المسيحية باستخدام المصطلحات الفلسفية والأرسطوطاليسية، ولكن معظم الرهبان الفرنسيس لم يكونوا يثقون بالفلسفة؛ وكانوا يحسون أن مغامرات العقل مهما تأت للكنيسة بالقوة والمجد إلى حين، قد تفلت من السيطرة عليها فيما بعد، وتبعد الناس عن الدجين بعد أن تترك المسيحية ضعيفة لا نصير لها في عام جاحد فاسد الأخلاق. فكانوا لهذا يفضلون أفلاطون عن أرسطو، وبرنار عن أبلار، وأغسطين عن أكويناس. وكانوا يعرفون النفس كما عرفها افلاطون بأنها روح مستقلة تسكن الجسم وتسكن فيه، وهالهم أن يروا تومس يأخذ بتعريف أرسطو للنفس بأنها (الصورة المادية) للجسم. وقد وجدوا في أفلاطون نظرية للخلود غير الشخصي لا فائدة منها قط في قمع غرائز الناس الحيوانية. واتبعوا رأي أغسطين فوضعوا الإرادة فوق العقل في الله وفي الإنسان على حد سواء، وكان الهدف الذي يبتغونه هو الخير لا الحقيقة. وكانوا في تربيتهم للقيم يجعلون الصوفي اقرب من الفيلسوف لجوهر الحياة الخفي ومعناها.

    وسيطر القسم الأفلاطوني- الأوغسطيني من جيش المدرسين على العلوم الدينية التقليدية في النصف الأول من القرن الثاني عشر. وكان اعظم الناطقين بلسان هذا القسم هو بونافنتورا التقي- وهو رجل طيب القلب طارد الإلحاد، وصوفى يكتب في الفلسفة، وعالم يستهجن العلم، وصديق مدى الحياة ومعارض لتومس أكوناس، ومدافع عن الفقر الذي يدعو إليه الإنجيل ومضرب المثل لهذا الفقر، جمعت طائفة الرهبان الفرنسيس بإشرافه ورعايته قدراً كبيراً من الثروة الجماعية ولقد ولد جوڤاني دي فيدانزا Giovanni di Fidanza في توسكانيا عام 1221 ثم اصبح اسمه لسبب لا نعرفه بونا ڤنتورا– الحظ الحسن. وكاد يموت وهو صغير من أحد أمراض الأطفال، وأخذت أمه تصلي الى القديس فرانسيس ليمن عليه بالشفاء؛ وأحس جوفاني بعدئذ بأنه مدين بحياته إلى هذا القديس. ولهذا انظم إلى اتباعه وأرسل إلى باريس ليدرس على الاسكندر الهاليسي، ثم شرع في عام 1248 يعلم اللاهوت في الجامعة، واختير في عام 1257، وهو لا يزال شاباً في السادسة والثلاثين من عمره، راعياً عاماً لطائفة الرهبان الفرنسيس، فلم يدخر وسعاً في إصلاح ما دبَّ في الطائفة من تراخ، ولكن دماثة أخلاقه لم تمكنه من النجاح، وان كان هو نفسه يحيى حياة الزاهد البسيطة؛ ولما حاءه الرسل يبلغونه انه اختير كاردنالاً وجدوه يغسل الصحاف؛ ومات بعد عام واحد (1274) من فرط الإجهاد.

    وكانت كتبه جيدة الأسلوب، واضحة، موجزة. وكان يتظاهر بأنه الجامع لها لا اكثر، ولكنه بعث في كل موضوع مسه بقلمه روح النظام، والحماسة، والتواضع الذي يستل السخائم. وكان كتابه القول الموجز خلاصة للاهوت المسيحي كثير الإعجاب، كما كان الحديث المفرد، ورحلة العقل إلى الله درة في تاج النقي الصوفي. ومن أهم مبادئه ان المعرفة الحقة لا تأتي عن طريق إدراك الحواس للعالم المادي بل تأتي لإدراك النفس للعالم الروحي عن طريق اللقانة. وكان بونا فنتورا يحب القديس تومس، ولكنه كان يعارض في قراءة الفلسفة، وينتقد في صراحة بعض ما استخلصه أكويناس من النتائج. وكان يذكر الرهبان الدومنيكيين بان أرسطو كان كافراً، وأنه يجب ألا توضع أقواله في منزلة أقوال آباء الكنيسة، وتساءل هل في مقدور فلسفة أرسطو أن تفسر حركات نجم من النجوم لحظة واحدة؟(48). وهو يقول أن الله ليس نتيجة يصل إليها العقل عن طريق العقل بل هو وجود حي، الإحساس به خير من تحديده، وان الخير أسمى من الحقيقة، والفضائل الساذجة تعلو على كل العلوم. ويقولون ان الاخ إجيديو Egidio هاله في يوم من الأيام تبحر بونا فنتورا في العلم فقال له: (واحسرتاه! ماذا نفعل نحن الجهلاء السذج كي نكون خليقين بحب الله!) فأجابه بونا فنتورا بقوله: (أخي، انك لتعلم حق العلم انه يكفيك حب الله) فرد عليه إجيديو بقوله: (فهل تؤمن إذن بان مقدور امرأة ساذجة ان تسره كما يسره أستاذ في اللاهوت؟). فلما أجابه بنعم اندفع إجيديو الى الطريق وصاح في امرأة متسولة: (ابتهجي، لأنك إذا أحببت الله، قد يكون لك مكان في ملكوت السموات أعلى من مكان الأخ بونا فنتورا!)(49).

    وجلي أن من الخطأ أن نظن أن (الفلسفة) المدرسية المعروفة بهذا الاسم إنما هي آراء وأساليب في البحث مجدبة متفق عليها بالإجماع. لقد كانت هناك في واقع الأمر مائة من الفلسفات المدرسية؛ فقد كانت الكلية الواحدة من كليات الجامعة تضم أحد أشباع توماس الذي يمجد العقل، واحد أنصار بونا فنتورا الذي يستهجنه ويزدريه، واحد اتباع وليام الاوفرني (1180- 1240) الذي يقول مع ابن جبيرول بحرية الإرادة، واحد اتباع سيجر يعلم فلسفة ابن رشد. وكاد الاختلاف والنزاع بين أنصار الدين القويم يبلغان من الشدة ما بلغاه بين الدين واللادين. فكان يوحنا بكهام الأسقف الفرنسيسي يندد بأكويناس تنديداً لا يقل صرامة عن تنديد تومس بسيجر وابن رشد؛ وكتب ألبرتس ماگنس في ساعة فارقة فيها صلاحه يقول: (هناك أناس جاهلون لا يتورعون في محاربة استخدام الفلسفة لكل سلاح، وأَخُصُ بالذكر من هؤلاء الرهبان الفرنسيس- أولئك الوحوش الكاسرة الذين يسبون مالا يعرفون)(50).

    وكان ألبرت يحب العلم ويعجب بأرسطو الا حين يتطرق إلى الإلحاد في الدين، وكان أول من درس من الفلاسفة المدرسين جميع مؤلفات الفيلسوف الكبرى، واخذ على نفسه أن يفسرها تفسيراً يوافق الدين المسيحي. وكان مولده في لاننگن Laningen بسوابيا Swabia حوالي عام 1201 وولده هو الكونت بولستادت Bollstadt الثري، ثم درس في پادوا وانضم إلى الرهبان الدمنيكيين واشتغل في بالتدريس في مدارس الدومنيك في هلدسهايم Hildesheim ، وفرايبورگ Freibueg ، وراتسبون Ratisbon ، وستراسبورگ، وكولونيا (1228- 1245) وباريس (1245- 1248). ثم عين بعدئذ مندوباً إقليمياً لطائفته في ألمانيا ثم أسقفاً لراتسبون (1260) على الرغم من تفضله حياة التدريس. وتقول الرواية المأثورة انه كان يمشي حافي القدمين في جميع أسفاره(51). وفي عام 1262 سمح له أن يعتزل العمل ويأوى الى دير في كولونيا، ثم ترك ما كان فيه من هدوء وهي في السادسة والسبعين من عمره (1277) ليدافع عن عقيدة تلميذه المتوفى تومس أكوناس وعن ذكراه في جامعة باريس. وأفلح فيما ندب إليه، وعاد الى ديره، وتوفي في التاسعة والسبعين من عمره. وأن حياته العامرة بالوفاء والإخلاص لدينه، وتواضعه الخلقي، وتعدد نواحي نشاطه العقلي، لتظهر فيها حياة الأديرة في خير مظاهرها.

    وليس ثمة ما يفسر لنا كيف يستطيع رجل قضى ما قضى من الوقت في التدريس والأعمال الإدارية أن يكتب مقالات في كل فرع من فروع العلم تقريباً، ورسائل قيمة في كل فرع من فروع الفلسفة وعلوم الدين، نقول ليس ثمة شيء يفسر لنا هذا إلا هدوء حياة الأديرة الرتيبة والصبر الفائق الذي يمتاز به العلماء الألمان. وإلى القارئ كتب ألبرت ماگنس في الفلسفة واللاهوت بأسمائها الأصلية:

    1. في المنطق de praedicabilibus; Philosophia Rationalis Perihermenias ؛ de sex principüs; de praedicamentis Analytica priora, (De interpretatione i. e)؛ libri elenchorum; Tropica; Analytica posteriora.؛
    2. وفيما وراء الطبيعة-De unitate intellictus contra Averroistas; metaphy Sica; de fato
    3. وفي علم النفس De anima; De sensu et sensato, De memoria et reminiscentia, De intellectua et intelligibili, De potentüs animae
    4. وفي علم الأخلاق Ethica
    5. وفي السياسة Politicia
    6. وفي اللاهوت Summa de creaturis; Summa theologiae Commentarium in sententias Petri Lombardi; ommentarium de divians nominibus.

    وتتكون الرسائل الخمس الواردة في هذا الثبت من واحد وعشرين مجلداً من مؤلفات ألبرت التي لم تنتشر كلها بعد. وقلما يوجد في التاريخ من كتب هذا القدر من المكتب والرسائل والمقالات، واخذ من غيره مثل ما اخذ، او اعترف بمثل صراحته، بدينه لمن اخذ عنهم. ويتخذ البرت مؤلفات أرسطو أسساً لكتبه وتكاد عناوينها كلها تكون هي بعينها عناوين مؤلفات الفيلسوف القديم؛ وهو يستعين بشروح ابن رشد على تفسير مؤلفات ذلك الفيلسوف، ولكنه يفسر المؤلفات الأصيلة والشروح تفسيراً جريئاً اذا ما ناقضت الدين المسيحي. وهو يرجع الى آراء المفكرين المسلمين بدرجة جعلت مؤلفاته مصدراً هاماً بما نعرفه عن الفلسفة الإسلامية. ولا تخلو صفحتان من كتبه من أقوال يقتبسها من ابن رشد، ويرجع أحياناً إلى كتاب دليل الحيارى لابن ميمون، ويعترف بان أرسطو اعظم مرجع في العلوم والفلسفة، وأوغسطين أعظم مرجع في علوم الدين، والكتاب المقدس اعظم المراجع في كل شيء ومقالاتهم المكدسة التي يخطئها الحصر سيئة الترتيب ولا يمكن ان يستخلص منها نظام متسق للتفكير، وهو يدافع عن عقيدة ما في موضع ثم يهاجمها في موضع اخر أو في الموضع نفسه احياناً؛ ولم يتسع وقته لتصفيه متناقضاته. وكان إفراطه في الطيبة والتقي يحول بينه وبين التفكير الموضعي؛ وكان في وسعه ان يتبع تعليقاً على أرسطو برسالة طويلة مؤلفة منن اثنى عشر (كتاباً) في الثناء على مريم العذراء المباركة يقول فيها أن مريم كانت ملمة إلماماً كاملاً بالنحو، والبيان، والمنطق، والحساب، والهندسة، والموسيقى، والفلك.

    فما هي إذن أهم أعماله؟ أن أهم هذه الأعمال هي انه كان له نصيب موفور في البحث العلمي في ذلك الوقت وفي نظرياته؛ وانه كان في ميدان الفلسفة (قدم أرسطو للاتين)، وهو كل ما كان يهدف إليه؛ وكان له الفضل في استخدام مؤلفات أرسطو في تعليم الفلسفة؛ وجميع كنوز التفكير والجدل الوثنية والعربية واليهودية والمسيحية التي استخدمها تلميذه الذائع الصيت في فلسفته التركيبية التي تفوق فلسفة أستاذه وضوحاً وتنظيماً. ولسنا نجافي الحقيقة إذا قلنا أنه “لولا ألبرت لما وُجـِد توماس“.

    المراجع

    1. ^ الموسوعة الفلسفية. مجموعة من العلماء السوفياتيين. إشراف: م. روزنتال، ب. يودين. ترجمة: سمير كرم. دار الطليعة. بيروت. الطبعة الخامسة. 1983

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.