Related image

نذير نبعة صانع ألوان دمشق

الأحد 2016/02/28م
الفنان توصل إلى صيغة جمالية للوحته نحتت نفسها من الأساطير السورية والعراقية القديمة

برحيل نذير نبعة (1938-2016) خسرت سوريا أحد أعمدة الفن التشكيلي السوري، وواحدا من أبرز مؤسسي الحداثة في التشكيل السوري، وأحد كبار رواد النهضة الفنية العربية الحديثة والمعاصرة.

وكانت دمشق قد ودعت الثلاثاء (22 من شهر فبراير الجاري)، التشكيلي السوري البارز عن عمر يناهز ثمانية وسبعين عامًا، وذلك إثر إصابته بنوبة قلبية نقل إثرها إلى مشفى “الطلياني” بدمشق، حيث وافته المنية هناك.

وكما كان الفنان المبدع نذير نبعة في مختلف مراحل تجربته يعيد اكتشاف الحياة، انطلاقاً من وفائه للإنسان والمكان فقد غادرنا إلى عالم آخر ليكتشف الجمال المطلق..

تتلمذ الفنان الراحل على يد الأساتذة الكبار محمود جلال وناظم الجعفري من سوريا، وعلى حسين بيكار وعبدالعزيز درويش وعبدالهادي الجزار وحامد ندى من مصر.

وانعكس ولاؤه السياسي على أعماله الفنية، ففي العام 1967، إثر نكسة حزيران، أنجز مجموعةً من اللوحات عن “النابالم” الذي استخدمته قوات الاحتلال الصهيوني ضد المصريين، كما رسم الفدائي الفلسطيني أيضاً، “باعتباره الوحيد الذي كان يقاوم إسرائيل بعد انهزام الجيوش العربية”.

وعن هذه الفترة يقول نبعة في حوار صحافي نشر بالصحافة المحلية بدمشق قبل أيام، “كثيرون كانوا يظنون أنني فلسطيني؛ كون رسوماتي كانت بمثابة الناطق الرسمي بلسان الحراك الفلسطيني؛ فهزيمة حزيران كانت صفعة على وجوهنا جميعاً؛ جعلتنا جميعاً في حالة إحباط”، متابعاً “لكن كانت شخصية الفدائي هي من أنقذتنا من هذا الاكتئاب، فكنّا نشعر أن هذه الشخصية هي الوحيدة التي يمكن لها أن تدافع عن وجودنا عن مفهوم الوطن، ولذلك احتلت صورة الفدائي الجزء الكبير من لوحاتي في تلك الفترة، وكان معظمها على هيئة بوستر أو ملصقات، حيث نشأت صداقات وأخوّة بيني وبين الفدائيين”.

الفنان في سطور
ولد الفنان نذير نبعة في دمشق في 5 حزيران (يونيو) 1938، ونال الشهادة الثانوية فيها العام 1959 حيث كانت موهبته الفنية قد أعلنت عن نفسها بوضوح منذ مشاركته العام 1952 بلوحة مائية في المعرض السنوي، وهو لم يزل في الرابعة عشرة من عمره، فأوفد إلى القاهرة للدراسة في كلية الفنون الجميلة فيها بعد أن نجح في مسابقة للحصول على منحة مقدمة من وزارة التربية، وليتخرج عام 1964 بمشروع عن “عمال مقالع الحجارة”، نال عليه درجة الامتياز.وفي القاهرة تعرف الفنان الراحل إلى الفنانة التشكيلية المصرية شلبية إبراهيم فتزوجا، وعادت معه إلى دمشق لتقيم فيها إلى جانبه حتى اليوم.

شكل نذير نبعة مع أسعد عرابي وخزيمة علواني وغياث الأخرس وغسان السباعي وعبد الحميد أرناؤوط، علاوة على رسام الأيقونات إلياس الزيات، شوطاً مهماً في مسيرة الفن التشكيلي السوري المعاصر.

وتعكس لوحاته المقتناة من قبل وزارة الثقافة السورية، والمتحف الوطني بدمشق، والقصر الجمهوري، ومتحف دمّر، لغة فنية فريدة مثقلة بعناصر المكان والطبيعة، علاوة على رموز التاريخ والحضارات القديمة.

وهي –كما يقول الناقد محمد عمران- تصوّر عن المكان بصيغة تعبيرية حالمة، هي جرعة مكثّفة من الجمال.

ليست المهارة التقنية أو الدقة أو البلاغة في الرسم هي ما يشدّنا في لوحته وحسب، وإنما تلك الحالة السحرية التي تعكسها نظرات عازفة الناي المحلقة، وحضور الورود والرمّان؛ كأنّنا نفتح الباب أمام صورة متخيّلة لدمشق التي نحب.

وفي منتصف ستينات القرن الماضي انخرط نبعة في صفوف الثورة الفلسطينية، عضواً في حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وهو الذي صمّم شعارها المعروف (العاصفة)، كما أنجز عدداً كبيراً من الملصقات الثورية والسياسية في ذروة صعود الكفاح المسلح الفلسطيني.

النشأة الأولى

نشأ نبعة في أسرة بسيطة لأب يعمل فلاحاً وفي مهنٍ عدة، بينما كانت والدته تعمل في تطريز الملابس، المهنة التي ستعلن ملامساته الأولى من خلال مساعدته لأمه؛ حيث كان الطفل الصغير يرسم على الثياب التي تخيطها والدته لنساء وفتيات القرية، لوحته الأولى التي يقول عنها ضاحكاً “كنت أرسم طيوراً وزخارف نباتية على تلك الأثواب، وكان منتهى سعادتي عندما تلبس فتاة من قريتي ذلك الثوب فأرى رسومي تطير على صدرها”.

وتعود بداية دخوله عالم اللوحة إلى فترة دراسته في ثانوية التجهيز الأولى في دمشق؛ حيث كان الفنان ناظم الجعفري، أحد رواد الفن التشكيلي في سوريا، أستاذاً لمادة التربية الفنية.

هناك جهّز الجعفري، الذي عرف عنه صرامته وتفانيه في عمله كفنان ومدرّس، في الثانوية محترفاً نموذجياً لتعليم الرسم. تعرّف نبعة في هذا المكان إلى تقنيات الرسم بالألوان المائية، كما تعلّم تقنيات اللوحة من مزج اللون وتأسيس القماش، إضافة إلى تقنيات الفحم. يقول عن علاقته بمعلمه الأول في أحد الحوارات “كان الجعفري كريماً جداً، لكنه كان بالمقابل صارماً وجديّاً، وهذا ما علّمني الفن واحترام أصول العمل الفني، بأن نكون جديين في تعلمنا”.

تمرد واستحضار

تخرج الفنان نذير نبعة في كلية الفنون الجميلة في القاهرة سنة 1964، وبعد عودته من القاهرة نُدِب للتدريس في محافظة دير الزور (شمال سوريا)؛ كمدرّس للفن وهناك اكتشف حدود البادية الشامية الملوّنة حتى نهر الفرات الساحر؛ ممّا وفّر له فضاءً رحباً استحضر من خلاله التاريخ والحضارات السومرية التي كانت موجودة في تلك المنطقة، فتشكّلت أولى ملامح فنه المتمرد على القوالب التقليدية ذات الميول الانطباعية في كثير منها، وقد مهدت تصوراته التشكيلية -كما ذكر الناقد سامر إسماعيل- لمعرضه الأول عام 1965 في غاليري “محمود دعدوش-صالة الفن الحديث” بدمشق. هذا المعرض الذي احتوى عشرين لوحةً؛ والذي أثار سجالاً عميقاً في المحترف التشكيلي لبلاده؛ لا سيما لوحاته “الحوت والقمر” ولوحة “الطلسم” و”كائنة مردوخ” و”سيزيف” و”العجاج”..

يصفه التشكيلي السوري طلال معلا، بأنه كان (المعرض) “هزة قوية في الوسط التشكيلي السوري؛ إذ كُتِب عنه الكثير من قبل النقاد وممّن يهتمون بالفن التشكيلي في تلك الفترة؛ انطلاقاً من أهمية هذا الفنان الجديد الذي قدّم صورةً مختلفة وبشكل تعبيري راقٍ عن الحالة الإنسانية في سوريا، مجسداً موقفه من التشكيل من جهة ومن القضايا التي تطرحها لوحاته، ولذلك يمكن القول إن نذير نبعة كان من مؤسسي الحداثة في التشكيل السوري”.

في سنة 1971، تابع نبعة دراساته العليا في “مدرسة الفنون الجميلة” في باريس، وأنهاها في سنة 1974. وقد مثّلت هذه الأعوام الثلاثة -على قلتها- محطّة بُعدٍ طويلة بالنسبة إلى نبعة، فعاد إلى دمشق، التي أقام بها منذ أواسط السبعينات حتى وفاته اليوم.

“دمشقيات”.. ذاكرة الجذور

دمشق، التي ظلّ مهجوساً بها، وكأنّه يعانقها من خلال لوحاته؛ حيث أنجز مجموعةً بعنوان “الدمشقيات”. وحين سئل في ندوة عن بدايات سيرته الإبداعية قال “معلّمي الأول بستان جدتي (أم محمود) في إشارة إلى الفسحة الخضراء الكائنة يومذاك في قرية المزة (من ضواحي دمشق والتي صارت اليوم من أرقى الأحياء الحديثة بالمدينة)”.

ويضيف في موقع آخر “ذاكرة البستان هي الجذور التي صنعت المفاهيم والأشكال والرموز التي تراها اليوم في لوحاتي؛ فلو كان العمر شريط فيديو ورجعنا به إلى الوراء، ستكون فترة طفولتي هي من أجمل أيّام عمري؛ تلك الفترة قضّيتها في بستان جدتي في المزة، القرية المشكلة من بيوت طينية وليس على ما تراه اليوم من إسمنت أكلها عن آخرها”.

وقد تقلب نبعة في فنه بين أساليب عدة وأسّس “جماعة العشرة” التي ما لبثت أن انفرطت لكن ذاته كانت ملهمته في كل شيء. وعلى الرغم من توسّع رؤية الفنان وتطوّر أدواته، إلا أنه بقي مخلصاً لما هو محلي.

وقد شكّلت معالم العاصمة السورية وأشهرها نهر بردى وبساتينها المزدانة بأشجار الرمّان والجلّنار والتفّاح، إلى جانب الأساطير السومرية والتدمرية، وفنون وجداريات ما بين النهرين، ورسوم الفخار والخزف، فضاءات أعمال نبعة ومجاله الحيوي.

وبعد الاحتلال الأميركي للعاصمة العراقية بغداد، صارت المدينة هاجسه الأكبر في الرسم، الأمر الذي دفعه إلى إطلاق مجموعته “المدن المحروقة”، التي لم تقتصر على بغداد، بل امتدت إلى مدن أخرى تعرضت للدمار والموت.

كاتب من فلسطين

 

Related image

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.