فضيحة الفن الأوروبي

  الجمل- آندريه فلتشيك- ترجمة: د. مالك سلمان:

بحثتُ عن الألم، فلم أجد أي أثر له.

في تلك القاعات الضخمة في “اللوفر”، بحثتُ عن شيء يذكرني بآلام شعوب الكاريبي، في جزر مثل غرينادا، حيث تمت إبادة السكان الأصليين بشكل كامل من قبل المستعمرين الفرنسيين. بحثتُ عن دمعة واحدة على الأقل، عن آهة واحدة، عن قماش لوحة واحدة مخضبة بالحزن والندم. بحثت عن اعترافات.

لكنني لم أجد أي أثر له.(الصورة: في "الأكاديمية الفنية الملكية" في لندن – ليس في أوكرانيا أو فنزويلا – مجرد قش بلاستيكي)

كنت أحاول أن ألمحَ تعابير الوجه اليائسة المرعوبة لنساء شمال أفريقيا وهنَ يُسحبنَ إلى غرفة خالية ويُغتصبنَ بوحشية من قبل الجنود الفرنسيين. كنا أبحث عن لوحات تصور تعذيبَ الفيتناميين الوطنيين، وإعدامهم وتقطيع أوصالهم، لا لشيء سوى أنهم كانوا يقاتلون من أجل الحرية ومن أجل أرضهم، ضد الحكم الاستعماري الفرنسي البغيض.

لا – لم أجد أي أثر لذلك في متحف “اللوفر”، أو في أي متحف فرنسي كبير آخر.

وقفتُ أمام أعمال فنية دينية غريبة ومريضة وباردة، مليئة بصور الطفل يسوع الذي يبدو أشبه ببالغ شاذ، أو ببعض القديسين الذين تبرز الخناجر من رؤوسهم بشكل غريب. كان معظمها نوعاً من فن “الكيتش”، المصنوع حسب الطلب في الكنيسة المسيحية – وهي كيان مفلس أخلاقياً ومسؤول عن إبادة أمم بأكملها، ومناطق بأكملها، في كافة أنحاء العالم!

لم أتمكن من رؤية لوحة تصور الشعبَ المدمَر في “رابا نوي”، أو قتلَ الناس في جنوب شرق آسيا، أو الأفريقيين، أو سكان جزر الأطلسي والهادئ.

بحثتُ وبحثت، لسنوات، أثناء زياراتي المتناقصة باستمرار إلى تلك القارة العجوز المريضة، المسؤولة عن عشرات عمليات الإبادة في كافة قارات العالم.

ثم في أحد الأيام، في الفترة الأخيرة، عندما كنت أقدم فيلمي الوثائقي (عن الاستبداد المدعوم غربياً في إندونيسيا) في “إس أو إيه إس” في لندن، طلبت من والدتي، الرسامة المشهورة وفنانة الكاريكاتير، أن تصحبني وتبحث أكثر، في حال فاتني شيء هام لم أره.

* * *

قضينا أياماً نبحث في المتاحف الهامة في باريس، لكننا لم نجد شيئاً هناك، لا شيء في “اللوفر”.

قبل ذلك لم نكن قد وجدنا شيئاً في “الصالة الحكومية” في شتوتغارت.

ولم أجد شيئاً في “الأكاديمية الفنية الملكية” في لندن، أو في “المتحف البحري الوطني”، أو في “متحف الفن الوطني” في لندن.

ولا عذر واحد، ولا اعتذار واحد، ولا علامة على الندم. لم أجد أي بحث روحي، ولا حتى إشارة استفهام ضخمة، شامخة، صارخة.

وقف الفن الأوروبي، الفاسد والمتعجرف والذي تعرض لغسيل الدماغ، فخوراً دون أي إيماءة اعتذار، ودون أن يتاثر بمعاناة ملايين البشر الذين فقدوا حياتهم بسبب أولئك الذين رعوا ومولوا معظم الفنانين على مدى قرون – الكنيسة المسيحية، والمؤسسة السياسية والاقتصادية الأوروبية.

لم يكن هناك أي عمل فني يصور تعذيب وإذلال أمم بأكملها؛ اختفاء عدة حضارات عظيمة في أمريكا اللاتينية … كما لم تكن هناك أية لوحة تصور القرى الأوكرانية المحروقة برمتها خلال الحرب العالمية الثانية، أو القصف الوحشي لليننغراد، أو التجارب الطبية التي أجراها النازيون الألمان على البشر. كما كانت غائبة اللوحات الضخمة التي تصور الإبادة ضد شعب “الهيريرو” الذي كان يعيش فيما يسمى اليوم بناميبيا.

أنا لا أبالغ، فقد بحثتُ فعلاً، ولم أجد أي شيء يشي بالاتهام، أو الغضب، أو الثورة على التعذيب الغربي للعالم الذي يجري منذ قرون طويلة …

لم أجد أي شيء شجاع أو ثوري من أي نوع في صالات شتوتغارت، أو في متاحف وقاعات عرض وصالات لندن وباريس.

لم أجد أي “أنا أتهم”. لم تكن هناك أية صرخة أو معاناة، أو أي إشارة إلى مسؤولية الغرب عن الجرائم التي تم ارتكابها. في جميع “معابد الثقافة” الأوروبية تلك، يختفي كل إحساس بالذنب، ويتم تجاهل كل ذلك الرعب الذي مارسته واشنطن ولندن وباريس على العالم.

لم أواجه أية صور عن القصف الكثيف للقرى الفيتنامية، ولا أية لوحات تصور اغتصاب مدينة الجزائر. حتى أنني لم أرَ معاناة الشعب الفلسطيني – ليس هناك أي عمل فني يصور هذه المعاناة – أو ذلك التدمير الأخير الكامل والموثق لبلدان مثل ليبيا، أو سوريا، أو جمهورية الكونغو الديمقراطية.

في اللوحات الموجودة في “صالة تيت للفن الحديث” أو تلك الصالات الباريسية الكثيرة التي زرتها، لم تكن هناك أي صور لنساء قطعت أثداؤهنَ – وهو حدث عادي أثناء الانقلاب العسكري/الديني المدعوم من الغرب في سنة 1965، الذي أودى بحياة ما يقارب ثلاثة ملايين إنسان – أو صور لنساء تعرضن للاغتصابات الوحشية والتقطيع على يد العصابات في جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث خسر ما بين 6 إلى 10 ملايين إنسان حياتهم ولا يزالون حتى الآن، لكي يشبعوا الجشعَ اللامتناهي للحكومات والشركات والمستهلكين الغربيين – الجشع إلى الكولتان واليورانيوم والألماس والذهب.

سامحَ الفن الغربي كل شيء؛ جميع الجرائم التي ارتكبتها “الإمبراطورية” الغربية. نعم، كل شيء في مهب النسيان والغفران … كما هي عادة المؤسسة نفسها؛ النظام الغربي المفروض بالقوة على كوكبنا.

مجموعة من الرجال المتسامحين يديرون هذه المتاحف والصالات الآن. و”المتسامحون” بشكل مذهل هم غالبية الفنانين الغربيين الذين يتلقون الأجور/المكافآت الضخمة ويُمجَدون باستمرار ل “قلوبهم الكبيرة”. تماماً كما تم تمجيدهم طيلة قرون لأنهم اتفقوا على تقديم الشكل على المضمون.

استمروا في رسم علب الحساء المنتجة بالملايين بينما تقوم بلدانكم بقتل ملايين الرجال والنساء والأطفال البريئين، وسوف يعمل النظام على رفعكم إلى مستوى الآلهة.

لأن النظامَ والمؤسسة الفنية يشكلان كياناً واحداً! لا يريدونكم أن تكونوا مسيسينَ أو مطلعينَ أو غاضبين لما تفعله حكوماتكم بشعوب العالم العاجزة عم الدفاع عن نفسها. كما لا يريدونكم، لا سمح الله، أن تلمحوا إلى ضرورة المعرفة الجماهيرية والغضب الجماهيري!

ركزوا على الإمتاع فقط، وانشروا ألوانكم على اللوحات الضخمة، وتمتعوا بكل تلك الميزات!

* * *

في حياتي، رأيت الكثير من الناس المدمرين، رأيت الحفر التي أحدثتها القنابل والمدنَ المحترقة، ورأيت نساءً – أعداداً كبيرة من النساء – يتعرضن لعمليات اغتصاب وحشية. رأيت الألم واليأس يشوهان مدناً كثيرة مزدحمة ومختنقة، وكذلك أريافاً فقيرة ممتدة على مساحات شاسعة. رأين البؤس والحزنَ العميق في كافة القارات، وفي مناسبات كثيرة.

ولكن أثناء هذه الأيام العشرة الأخيرة في أوروبا، رأيتُ الكثير من الخطوط التي لا تنتهي، والعديدَ من الدوائر المفلطحة والمربعات. رأيتُ مثلثات برتقالية، وكذلك كلمات مضيئة متقطعة وأشياءَ أخرى عجيبة غريبة … ورأيت تأملات في الفضاء والانتصابات الخائبة … وفي بلوغ الذروات المتعددة، وفي القمامة والخراء والدم.

رأيت رحلات الأنا المتضخمة ورؤىً ناجمة عن المخدرات. شهدتُ الجنسَ في أشكال متعددة ومختلفة. رأيت دراسات كثيرة عن الأهل وأولادهم: الصراع بين أجيال مختلفة … رأيت الفراغ.

وجدتُ من الصعب عليَ أن أتعرفَ على العالم الذي أعيش فيه – أن أتعرف عليه في اللوفر، أو في المتاحف البريطانية، وفي العديد من المتاحف الألمانية … كما وجدت سابقاً صعوبة في التعرف عليه في المتاحف الإسبانية، وفي المتاحف البلجيكية … وفي المئات من الصالات الفنية المعاصرة في كافة أنحاء أوروبا …

لم يبدُ أيُ شيء مألوفاً.

لم أطالب، لم أكن أجرؤ على المطالبة، بالواقعية المباشرة، أو بالطبيعية … لم أطالب بالواقعية الاشتراكية. كنت فقط أتطلع إلى بعض الروابط فقط بين “جموحات الاستيهام المجنون” والكون الذي تقطنه الكائنات البشرية … كنت أحنُ إلى شيء من المعنى والمنطق، إلى شيء يمكن أن يخدمَ إنسانيتنا، شيء يمكن أن يُثري حياة الملايين من البشر.

لكن كل ما كان يتطاير أمام عيني هو المفاهيم الفظة والأنَوية؛ الفن من أجل الفن … أو بعض الأجناس الفنية البدائية والتافهة المسلية – أفضل حلفاء “الإمبراطورية” الراغبة الآن في دفع أي مبلغ من المال لتحويل الكائنات البشرية إلى متعضيات فارغة، عديمة المشاعر، وغير قادرة على التفكير.

* * *

 

على مدى قرون طويلة، كان معظم الفني الغربي فاسداً، وعاهراً، وبلا أسنان.

في الآونة الأخيرة، أصبح ساماً، ولاإنسانوياً، ومعادياً للإنسانية، وقاتلاً بشكل فاضح.

خلال تلك الأيام العشرة التي قضيتها في أوروبا بحثاً عن “الفن الشجاع”، كنت أبحث عن الحياة، الحياة الحقيقية، وعن المشاعر الحقيقية …

في غياهب الألوان المتشرنقة في عوالمها الخاصة، بحثتُ جاهداً عن بعض عناصر اللوحات الجدارية المكسيكية العظيمة والإعلانات السياسية السوفييتية … لكنني لم أجد فنانين مثل دييغو ريفيرا أو سيكويروس.

عوضاً عن ذلك، رأيت الكثير من الرحلات الغرائبية في الأنا المتضخمة … الكثير من العته الذي كان مصمماً أن يسليني، أن يجعلني أطفو في عالم مجرد، بارد، معدني، وناء. لم تكن هناك أية محاولة لبناء عالم أفضل، أو أي نوع من التفاؤل أو الاتقاد، كما هو الأمر في اللوحات التي رُسمت بعد الحرب في فيتنام، أو في الاتحاد السوفييتي، أو في الصين.

السخرية والأنانية والانفصال عن الواقع – هذه هي الأشياء التي يتم الترويج لها، ودفع الأموال مقابل إنتاجها.

كنت أرغب يائساً في أن أشمَ، أن أشعرَ، أن أحبَ بكل جوارحي وعاطفتي، أن أكره، أن أكافحَ … كنت أرغب في هذا كله، كما يرغب فيه كل كائن بشري … كما يرغب فيه كل رجل وامرأة وطفل … حتى ولو بشكل سري … حتى لو بخجل أو بشكل لاواع … في كل مجتمع من المجتمعات.

“إلى أبسط الورود نعود”، كتب الشاعر التشيكي العظيم ياروسلاف سيفيرت في قصيدته الرائعة.

ولكن بدا وكأن جميع الورود البسيطة قد اختفت؛ اختفت ببساطة وتلاشت.

كان كل شيء يلهيني، يأخذني بعيداً عن الواقع … كان الفن يتحول بشكل غرائبي شاذ إلى شكل من أشكال الإعلام الاجتماعي، ويتناكح بشكل وحشي قذر مع أدنى أشكال “الثقافة” الشعبية. لاحظتُ أن الألوان قد اكتسبت الآن بريقاً متزايداً، بينما كانت حياة الناس تزداد قتامة وضبابية … قبل أن تبدأ في التلاشي في البعيد … مع اضمحلالها وتناقص أهميتها، مع استبعادها شيئاً فشيئاً … مع تجلي حقيقة أنها سوف تختفي بشكل كامل … في القريب العاجل.

لم يكن الفن الأوروبي الحديث يحلم ب “عالم أفضل”. لم يكن يقدم أي نقد اجتماعي.

ولكن هل قدم أي نقد اجتماعي في تاريخه كله؟

لم يكن يدعوا الناسَ إلى المتاريس … لم يكن يحلم بإسقاط النظام الكوني الفاشستي.

ولكن بعد عدة أيام قضيتها في “اللوفر” و “الصالة الفنية الوطنية”، توصلتُ إلى حقيقة مرعبة – لم يقدم هذا الفن في تاريخه كله أي نوع من أنواع النقد … ليس في أوروبا … كان يُعَرص هنا … طيلة الوقت، ومنذ أن تمكنا من المراقبة …

حاولت جاهداً، وقد أسكرتني وخدرتني هذه الجرعة من الفن الأوروبي الكلاسيكي والحديث، أن أبقى ثابتاً على وجه هذه الأرض.

كان الفن في كل مكان حولي، وكان معظمه مجانياً هنا في أوروبا … لكن معظمه كان في مهمة شيطانية – تبسيط الواقع، وإسكات وإذلال كافة المشاعر الصادقة والإيجابية والبناءة، واستئصال البعد السياسي من المجتمعات، وأخيراً إبعاد الناس عن التفكير والإحساس بشكل كامل.

ربما من الأفضل ألا يكون لدينا أي فن، بدلاً من فن كهذا!

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.