رواية ”عزلة صاخبة جدًا“.. صرخة ضد نهاية الإنسانية

المصدر: حسام معروف – إرم نيوز

 تتضافر أدوات الروائي التشيكي، بوهوميل هرابال، لغة وأسلوبًا، وأفكارًا، وتأملية، في تقديم روايته ”عزلة صاخبة جدًا“، والتي ترجمها عن لغتها الأصل المترجم منير عليمي، ونشرتها دار المتوسط للنشر والتوزيع 2018.

وبعد إصدار هذه الرواية، تناول ميلان كونديرا مؤلفات هرابال بالقول: ”كتاب واحد من كتب هرابال، يختصر كل ما عجزنا نحن جميعًا عن تقديمه، لأجل إنسان متحرر“.

حاوية معطلة

وتتناول ”عزلة صاخبة جدًا“ حياة رجل عجوز، عمل لأكثر من ثلاثة عقود في إتلاف الورق، وفي جرابه، يحتفظ بعدد كبير من الكتب والمخطوطات النادرة، وكذلك الدراسات المحظورة من النظام، خلال رحلة عمله. حتى تحول إلى حاوية معرفية معطلة، ممنوعة من ممارسة أي فعل يدل على وجودها، لكنه بفكرة في عقله، انتصر على الدولة البوليسية، التي أرادت أن تفتت المعرفة، والإنسان.

تجريد الإنسان واختزاله

ومن خلال الضمير المتكلم، يفند الكاتب التشيكي مرحلة هامة في تاريخ الشعوب، عاكسًا هيمنة النظام القمعي تجاه المواطن، ويصف تجربة المنع من إبداء الرأي، وكذلك القمع الفكري التي تعرض لها المواطن الأوروبي وقتها. فالكثير من الكتب الممنوعة من الظهور، كانت لدى هانتا الذي عاش معظم حياته في إتلاف الورق وسحقه، من خلال الآلة التي عمل من خلالها.

وقدم هرابال وصفًا لحياة الإنسان الممحوق الذي يعمل شبهًا للآلة التي يرافقها طوال مسيرته، كم من البؤس والشقاء وفقدان للأمل في كل شيء، ومساحة ضيقة جسرت عالمه الضيق، لكنه كان يواجهه بأفكاره الواسعة، تلك الممتدة إلى أزمنة مختلفة، قبل وبعد المواجهة مع تلك المأساة.

هرابال يصدر الإنسان على عكس مادته الخام، الإنسان الذي تم تصنيعه بفعل التجريد من كل صفاته الحسنة، فيجد نفسه مومياء متحركة، مثقلة بكل أشكال الحرمان، كونها تجرّ خلفها كافة السلاسل المنعية في العالم.

التقدم يعني الرجوع

ولدى هرابال التأملات القاسية التي تحصر الإنسان في قبو معتم، وبتشبيهات مؤلمة، وغريبة، يصعد من لغته القوانين التي تعري أسلوبية التخطيات ضد كل ما هو إنساني.  كما ويركز الروائي التشيكي على الهوامش الصغيرة في انتقاء مفرداته، وتشبيهاته، مستخدمًا الكائنات المسحوقة في الكون من حول الإنسان، مثل الجرذان، والأوراق، والرطوبة، والعفن. كل هذه الأشياء ربطها بحواس الإنسان، ومشاعره.

وفي كل مرة كان كما لو أنه هرابال يصرخ من خلال شخصيته، معترضًا على الانتقاص من قيمة الإنسان، جامعًا كافة الأدوات اللازمة لشق الطريق نحو حرية مستلبة، جعلت من المستقبل والماضي، شريحيتين مقزمتين، تعيدان نفس الكرّة، فيصدح بتعبيره:“ لأنك في دائرة من الحزن، والتقدم يعني الرجوع“.

آلة هيدروليكية

ويستعرض هرابال رمزية الآلة الساحقة للورق، حينما تقوم بعملها، فهي تلغي وجود ذلك الورق، المحمل بالأفكار المختلفة، ومخيلة ذلك الحبر المشع، إلى نقاط من الرماد. وكأنه يريد أن يصنع عدسة مكبرة على آلية مشابهة في الإقصاء، بل والاستئصال، فهو ذاته النظام القمعي، يعمل كآلة هيدروليكية، تستحيل بضوئيها الأحمر والأخضر، لعامل يضع الإنسان تحت الشفرة الساحقة، مبدية كل أشكال اللامبالاة في تشكيله، كمادة“رابش“.

وكان من الواضح أن تجربة هرابال مع التساقط الإنساني، جاءت من معايشة بحثية، فهو يقدم أدق التفاصيل عن حياة المرء المجرد. وانطلق في كل مرة من قاع الأشياء، صاعدًا ببطء شديد، حاملًا كل تلك المثقلات الموضوعة قسرًا على أكتاف الإنسان. فاستحق أن يقال عنه:“هرابال صرخة ضد نهاية الإنسانية“.

مثل مطواة جيب

وتبدو الشخصية عند الكاتب التشيكي، مشبعة بالحقيقة، تمضي في مسار غير قابل للتحول، لا قفزات يمكن لمسها نفسيًا، واجتماعيًا، في مسار ذلك المسخ الذي تناوله هرابال. فيقول هانتا عن نفسه:“ لقد قدر لي أن أغادر الحقيقة الأزلية المعلقة في رف عالمي الخاص“. وسرد في مكان آخر عن حاله:“ منكمشًا في ذاتي، مثل مطواة جيب، لطفل صغير“. كما أن الشخصية التي عرضها الروائي التشيكي للعالم، محملة بالأسئلة الوجودية، مثل إبرة غارقة في دلو ماء. لا مصير لها، غير السكون في قاع ذلك الدلو.

ويمكن اعتبار الجمالية الوحيدة، كوصف للمحتوى، على عكس سير كل الأحداث، فكان وصف الكاتب للغجر، وقتها، ما يدل على تأملية متكاملة لأوضاعهم، فيصفهم من خلال سطوره:“ الغجر أناس عاطفيون جدًا، مثل مريم تشيكية، تلاعب المسيح الرضيع. لديهم عيون إنسانية كبيرة، تشعرك بالطمأنينة، وتعكس الحكمة والثقافة المنسية، التي مضى عليها الكثير من الوقت. وعندما كنا نركض والعصي بأيدينا، ونخفي عوراتنا، كان للغجر دولتهم، ونظامهم الاجتماعي“.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.