إيجون شيلي.. فنان اتهم بالإباحية في عصره فكيف عاشت أعماله إلى الآن؟

إيجون شيلي.. فنان اتهم بالإباحية في عصره فكيف عاشت أعماله إلى الآن؟

رحمة حداد- محرر فن

“لا يمكن نعت عمل فني ذي طبيعة إيروتيكية1 بالقذر، يصبح قذرا فقط إذا كان المتلقي كذلك”

إيجون شيلي

يقف الشاب النحيل ذو الملامح الثاقبة والاثنين والعشرين ربيعا يتلقى الاتهامات بتعكير صفو المجتمع، وبالإقدام على الأفعال الفاضحة الصادمة للبرجوازية، هجم مفتشو الشرطة على منزله بعدما تناثرت أخبار عن كونه يسكن مع امرأة ليست زوجته، ويطلب من الفتيات الصغيرات التموضع بطرق مشكوك في براءتها لكي يقوم برسمهم، أحضر المفتشون أكثر من مئة لوحة بالإضافة إلى الفنان نفسه إلى السجن.

قضى يوما كاملا حتى قرر القاضي حرق إحدى لوحاته “الإباحية” أمام عينيه، لم يثنه الوقت الذي قضاه في السجن في تلك السن الصغيرة عن ممارسة أكثر الأمور المحببة لنفسه؛ الرسم. فاستمر في رسم كل ما وقعت عليه عيناه بحساسية شديدة وبأسلوبه المعتاد، باب الزنزانة ذات القضبان الحديدية، سرير صغير متهالك تعلوه أغطية متشابكة وعليه برتقالة وحيدة ذات لون متوهج، وكأنها الضوء الوحيد في الغرفة.(1)

أرسى إيجون شيلي في سنوات قليلة نفسه كأحد أهم فناني العصر الحديث، ورغم اتهام أعماله الإيروتيكية1 بالإباحية فإن تصويره للجسد الإنساني ولموضوعات الحياة والموت يحوي حساسية وهشاشة فائقتين ورؤية قاتمة للواقع لا تخفت حدتها مهما مر الزمن أو تغيرت المدارس والأساليب الفنية.

يُعزى تطور أسلوب شيلي لمعلمه وواحد من أهم الفنانين الحداثيين جوستاف كليمت(2)، صاحب اللوحة الشهيرة “القبلة” التي تم استنساخها واستخدامها تجاريا آلاف المرات، كان إيجون في بداياته ما يمكن أن نسميه “صبيا” في مرسم كليمت وهو ما يطلق على الفنان تحت التدريب، يتشرب تجاربه وخبراته ويتعلم منه ويساعده ويلبي طلباته في الوقت ذاته.

لوحة  “القبلة” لجوستاف كليمت (مواقع التواصل)

كان شيلي ثائرا دائما في الحياة والعمل، عندما تَقدّم لمدرسة فيينا للفنون كان عمره ستة عشر عاما ليصبح أصغر المقبولين فيها، لكنه ضاق ذرعا بالتعليم المحافظ ولم يحصل على شهادته، لكن تخلصه من القيود الأكاديمية سمح له بأن يكون نفسه التي يريدها فنيا والتي نعرفها الآن.

وعلى الرغم من نبوغه الفني لم ينجح في الحب أو الحياة وشعر بضيق مستمر تجاه أسرته، أحب فتاة لم تبادله الحب في فترة من حياته، كتب لها أنه سوف يقدم يده اليمنى للفن ويديه الاثنين لأجمل فتاة، بعدها اتخذ طابعا أكثر تشاؤما تجاه العالم والتعاملات الإنسانية وظهر ذلك في فنه بشكل واضح.(3)

بعد خروج إيجون من عباءة جوستاف كليمت وإيجاد روحه الحقيقة ابتعدت أعماله عن زخرفة كليمت ومدرسة الأرت ديكو(4) واقتربت من التعبيرية الألمانية، وهي حركة فنية تهتم بما يدور في عقل ونفس الفنان والتعبير عن المخاوف والقلق في العصر الحديث عوضا عن الاهتمام بواقعية الأشياء أو صورتها الظاهرة.

شخوص شيلي أقرب للأشباح، وكأنهم بشر سابقون، يشبهون هيئته هو نفسه ولكنهم أكثر تحريفا وتشوها، حتى صوره الحميمة للنساء تفتقر لمعايير الجمال الأنثوي التي اعتدنا رؤيتها في الفن، تبدو النساء نحيلات، مرهقات غير نابضات بالحياة لا يملكن ذلك اللحم البض الملون الذي يمكن رؤيته في لوحات روبينز(5) على سبيل المثال. لكنهن يملكن إثارة من نوع خاص، إثارة مشوهة تلوي ذراع التعريفات السابقة عن الجنس ويختلط فيها الذكوري بالأنثوي.

 لوحة “الراقصة” لإيجون شيلي (مواقع التواصل)

تغير طابع أعمال شيلي بعد استقراره وتكوينه لأسرة في سن صغيرة، فأصبحت لوحاته حميمية أكثر لكنها لا تخلو من الحزن، واستكشف فيها مفاهيم مثل الأسرة والأمومة، الأبوة والموت، لكن أعماله الأكثر شهرة لدى الجمهور تقع في المرحلة السابقة، لذلك يمكن دراسة أعمال شيلي الأكثر شهرة من أكثر من جانب مثل معايير الذكورة ورؤيتها في أوروبا الحديثة أو من جانب الاكتشافات الطبية والفوتوغرافية للأمراض العصبية.

معايير الذكورة المستحدثة

بدأ شيلي فنه وطوره ووصل إلى ذروته في فترة زمنية قصيرة جدا يُلام على قصرها الإنفلونزا الإسبانية، فلقد توفي في عمر يبدأ فيه الفنانون في استكشاف ذواتهم، فيمكن اعتبار أن نضجه الفني حدث قبل نضجه النفسي كما ترى جين كالير الدارسة لأعماله، ذلك النضج المفاجئ جعله قادرا على استكشاف مشاعر المراهقة خصوصا جنسانية2 المراهقة بشكل مباشر وصادم، ولذلك فهم حياة شيلي والسياق التاريخي الذي نشأ فيه أساسي لفهم فنه.

اختبر شيلي نقلة شاركه فيها كثيرون من معاصريه من الرجال خاصة صغيري السن وهي التعبير عن ذكورتهم التي لم يعد مُسلَّما بها مثل العصور القديمة، أسباب تلك الأزمة معقدة لكن ما يهمنا منها هنا هو صعود الحركات النسوية ودور الأمهات، استجاب الفنانون في بداية القرن العشرين بعنف تجاه ذلك الخلل المفاجئ الذي أصاب صورتهم التي رسموها لأنفسهم ودورهم في المجتمع والفنون، فالمرأة لم تعد صاحبة دور واحد، والرجل لم يعد هو الممول الوحيد للحياة ولم يعد المنقذ المغوار الذي تتمحور حوله وحول قوته كل الفنون.

بعدما ترك شيلي جامعة فيينا تحول أسلوبه على الفور وأصبح يشبهه أكثر، لكن مكتبة أعماله المتوفرة لدينا تحتوي على عنصرين بشكل مكثف وأساسي أكثر من غيرهما هما الجسد الأنثوي، وخاصة الفتيات المراهقات، والصورة الشخصية، ففي خلال حياته أنتج شيلي أكثر من 300 صورة لنفسه، أكثر من أي فنان آخر من بعد ريمبرانت الذي اشتهر برسم اللوحات الشخصية لكن أتى تنفيذه لتلك الموضوعات التي تكررت في تاريخ الفن بشكل مغاير لأي فنان آخر، خصوصا فنان يسعى لأن يؤخذ بجدية.

تموضع أمام شيلي الكثير من الفتيات صغيرات السن، لكن على عكس الصورة النمطية للفنان الأشيب الذي يغرر بالصغيرات كان إيجون نفسه مراهقا على أعتاب الشباب مثل “موديلاته”، رسم شيلي موديلاته بدون خلفيات وهو ما لم يكن شائعا وقتها، مركزا على حركة أجسادهن، يحقق شيلي هدفه باستخدام الخطوط البسيطة الموحية واستخدام الألوان البسيط المقتصد.

لكن رغم أن الأعمال تتناول وتكشف الجسد الأنثوي فإنها مقدمة من وجهة نظر ورؤية الفنان الذكر، رؤيته رغم ذلك معقدة ومتناقضة، فلا يوجد شيء جميل بشكل خاص في تلك الأوضاع الموحية، بل إن الأجساد ملتوية بشكل مؤلم، نحيفة ومندوبة أو غير مكتملة، بل يمكن اعتبارها على بُعد شعرة من القبح.

مثلما لا توحي رسومه النسائية بالأنوثة المعتادة، صور شيلي الشخصية كذلك لا توحي بالقوة الذكورية بأي شكل، يصور نفسه من زوايا غريبة وبتعبيرات وجه مشوهة في كثير من الأحيان، جسده النحيل يحتل معظم مساحة اللوحة، لا يحاول تجميله أو إضفاء أي صلابة ذكورية عليه، فقط هشاشة تامة وأحيانا غضب أو إثارة جامحة، لا نجد في تصوير شيلي لنفسه المعايير الأوروبية للقوة والجمال الذكوري التي أرساها فنانو عصر النهضة مثل مايكلانجلو وغيره، عكس الإغريق والرومان حالة التناغم الروحية والتوازن النفسي في شكل رجال كاملين متناسقين، وهو ما انتهج شيلي عكسه، عكست صوره حالة عدم الاستقرار والعذاب المستمر داخله.

تكشف مجموعة الأجساد النسائية والصور الشخصية لإيجون شيلي في تلك الفترة ملحوظتين عن فنه، أولاهما أنها تعبر عن أزمة في الهوية الذكورية المستحدثة ومحاولات مضنية لإعادة تعريف تلك الذكورة بمنحى عن الأفكار الكلاسيكية الجمالية، وثانيهما أن شيلي يحاول أن يعبر ويجد الحلول لتلك الأزمة عن طريق اللجوء إلى الجانب الأنثوي، ليبدو في النهاية للمتلقي أن الفتيات المراهقات ما هن إلا تصورات شيلي عن نفسه ولا تنفصل كثيرا عن صوره الشخصية، فذلك الخلط والدمج بين ما هو أنثوي وما هو ذكوري يعد من سمات الحداثة، حيث تلاشى التصلب في تصوير جنس معين بوجهة نظر جمالية محددة، بل هناك سيولة في التنقل والتعبير عن الذات وعن الجنسانية دون الالتفات لما يُعتبر في عين الجمهور قوة ذكورية أو نعومة أنثوية.(6)

كيف يمكن قراءة أعمال شيلي من خلال مفهوم المرض؟

عندما يصور الفنان نفسه فإنه يملك حرية مطلقة في التحول، يمكنه أن يكون أوسم أو أقبح، أكثر ثقة أو أكثر هشاشة، لأنه وعلى عكس التصوير الفوتوغرافي، الرسم عملية خلق متكاملة من العدم. عندما اختار إيجون شيلي رسم نفسه مئات المرات لم يسلك الطريق السهل بنقل ملامحه وشخصيته الجسدية كما هي في الواقع، بل تلاعب بقدرته التشريحية، يلوي جسده في أوضاع مستحيلة ويباعد بين أصابعه، أحيانا يبدو بلا ذراعين وأحيانا يعلو وجهه تعبير متقزز يندر رؤيته في لوحة شخصية لفنان.

أثارت الطريقة التي عبر بها شيلي عن نفسه تساؤلات عن إمكانية إصابته بمرض الديستونيا، وهو مرض عصبي يتسبب في تشنجات متكررة وسريعة في العضلات وحركات مفاجئة ملتوية و لا إرادية، لكن لا يوجد ما يُثبت صحة إصابته بهذا المرض.

استخدم شيلي الديستونيا كوسيلة تعبيرية أسلوبية لها جمالياتها الخاصة التي يمكن وصفها بغير المريحة، لكن هذا يعزز من قوتها التعبيرية لحقيقة أن البيولوجيا الإنسانية ليست قيمة جميلة في ذاتها لكنها مصدر عذاب له.

انتشرت صور فوتوغرافية لمرضى الديستونيا في المجلات الطبية الفرنسية فكانت بمنزلة صدمة وإفاقة للكثيرين حول طبيعة التحكم البشري في الجسد، ويُرجّح أن شيلي درسها بعناية حتى إنه تموضع لصور فوتوغرافية في أوضاع مشابهة لتلك التي وُجدت في المجلات.(7)
من الممكن أيضا إرجاع الطريقة القاتمة التي صوّر بها شيلي الجسد والوجه الإنساني المعذب لهاجس المرض الذي كان يطارده دائما، تركه أبوه وترك الدنيا مصابا بمرض الزهري وانتقل المرض إلى ثلاثة من إخوته وضعتهم أمه قبله ولاقوا حتفهم، تأثير شكل المرض هنا ذو شقين، شق إنساني يُعنى بالهزال والخوف والتشوه الذي يصاحب الأمراض، وشق جنساني يتعلق بطبيعة المرض الجنسية وكيف أثر على حياته وعلى علاقته بأمه، واختباره لقلقها الدائم من تأثيرها على أبنائها وقلق شيلي الشخصي من النساء والجنس إلى حد هوسه بهما.(8)

صور إيجون شيلي الشخصية التي يحدق بها في المتلقي ويصيبه بعدم الارتياح، بسبب غرابة أسلوبه ووجهه الملون الذي يبدو مغطى بالكدمات والندوب، ربما تكون أصدق تعبير عن عذاباته في فترته القصيرة على الأرض، استكشف فيها رغباته ومخاوفه من الأمراض والحب والتعلق والعالم الحديث، ليترك لنا إرثا ممتعا ومخيفا من الأعمال التعبيرية التي تم تقليدها آلاف المرات ولكن ولا مرة بقوة تأثيره وحساسيته.

—————————————————————-

الهوامش:
1-الإيروتيكية: تصوير الرغبة الجنسية أو مشاعر الحب في الأعمال الفنية
2-الجنسانية: التعبير الإنساني عن الرغبات الجنسية والعاطفية

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.