التصوير ومحاولة البحث عن أسس: نحو فلسفة فوتوغرافية عربية

2 – أغسطس – 2017

محمد حنون

ما الذي يحدد ملامح ما يمكن تسميته بـ «فلسفة فوتوغرافية عربية»، بحيث تكون لها قواعد ورؤية محددة، وكذلك هوية مستقلة تعكس روح المعطيات الثقافية والتاريخية الشرقية العربية؟ وهل نحتاج لإعادة الارتباط بالمنجز الثقافي والفكري العربي والشرقي؛ لكي ننحت هوية فلسفية فوتوغرافية عربية خاصة بنا، لاستحداث تَيار فوتوغرافي أو تيارات فوتوغرافية تتكئ على أسس أصيلة، تَحْمل مَلامحنا وليس ملامح تجربة الغرب، من حيث الفلسفة الفوتوغرافية والنقد الفوتوغرافي، وكذلك من حيث المنجز والذائقة؟ ليس هناك ما يمنع التأثر بالمنجز الفوتوغرافي في الثقافات الأخرى، بل هو أمر طبيعي وإنساني، على أن يتبلور هذا التأثر في نهاية الأمر لشيء خاص ومستقل، وأن يتم التطوير والإضافة عليه، للخروج بتوجهات تُحاكي حاجات الواقع الفوتوغرافي العربي ومتطلباته، وتحاكي كذلك إرهاصات حركة التاريخ وتحولاته الفكرية والثقافية والسياسية.

النقد وواقع الفوتوغراف

في النقد الفوتوغرافي، ولسنوات، استعنت بالمدارس النقدية والفلسفية الغربية، ليس فقط لتفوقها في الأمر، وإنما لغياب المدارس الخاصة بنا، وهو ما جعلني أدرك مع الوقت بأنه لا تزال ثمة فجوة ما بين الحراك الفوتوغرافي العربي ومعطياته وواقعه، والنقد الفوتوغرافي الغربي، بدون عزله عن أسباب نشأته وتعريفاته وأدواته. وهو النقد الذي تشكل وتقولب نتيجة معطيات ثقافتهم ومنظوماتهم الأخلاقية والفكرية، بالإضافة للخط البياني التصاعدي لمنجزهم الفوتوغرافي التقني والجمالي والتجريبي. كان توجهي للاستعانة بمدارس النقد الفوتوغرافي الغربي، هو توجه يحتاج للتهذيب والغربلة والمراجعة، كما أنه يحتاج حتما للنقد الذاتي وللتنقيح، كما يحتاج للتدعيم بسياقات جمالية وفكرية عربية وشرقية، تنتمي لمنطقتنا وروحها.

الفلسفة الغربية والفوتوغراف

المدارس النقدية والفلسفية الفوتوغرافية في الغرب، هي مدارس تَأثَّرتْ بكثافة وزخم المنجز الفني منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر، وتأثرت بهامش الحريات الفكرية لديهم، ولكنها تأثرت كذلك بالتيارات الفلسفية الجمالية، كالظاهراتية (الفيمينولوجيا)، مرورا بالتيارات الفكرية كالسيميولوجيا (علم العلامات) والبنيوية، وما بعد البنيوية، بالإضافة للتفكيكية والوجودية في مواجهة اليقين اللاهوتي والميتافيزيقي، التي تــــم تطبيق أدواتها في مواجهة المسلمات في الفن والفكر والأدب واللسانيات. هذه المدارس الفكرية والفلسفية أسست لمداخل نقدية في عدة مجالات، تراوحت بين الفن واللغة والأدب والاقتصاد والسياسة والطب والتاريخ والاجتماع والأخلاق والإنسان، وغيرها الكثير.

غرفة بارت المضيئة

استخدم رولان بارت البنيوية كأساس في قراءة الأعمال الفوتوغرافية، من خلال ثلاث منهجيات فكرية نشأت في الغرب لأغراض فكرية ولغوية تحليلية بحتة، ولكنه قام بتطويعها في النقد الفني الفوتوغرافي، وهي السيميولوجيا والفيمينولوجيا، وبالأخص الوجودية، وهو ما نجده جليا في كتاب بارت حول فلسفة الصورة الفوتوغرافية «الغرفة المضيئة»،‬ حيث كتب بارت أسفل عنوان الكتاب «وَلاءً لخيال سارتر» في إشارة لكتاب سارتر «الخيال»، كعرفان له على تمهيد الطريق للدراسات الفنية النقدية بمنهجيته الفكرية الوجودية المعاصرة. ثمة أمثلة كثيرة أخرى في حقول فكرية وفلسفية أثرت في عملية نشوء النقد الفني بشكل عام، والفوتوغرافي بشكل خاص، وصولا لفلسفة فوتوغرافية في الغرب، والدعوة والتنظير لها، وهو ما فعله الكثيرون، وكان أكثرهم مباشرة، في أواخر القرن العشرين، الفيلسوف التشيكي فيليم فلوسر، في كتابه «نحو فلسفة فوتوغرافية»، متكئا على ذات المنهجيات التي نشأت لأغراض فكرية وفلسفية، ولكنها استخدمت لاحقا باتجاه نحت مفاهيم جمالية فوتوغرافية نقدية وفلسفية من قبل العديد من الكتاب والكاتبات، مفاهيم تتماشى مع روح ثقافتهم وحراكهم الفني الفوتوغرافي، وصولا لإنشاء طيف واسع من المفردات والمصطلحات النقدية الفوتوغرافية، التي من خلالها تم ترسيخ وعي وذائقة بصريتين، سواء في الحراك الفوتوغرافي العملي، أو مدارسه النقدية، وكذلك عند المتلقي والمهتمين بهذا الفن البصري.

الفوتوغراف
والفلسفة العربية

هذه المراجعة النقدية لا تعني بالضرورة التخلي عن المدارس الجمالية الفلسفية والنقدية الفكرية الغربية، بل توظيفها وتوظيف منجزها الراسخ والمتغير للتعامل مع المنجز والذائقة الفوتوغرافيتين العربيتين نقديا وفلسفيا، ولكن بالاستناد إلى القراءات الجمالية والفلسفية النقدية الفنية والأدبية والاجتماعية، التي نشأت في ثقافتنا العربية والشرقية قبل سنوات طويلة من نشأتها في الغرب. فعلى سبيل المثال وليس الحصر تزخر فلسفة ابن رشد بمنهجيات تقارب «التفكيكية» و»ما بعد البنيوية»، خصوصا في كتابه «تهافت التهافت» الذي جاء كرد على كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة»، وهو ما يجعل ابن رشد سابقا لحراك فلاسفة الغرب في تأسيس وانتهاج هذه الآليات الفلسفية بقرون طويلة، من أمثال دريدا وفوكو بعد تأثرهما بـ»ظاهراتية» هوسرل. ثم نجد في جذور «البنيوية النفسية» عند فيلهلم، التي إنبثقت عنها البنيوية الأنثروبولوجية، والبنيوية الفلسفية النقدية، نجد عند ابن سينا أساسات هذه المنهجية، من خلال فلسفته الطبية حول فهم البناء النفسي عند المريض، وتأثيرها على العلاج الجسدي، سابقا بذلك أيضا فيلهلم وتيتشينير بقرون طويلة. وفي فلسفة جلال الدين الرومي نجد ملامح أنطولوجية «علم الوجود»، حيث قدم ضمن فلسفته أفكارا راسخة عن وحدة العقل والجسد والروح، وتوحدها مع عناصر الكون، سابقا بذلك سبينوزا ومقولته الفلسفية عن وحدة العقل والجسد؛ في سياق معارضته لفلسفة ديكارت حول ثنائية العقل والجسد وانفصالهما، وسبينوزا هو الفيلسوف الهولندي العقلاني الذي تأثر عميقا بأفكار وفلسفتي ابن رشد وابن طفيل. أما في «الوجودية» وهي الفلسفة التي أنشأها بشكلها المعاصر، الفيلسوف الفرنسي سارتر، متأثرا بفلسفات متعددة، من أهمها الفلسفة «الوجودية» الأولى عند مؤسسها الفيلسوف الهولندي كيركجارد، وهو الذي تأثر بما يمكن تسميته بالـ»وجودية الإيمانية» عند الفيلسوف العربي المسلم الكندي، وتقديم ذات التوصيفات الوجودية الإيمانية مع اختلاف في الخلفيات الثقافية والمجتمعية. على الرغم من تأثر سارتر بكريكجارد إلا أنه ثار فلسفيا ضد الإيمان اللاهوتي في وجوديته، حيث كان سارتر بذلك متأثرا بشكل جذري بفلسفة الشك عند ديكارت، وديكارت كان قد تأثر بدوره بعدة فلاسفة عرب مسلمين وشرقيين في الحضارة العربية الإسلامية، من أهمهم ابن رشد وابن سينا. فالقارئ للجدليات والأفكار في كتابات الفلاسفة والمفكرين العرب والشرقيين في العصور الذهبية العربية والإسلامية، – وإن لم تسم بهذه المسميات آنذاك – لوجد تأسيسا جليا لغالبية المنهجيات والفلسفات الغربية المعاصرة، المتأثرة بالفلسفات والتيارات الفكرية العربية والشرقية، وهو ما أدى لنشأة العديد من الحقول النقدية والفلسفية الفنية والأدبية، بما فيها الفوتوغرافية.
والسؤال .. لماذا لا نعود للجذور الفكرية للفلسفات العربية التي تأثر بها الكثير من فلاسفة وكتاب الغرب، الذين أثرت أفكارهم وفلسفاتهم على نشأة فلسفة ونقد فوتوغرافيين فــــــي الغرب؟ نحتاج لإيجاد آليات في البحث عن المحرضات، وضرورات الهدم بوصفه أول البناء والتأسيس، للوصول إلى فلسفة فوتوغرافية من حيث المُنتج الإبداعي والنقدي، فلسفة تحاكي التحولات التاريخية والثقافية العربية والشرقية، منذ دخول فن الفوتوغراف لبلادنا وحتى يومنا هذا.

‫٭ ‬فوتوغرافي فلسطيني – إردني/بودابست

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.