لوحة اقتحمت بيوتنا.. ماذا تعرف عن لوحة الطفل الباكي وصاحبها؟

لوحة اقتحمت بيوتنا.. ماذا تعرف عن لوحة الطفل الباكي وصاحبها؟

رحمة حداد

“”الكيتش” يجعلك تذرف دمعتين متتابعتين سريعا، الدمعة الأولى تقول: كم هو لطيف أن أرى أطفالا يركضون على العشب!، الدمعة الثانية تقول: كم هو لطيف أن أتأثر، جمعا مع كل البشر، لرؤية أطفال يركضون على العشب!”(1).

  تذهب سابينا لمقابلة سيناتور يعيش في أميركا، يجلسون في سيارته الضخمة، وأولاده الخمسة يتقافزون في الخلف، لكن عندما ينزل الأطفال ليركضوا بحماس على العشب، يحدد السيناتور دائرة بيديه مشيرا إليهم وإلى البقعة الخضراء قائلا: “هذا ما أسميه السعادة”. في روايته “الخفة غير المحتملة للوجود” يناقش ميلان كونديرا عدة قضايا فلسفية وجمالية ويضع نفسه معلقا على أفكار وأحداث أبطال الرواية بالإضافة إلى أفكاره الشخصية، وفي ذلك المقطع يتناول مفهوم العاطفة الزائدة، فالسيناتور هنا لا يفكر بشكل عقلاني، بل تغلبه عاطفته تماما، فيصدر أحكاما قاطعة تجاه رؤيته للحياة ورؤيته لمفاهيم مثل السعادة المطلقة، فعندما يتحدث القلب لا يجرؤ العقل على المعارضة.

  تقع تلك المشاعر العاطفية بشكل مبالغ فيه تحت اسم “الكيتش”، وهي كلمة مستعارة من اللغة الألمانية ويمكن ترجمتها إلى الابتذال، يُطلق المصطلح بشكل عام على الأعمال الفنية التي تلفت أنظار العوام من الناس ولا يتم احترامها من قِبل النقاد أو أصحاب الذوق الفني الراقي، كما يُطلق على تلقي بعض البشر لمفاهيم الحياة بشكل رومانسي خالٍ من العقلانية، لكن هل يمكن التفاعل مع مصطلح معقد كهذا في حياتنا اليومية؟ ماذا عن الأعمال الفنية التي نقتنيها في بيوتنا، هل رأيت في منزل أحد أقربائك لوحة لطفل ذي شعر بني منمق أو أشقر متلألئ تنهمر من عينه دمعة لامعة على أحد خديه ويقطب جبينه بحزن وبراءة؟ هل رأيتها في غرفة جلوس شقة والديك؟ إذا كان ذلك الوصف مألوفا، فهل من الممكن أن نطلق عليها عملا فنيا مبتذلا أو كيتش؟ ولماذا تعجب هذا الكم من الناس حول العالم إذا كانت كذلك؟(2)

أسطورة لوحة الطفل الباكي وصانعها

تزين لوحة الطفل الصغير الباكي البيوت في مصر وفي الدول العربية وأميركا وأوروبا وغيرهم منذ خمسينيات القرن الماضي، يشتري الناس منها نسخا أُعيد خلق تفاصيلها الأصلية بالألوان الزيتية، وتحيطها إطارات مزخرفة ومذهّبة بشكل كلاسيكي، لكن لا تعرف اللوحة باسم صانعها كما هو معتاد، فهي سلعة تجميلية، جزء من الأثاث أو التحف القديمة (الأنتيكات) التي يتم اختيارها لتزيين المنازل.

يرجع أصل اللوحة لفنان إيطالي يُسمى جيوفاني براجولين (1911-1981)، لا توجد حوله معلومات كافية على الإنترنت أو في الكتب، فقط يُعرف برسمه مجموعة من لوحات الأطفال الباكين الذين يحدقون في عين المتلقي يطلبون عطفه، يوقعها بأسماء متعددة مثل أنجلو براجولين أو جيوفاني براجولين، لكن يقال إن اسمه الحقيقي ليس براجولين من الأساس، بل برونو أرماديو، تدور حوله وحول لوحاته الأساطير الشعبية أكثر من المعلومات المؤكدة.

   عمل براجولين في فينيسيا بعد الحرب، رسم الأطفال الباكين للسياح وباع العديد من النسخ، تم إعادة خلق لوحاته بواسطة آخرين في وقت عمله لكنه لم يحصل عادة على حقوق النسخ، في السبعينيات وجُد أنه لا يزال حيًّا يُرزق ويرسم، ودارت حوله الأساطير بأنه يرسم الأيتام من دار إسبانية قديمة تم حرقها، لا يوجد ما يؤكد أو ينفي ذلك، لا تقف التكهنات عند ذلك، بل اتهمه البعض بممارسة العنف النفسي على الأطفال وحكيه القصص المرعبة لإخافتهم حتى يستطيع أن يستدرج الدموع من أعينهم.

   

وقيل إنه كان يخطف الحلوى الخاصة بهم لكي يبكوا بحرقة فيستطيع هو رسم دموعهم ونظراتهم بواقعية، توجد بعض المعلومات والإجابات على موقع إلكتروني يُسمى براجولين ويبلي، ينفي عنه تلك الإشاعات ويرد على قائليها بأنه كان فنانا رقيقا وحذرا في تعاملاته مع الأطفال، وأنه رسم الأطفال في أوضاع متأملة ثم أضاف الدموع في مرحلة لاحقة من عمله على اللوحة.

لكن لعل الأسطورة الأكبر والأعنف لا تتعلق باليد التي وضعت الدمعات على وجوه الأولاد الصغار، بل بالأولاد الصغار ونسخهم المتعددة على الجدران، يدَّعون الجلوس هناك بسلام بينما هم ملعونون، في عام 1985 نشرت جريدة “ذا سان” البريطانية ما يفيد بأن أحد رجال الإطفاء بلغ بأنه وجد نسخا للوحات الطفل الباكي في أكثر من منزل محترق، سليمة لم تمسها النار، لكن لكي تتعقد القضية عندما تم فحص اللوحات وجد أنها لوحات لأطفال باكين لكنهم لا ينتمون للفنان نفسه، يملكون الأجواء والموضوع نفسيهما فقط.

اعلان

أرسل الناس أكثر من 2500 لوحة لجريدة “ذا سان” للإثبات ولكي يتخلصوا منها، لكن ماذا يفعل المسؤولون في الجريدة بذلك العدد الكبير من الأطفال البائسين؟ بالطبع يجب أن يستغلوا ذلك لصياغة عنوان خاطف يزيد مبيعاتهم ويصنع منهم أسطورة جديدة، في عيد الهالووين، أقاموا محرقة لمجموعة اللوحات، ومع بعض الإصرار وجدوا أنه يمكن حرقها بالفعل، وأصبحت الجريدة بطل الشعب، فلقد خلصتهم من اللعنة التي أرّقتهم.

كان السبب الحقيقي الذي تم التوصل إليه لحل ذلك اللغز وفك طلاسم اللعنة أقل سحرا وأكثر واقعية، فالنسخ المعادة والمبيعة من تلك اللوحات كانت مطلية بورنيش يمنع عنها الضرر والحرارة، كما أن الحبل الذي يثبتها إلى الحائط عادة ما يحترق سريعا فيترك اللوحة منقلبة على وجهها مما يحميها هي والطفل من أضرار الحريق الجسيمة.(3)(4)

 

العاطفية الزائدة والذوق العام

“الكيتش هو عنصر الشر في منظومة الفن”

يمكن استنتاج أكثر من ملحوظة من خلال حوادث الحريق تلك، أولها أن آلاف اللوحات ذات الأطفال الدامعين غير قابلة للاحتراق، ثانيها أن هناك آلاف اللوحات في بريطانيا فقط، فكم من الممكن أن يكون عدد اللوحات المماثلة حول العالم؟ ذلك الحادث يظهر حب الناس لاقتناء ذلك النوع من اللوحات تحديدا، فبماذا يمكن أن نفسر ذلك؟ وهل تلك اللوحات قيّمة من الناحية الفنية؟

إذا اعتبرنا لوحة الطفل الباكي بتنويعاتها المختلفة، سواء كانت فتاة باكية أو ولدا بلون شعر مختلف، عملا فنيا مبتذلا يستدر العواطف بشكل مبالغ فيه فيمكن أن نطلق عليها مصطلح كيتش، لكن حتى إن كان ذلك حكما بعدم ارتقاء تلك الأعمال إلى منزلة الفن الراقي، فالمفهوم نفسه عليه خلاف، لأن تصنيف الفن والحكم عليه بعنف وبصرامة ليس بالشيء الهين، لكن بعض النقاد والكتاب لديهم آراء مختلفة. ظهر مصطلح الكيتش في أسواق ميونيخ، ألمانيا في القرن التاسع عشر خاصة بين 1860 و1870 لوصف الأعمال الفنية الرخيصة المكررة والتي يمكن تسويقها بسهولة، ظلت دراسة مصطلح الكيتش حصرية في ألمانيا حتى سبعينيات القرن العشرين.

اعلان

تتسم الأعمال التي يُطلق عليها هذا المصطلح بعاطفية مفرطة ورقة مصطنعة وموقف رومانسي تجاه الحياة، فمن الممكن أن تكون حيوانات أليفة متسعة العينين، أو أطفالا يلعبون سعداء في ضوء الشمس، أو صورا حزينة لأطفال يبكون أو يتسولون، النقطة أن تلك الأعمال تبتز المشاعر بشكل مباشر لا ينطوي على أي نوع من الغموض ويمكن فهمها بسهولة والتأثر بها دون تفكير. يمكن أيضا اعتبار الكيتش ظاهرة حداثية مرتبطة بالاجتماع والسياسة وبأحداث مثل الثورات الصناعية وصعود الرأسمالية والتعليم متدني المستوى، بالإضافة إلى ظهور الخامات والوسائط الحديثة مثل البلاستيك والراديو والتليفزيون وتطور الطباعة.

تضع الحداثة الفن على المحك، فلا يوجد عباقرة جدد، والجماهير العامة تلفظ الفن الحداثي لأنه منافٍ لمعاييرهم الجمالية، التي ترتبط بما يؤثر فيهم في حياتهم العادية، كما ترتبط بما يفرزه الإعلام تجاههم ويجعله من ثوابت العيش والإحساس بالجمال، يرى هيرمان بروخ الكاتب الحداثي أن الكيتش يمثل في جوهره التقليد، يقلد الكيتش أعمال سابقيه لكن دون أن يلتفت للقيمة الفنية ولا القيمية، بل يأخذ الجميل ويترك الجيد.(5) رؤية بروخ للكيتش يمكن اعتبارها رؤية متطرفة تُمجّد الفن الجميل والراقي كما يراه هو أو كما تحدده المجتمعات الفنية، فهو يرى أن الكيتش هو الشر ذاته، وأنه يُمثّل خطرا على الفن بل وعلى رؤية الناس للحياة، ويصف الفنان الذي ينفذ ذلك النوع من الأعمال الفنية بأنه مجرم يريد أن ينشر شره.

هيرمان بروخ (مواقع التواصل)

لكن مع تطور النقد أصبح الكيتش خيارا جماليا ربما بشكل ساخر، وأصبحت قيمته العاطفية مقدرة من قِبل بعض الفنانين، فتم اعتباره درجة عليا من الرومانسية والحساسية يجب احتضانها، أو أصبح يستخدم في سياقات حداثية تحتفي بالابتذال والفن الشعبوي وتضم كل أنواع الفنون دون أحكام سابقة.

لكن على الطرف الآخر من الفنانين والنقاد، يوجد المستهلك العادي الذي لم يخطر بباله أن لوحة الطفل الحزين في غرفة معيشته يتم إطلاق عليها مصطلحات تعرف نوعها الفني، ولا أن هناك نقادا حداثيين يرون أنها مصدر الشر وتدمير الفن والمجتمع، فهي مجرد سلعة ديكورية مثل إناء الزهور أو الستائر الملونة، وهو ما يجعل الكيتش مولود الاستهلاكية، فهو يجعل الفن سلعة تكرارية لا تملك أصالة أو قيمة استثنائية.(6)(7)

اعلان

سيظل تقييم الفن وتحديد أهميته النقدية والجمالية مثار جدال لا ينتهي، كما أن الفجوة بين الفن الراقي والفن الشعبي يصعب ملؤها أو تقريبها، لكن أيًّا كانت الدراسات وحتى إذا تطورت آراء النقاد وأصبحت أكثر تقبلا، فلا تزال لوحات الأطفال البكاة تُباع حول العالم وتثير الذكريات والمشاعر، مثلما وصفها كونديرا، كم من الرائع أن نتأثر جميعا مع كل البشر بالدمعة على خد الطفل ونذرف دمعة مماثلة نحن أيضا.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.