– الوسط …إعداد وحوار: روعة يونس
.يرى النقد إبداعاً في دورة تتكامل مع الأدب.. رضوان هلال فلاحة: الإبداع الإنساني يرى الواقع ببعد جدليّ نقديّ وآخر حالم ناشط

متأمل وناقد للأيديولوجية الدينيّة كونها تمثّل الجدلية الأكثر أهمية!

ما يجري في ساحات الثقافة العربية من أحداث وأحوال تمسّ جوهر الشعر وتسيء إليه، هو ما يوازي استحقاق هذه الساحات للشعر الحقيقي والأدب الثري، واللغة المبتكرة. كل ما نقرأه في الأدب وحتى النقد، يحتاج إلى ثورة إلى منظومة فكرية تنضوي فيها جملة من القيم الثقافية الإبداعية والإنسانية. نجدها حقاً لدى الشاعر الناقد- المبدع رضوان هلال فلاحة، الحقوقي رجل القانون.
أعدكم بعد نهاية هذه السطور القليلة بحوار قيّم، لا دور لي به، ولا حتى كنتُ المحرض. أعترف بالتلمذة في حضور شاعر وناقد هائل. أجزم أن البعض سيراسلني قائلاً “لكنه نخبوي جداً.. وصعب أكثر” سأرد على رسائلكم: نخبوي نعم، لهذا تشرفتُ باختياره لكم ضيف هذا الاسبوع، لنقرأ ونستمتع ونتعرف على المغاير المختلف، على باني ذاته وثقافته وحضوره الإنساني الجميل الذي لا يقلّ عن حضوره الثقافي المذهل.

أبعاد الإبداع الإنساني
على قارئ مجموعتك الشعرية الجديدة “دون عَرشِكَ والماء” أن يحيط قلبه بجدار لئلّا يتشقق كمداً ووجعاً وقهراً. هل عالم الحزن هو صبغة شعريّة ومَلمح من ملامح تجربتك؟ أم أنّه الواقع بكلّ بساطة.. أقصد بكلّ أسف؟

  • الشعورُ لا يبحث في علائميّة اللغة إشاريّاً عن مَلمح، إنّما اللغة تستنطقه إشاريّاً ليكون تَمرئياً للفكرة، وفي مَناط التعبيريّة الشعرية هو سيّالها الارتكاسيّ بمشروطيّة تجاذب الحسّ للفكرة، ومن ثَمّ إدراكها بتباينات الأنا في مقام الوعي إلى مساحات من تماهي الأنا مع النحن، لتكون الشعريّة خطاباً وجودياً بجدليّته مع الأشياء في دورة الذات الجزئية والكلّية. فصورة الشعور الأولى هي الفكرة، هذا ما تُريد قوله بعض نصوص المجموعة الشعريّة “دون عَرشِكَ والماء”. وفي مقام التساؤل عن الحزن كصبغة لتجربتي الشعريّة، فلربما أُحيله -وأتوسّم فيّ صدق القول- إنّ الألم الذي تشرّبته شخصيتي حتى تكاد تشي بها تضاريس المُحيّا؛ لقصيدة الحياة في حِراكها الزمني في طفولة جسّت الأشواك قبل أن تمسّ انبلاج الورد ممكناً لتتفتّح براعم وعيها، على أنّ الألم شهيق الفرح، واللذة زفير الألم، والحياة رئة الممكن والقلب صليبهما الأزليّ. وأرى أنّ الإبداع الإنساني يرى الواقع ببُعدين؛ الأول تأمّل جدليّ نقديّ كاشف، والثاني حلم ناشط لواقع أكثر جمالاً، لتتجلّى القيمة الإبداعية بصدق تجربتها الإنسانية بموفور ما تمتلكه من موهبة ومعرفة تراكميّة أُسّها القِيَمي هو الوعي.

قراءة تُفضي إلى القيمة
كيمياء نصوصك – في المجموعة- مركّبة ومعقّدة وممزوجة بكلّ ما يُنجح معادلتها. هل مردّ ذلك قدرة الشاعر الإبداعية لديك؟ أم أنّ الثقافة العامّة، والقراءات والإطّلاع على التجارب الشعريةّ حول العالم تعزّز هذه الكيمياء؟

  • إنّ الحسّ الإبداعي يستقي من ماء الموهبة، والمعرفة هي المفجّرة لسواقي الإبداع، وهي إحدى معالِم تباين السويّات الشعرية. لذلك، إنّ الثقافة والفكر ركيزتان أساسيّتان، ولا يمكن لمبدع أن يكون في انقطاع عن سيرورة الإبداع الإنساني. الكتابة امتلاء بتجاذب تيّارَي الحواس وكيمياء العقل، وجدل تأمّلي بالنحن- الضمير الإنساني المتماهي تشظيّاً انفعاليّاً بالتجربة، التجربة المعرفية، لا البُعد الافتراضيّ للخط الزمني. وإنّ التراكم الكميّ ليس بضرورة الممكن مُنجِزاً للنوع، إنّما هي مصادفة الطّفرة. هذا بالحالة الصحية النشطة إبداعاً في الكتابة، ليس بالتراكم القلِق استيهاميّاً، الذي يدور في حدود انفعالات الأنا التي لم تتجاوز في بعض معايرات الكتابة تصعيد الدافع، لينزوي في انكسارات التقهقر مع الذات المبتورة العلائقيّة مع القراءة. والقراءة هنا ليست قراءة التحصيل، فقراءة التحصيل تُحيل إلى الاستجرار. إنما المُراد قراءة الشيء المُفضي للقيمة التوالديّة، المُنجِزة للصيروة الإبداعية.

رسالة بإرسالية جمالية
كأنّ نصوصك تقول للقارئ أو المتلقي في الأمسيات الشعرية: الحداثة لا تتطلّب مصطلحات لغوية وخروجاً على الأوزان والقوافي، بل تتطلّب بناءً جديداً من داخل النص إلى خارجه؟

  • أسلفتُ أنّ هنالك سيرورة إبداعية تتبلور بصيرورة التكامل المبدع، وهنا تتمثّل هُويّة المبدع بإنجازه للشكل الجماليّ، ولربما كان مُشاكِلاً لما سبقه، أو هو بالضرورة مُشاكل له ضمن ضوابط المعرفة، وأقول ضوابط لضرورة الحرص من عبثيّة التداعي المراهق معرفيّاً. إذن، جدليّة الشكل والمضمون هي بين تيّارَيّ الحسّ الإبداعي اللامتناهي التوالديّة على المستوَيَين الأنطولوجي والإبستيمولوجي.

الكثير من الإسقاطات الدينية، واستحضار العوالم الروحيّة في المجموعة، حدّاً بدت لي الكثير من نصوصك كصلاة حارّة في آنٍ معاً؟

  • لعلّي، وقد قلت إنّ الشاعر هو القارئ الناقد معرفيّاً، فأجدني ذلك المتأمّل الناقد للأيديولوجيّة الدينيّة، لكونها تمثّل الجدليّة الأكثر أهمية، والأكثر خطورة، بما تنتجه من سلوك يدور في بعض من تداعياتها المنزلقة في أتون الإقصاء والإلغاء المتكلّس بحاكميّة المقدّس بين الصراع الفكري والاحتراب الوجودي، بين الأنا والآخر والنحن. ولأنّي أرى الشعر رسالةً بإرساليّةٍ جمالية، فأجدني محمولاً بهذه الجدليّة النقدية، الجمالية المعرفية، وصولاً إلى ما أراه سَمْتاً لي، وهو الأثر الإنساني الخالد، حيث الصلاة هي الفعل الجماليّ لبذور الحنطة تذروها يد فلاحٍ.. ألوان تمزجها أنامل فنان في أنموذجها الأمثل تكويناً.. جملة موسيقيّة بإيقاع الطبيعة في تكامل للمشهد الأسمى… إنساناً.

القول وتجاذباته
في مجموعتك الأولى “جرار الخوف ومطر ناعم” نجد الرمز واللغة العالية والموسيقى. أمّا في مجموعتك الجديدة، ثمّة جديد على صعيد اللغة والأفكار والرؤى. هل تختبر ذاتك  ممارساً التجريب! أم الأمر متّصل بتجربتك وتطوّرها وتغيّر ملامحها بين فترة  وأخرى؟

  • لستُ أجد التجربة الإبداعية خارج مضمار التجريب على مستوى التحوّل والتطوّر بمعنى الامتلاء المُفضي إلى إنسيابيّة أبلغ حضوراً لمفهوم الإبداع التوالدي، على مستوى الصورة والموسيقى وأنطولوجيّة اللغة. والقصيدة، لا أرى أنّها مرهونة للوقت الذي تتموضع فيه بين دفّتَي كتاب، بقدر ما هي حاضرة بهُيولى تماثلها لِلَحظِ الانبلاج. أمّا عن مجموعتي “جرار الخوف ومطر ناعم”، أو حتى القصيدة التي تريد أن تُكتَب، فهي تقول، وللآخر تجاذب مَقولَتها.

بساط الروح
حبّذا لو نذكّر من فاتته قراءة مجموعتك الأولى، ما الذي أردتَ من خلال نصوصها قوله؟ وماذا عكست النصوص؟

  • رغم أنّني أحبّذ أن أترك للقارئ والمتذوّق والمضطلع بالنقد أن يستقرئ “جرار الخوف ومطر ناعم”، إلّا أنّي لربما أجدني أقول إنّ المطر الناعم المستمر هو بساط الروح في مدارات انعتاقها من جدران الجسد إلى تسامي تحليقها الأبديّ في لحظ الإلهام اللامتناهي، وجرار الخوف هي العطش، هي حمّى المعرفة الأبدية لهذا المطر في جدليّته المثاليّة والمعرفيّة. المطر الناعم هو مجاز الأنثى حيناً في قصائد المجموعة التي تولد في يقين الحقيقة بصدق الانبعاث، والخوف هنا نبيل وجراره الصراع عبر سيرورة الإنسان؛ إنساني أنا وإنسان الحياة.

أنا الإنسان ذاته
لدي سؤال، أرجو أن لايكون غريباً! هل لو لم تكن فلسطينياً كان شِعرُك سيكون أقلّ إيلاماً وألماً وحزناً؟

  • لو لم أكن فلسطينيّاً، لكنتُ إنساناً. وكوني فلسطينيّاً، فأنا ذاته الإنسان.. الإنسان الحالم بأرجوحة للطفولة بين غمامتَين تحتضنان قوس قزح.. ومفتاح لقلادة الروح على أعتاب العودة.. ودحنون نقيّ من الدماء والطعنات.. وأسطورة بدورة الفراشة بين حياةٍ وحياة لا يغتالها الرماد بمجاز الأغنيات المالحة! شاعري من يكتب الكلمة (الحق والخير والجمال)، ليكون الوطن ونكون الحياة.. أعظمنا شهيداً قصائده سنابل خضراء وزهر الحنون!

تلازم الشعر والنقد
أجد تمايزاً بيّناً بين لغتك كشاعر ولغتك كناقد، يبدو الأمر كما لو أنّ قلبك يكتب الشعر وعقلك يكتب النقد. أصحيح هذا؟

  • النقد والشعر متلازمان في ماهيّة الانبلاج الحسّي الجماليّ المعرفيّ في منطوقيَ الإبداعي، وهذا ليس تبنّياً لضرورة حضور أحدهما دون الآخر، فهما في توأميّة تجاذب جدليّ فكريّ وجماليّ، تُخصّبها اللحظة الانفعالية غير المنقطعة وعياً فكرياً ومعرفياً. فالشعر كخطابٍ رساليّ جماليّ لا ينفصل عن كونه ناقداً للأشياء بتباين وجودها، فإن لم يكن النص الشعريّ يحمل هذا المضمون النقدي حتى لِما يُؤتى من مفاهيم جمال تتباين كذلك في رؤيتها ومنظورها، أي لا يقف عند حدود موضوعة مُعايرة لها كتكوين صورة تحاكي الفكرة، أو فكرة تتضمّن الصورة الحسيّة. فاضطلاعي النقديّ يأتي بمساحة ما يوفّره النص الشعري ككائن حيّ يستجلبني لمناخه وفضائه، فأجدني فيه متماهياً. لذلك لا أجدني أُعامل النصّ الشعري والأدبي بأدوات درسيّة، لربما لها ضرورتها تبعاً لنضوج النص؛ أي نضوجه بالمعنى الذي يجعل منه كائناً. فللنقد وظيفة جوهريّة كذلك في ترميم وإعادة هيكلة التجارب غير الناضجة، وهنا أقول: كما أنّ هنالك نصّاً شعرياً صناعيّاً، أي يفتقد لماء الإبداع، فهنالك نصّاً نقدياً صناعيّاً. وإنّي لا أرى النقدَ إلّا إبداعاً في دورةٍ تتكامل مع الشعر والأدب.

تنطير أم نقد!
ثمّة الكثير من الانتقاد يوجَّه إلى الحركة النقدية وكتّابها، هل ترى أنّ الحركة النقدية ترتقي إلى مصاف الفعل التقييمي والتصويبي؟ هل يمكن تسميتها حركة نقديّة؟

  •  إنّ استجرار المذاهب النقديّة كدرسٍ نقدي، لا يخرج عن إطار أكاديميّ تنظيريّ لا يُفضي إلّا إلى تحصيل ورقيّ يقتات على التجارب الأدبية السابقة وأسمائها اللامعة، لا يمكن أن نقول عنه حركة نقديّة. وفي المقابل، عبثيّة التداعي في ما يَحضُر المشهد من استسهالٍ للكتابة، أَدخلَ البعض مِمّن يُحسبون على النقد في دائرة التصحيف الاستهلاكي السِّلَعي اللاقِيَمي؛ فإن قلنا إنّ هنالك تراجعاً في المشهد الأدبي، فلا يمكن أن نُخرج النقد وهو في دورة واحدة كفعل ثقافيّ وإبداعي.

الكتاب الفائز بجائزة
أريد أن تخبر القرّاء عن جديدك على المستوى الإبداعي، والكتب، والدراسات النقدية والأمسيات الشعرية، كذلك أين أقمت حفل توقيع المجموعة؟

  • آخر إصدار لي شارك في معرض دمشق الدولي للكتاب “دون عَرشِك والماء”، وسيكون حفل توقيع هذه المجموعة في مركز ثقافي أبو رمانة في دمشق ضمن نشاطات شهر كانون الأول. سيصدر كتاب يعتني بالدراسات النقدية بعنوان “الكلمة في ميزان المعرفة”، وهو فائز بجائزة النقد التي قدّمتها دار سين، كما أعمل على كتاب نقدي بعنوان “هُيولى التكوين” يصدر خلال العام المُقبل، وسوف تكون لي أمسية شعريّة أعمل على التحضير لها، وسيُعلن مكانها وزمانها عندما تنتهي الترتيبات.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.