فيلم "الطرق التي لم نسكلها" للمخرجة سالي بوتر (مواقع التواصل) فيلم “الطرق التي لم نسكلها” للمخرجة سالي بوتر (مواقع التواصل)

“الطرق التي لم نسلكها”.. حينما تطاردنا ذكريات الوطن في رحلة الشتات

حسام فهمي
في فيلمها الجديد “الطرق التي لم نسلكها” تصحبنا المخرجة البريطانية الشهيرة “سالي بوتر” في رحلة عن الذكريات وفقدان الذاكرة، والحنين إلى الماضي، وإعادة تعريف معنى الوطن، كل ذلك من خلال فيلم يجمع في بطولته اثنين من أهم الممثلين العالميين، الإسباني خافيير بارديم والمكسيكية من أصول لبنانية سلمى حايك، بالإضافة للأميركية الشابة “إيلا فانينغ”.
تدور أحداث الفيلم الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي الدولي لعام 2020، ونافس على جائزة الدب الذهبي، بين الولايات المتحدة، واليونان، والمكسيك أيضا.
فقدان الذاكرة
تبدأ أحداث الفيلم بشكل رئيسي حول كاتب مكسيكي ترك أرضه وهاجر إلى الولايات المتحدة، لكنه حينما بدأ يعاني من أعراض فقدان الذاكرة، لم يعد يتذكر إلا وطنه الأم، تأتيه الذكريات باللغة الإسبانية، ولم يعد قادرا على صياغة جمل كاملة بالإنجليزية، رغم تحدثه بها لما يزيد على ثلاثين عاما، ويبدو أن “سالي بوتر” هنا تؤكد أن وطنك وهويتك يعيشان فيك حتى لو لم تدرك ذلك.
أعراض فقدان الذاكرة تظهر بشكل واضح تماما على الممثل الإسباني الشهير “خافيير بارديم”، الرجل الذي فاز بجائزة الأوسكار من قبل عن فيلم “لا بلد للرجال العجائز” يبدو هنا عجوزا أكثر من أي وقت مضى.
صناع الفيلم لم يصرحوا بنوع معين من أنواع أمراض فقدان الذاكرة، لكن المخرجة والكاتبة “سالي بوتر” قد صرحت بأنها كتبت قصة الفيلم بناء على قصة حقيقية مرت بها مع شقيقها الذي عاني من فقدان الذاكرة المصاحب لكبر السن أيضا.
تعريف الوطن
الفيلم إذن يعيد تعريف الوطن، ويطرح سؤالا متجددا عن المكان الذي نشعر بالانتماء له، وهل يختل هذا الانتماء حتى إذا عشنا في أرض أخرى وبلد آخر لعشرات السنين؟
في “الطرق التي لم نسلكها” يبقى المكسيكي مكسيكيا، حتى وإن هاجر للولايات المتحدة وتزوج أميركية وأنجب طفلة، تظل ذكرياته المكسيكية تطارده، وتظل مخاوفه التي هرب منها دون حل، كما يظل ضحية تنمر الأميركيين عليه واضطهاده ومطالبته بالرحيل عن ما يظنون أنها أرضهم.
المثير للاهتمام أيضا أن “سالي بوتر” تختار أن تضع مهمة إنقاذ البطل في النهاية على عاتق مجموعة من المهاجرين الذين يعملون سائقي سيارات أجرة في شوارع أميركا، الأجنبي يستمر في الوقوف بجوار الأجنبي الآخر -لاتينيا كان أو آسيويا أو عربيا- فالكل مضطهد من الرجل الأبيض، والكل يشعر بالألفة والرغبة في مساعدة الآخر.
فريق تمثيلي مميز
يقوم بالفيلم فريق تمثيلي مميز دون شك، خافيير بارديم كان قد صرح بأنه طالما حلم بالعمل أمام “سلمى حايك”، وأنه بشكل خاص كان متوترا حينما أدرك أنه سيتحدث أمامها باللكنة المكسيكية، على الرغم من ذلك فقد أتت مشاهدهما سويا كأفضل ما في الفيلم، فالتواصل النفسي يبدو حقيقيا للغاية بين الزوجين اللذين يعانيان من الفقد، ويتطلعان لليوم الذي يؤمن المكسيكيون بأن الأرواح تعود فيه لزيارة أحبائها.
في السياق، فإن الأميركية الشابة “إيلا فاننغ” تعود هنا في تعاون ثان مع المخرجة “سالي بوتر” لتصنع دويتو تمثيليا مثيرا للاهتمام مع “خافيير بارديم” الذي ظهر في مشاهدهما سويا كشبح لرجل محطم، أب لا يتذكر أي شيء عن حياته، ولا يستطيع التعرف على أي شخص سوى ابنته. هنا تنتقل “إيلا فاننغ” لدور نفسي مركب، بعد أن اعتاد الجمهور عليها في دور الفتاة الجميلة المرحة. تحد من نوع خاص، قد تنفتح من خلاله الأبواب لإيلا فاننغ لعالم سينمائي أكثر جدية بكل تأكيد.
الاختيار
الاختيار الذي يطرحه فيلم “الطرق التي لم نسكلها” هو إذن هل نبقى في أوطاننا ونجاهد من أجل التغلب على المصاعب ونسيان الأحزان، أو نهاجر إلى دول أخرى ونخاطر بأن نبقى مشتتين أبد الدهر بين وطنين وهويتين؟
يبدو الفيلم قريبا هنا من قصيدة الشاعر اليوناني “قسطنطين كفافيس” التي حملت عنوان “المدينة”، والتي قال فيها “حياتك التي أضعتها هنا قد أضعتها في أي مكان آخر، هي خراب هنا وخراب أينما كنت في الوجود”.
لا يأتي الحل في الحاضر إذن إلا بفك عُقَد الماضي، ولا تأتي السعادة أيضا من دون المرور بلحظات الحزن، فالطرق التي لم نسلكها يجب أن نعود لها.. وهذا هو الطريق الوحيد لنستمر في اكتشاف طرق جديدة.

المصدر : الجزيرة

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.