سعيد الشفاج

ذات زمن كانت القاعات السينمائية في المغرب كافية لاستقطاب مئات المتفرجين، وكنا صغارا نطلع لأفيش العروض بشوق ولهفة كبيرة. كانت الصورة السينمائية تمثل لنا فسحة الخيال الأسبوعية، نتراكض لحجز التذكرة السحرية وندخل القاعة المضاءة بأضواء خافتة مثبتة في جوانب القاعة الكبرى. المكان ينقسم إلى الكراسي العلوية الأغلى ثمنا والكراسي السفلية، وما زلنا نتذكر كيف كان المتفرجون في الأعلى يرمون بقايا الطعام للمتفرجين في الأسفل. فمن ساهم في تشكل الخيال الرحب لجيل السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي قبل ظهور الهواتف الذكية والكمبيوترات؟

لا شك أن ما كان يعرض في تلك الحقبة في سينما “اوبيرا” أو “بوليو” أو “السلام” أو “الملكية” كان يشكل متنفسا كبيرا لطفولة محاصرة بين الدروب والمنازل والمدارس. كنا نذهب بحثا عن الجديد في السينما الهندية أو الصينية أو الأمريكية، فما الذي جعل جيلا بكامله ينجرف لسينما بوليوود؟

ولدت السينما الهندية صامتة كجميع السينمات في العالم سنة 1913 مع المنتج والمخرج د.ج فالك، وقد استند العمل على الميثولوجيا الهندية، ثم جاءت سنة 1931 كي تبدأ سلسلة من الأفلام الناطقة أهمها إعادة إنتاج الملحمة “ديفاس” سنة 1935 غير أن ذروة البدايات كانت في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي مع المخرج والممثل الشهير راج كابور.

لا شك أن تأسيس أول معهد سينمائي في الهند سنة 1961 وظهور مديرية المهرجانات السينمائية سنة1973 كان له الأثر في خلق دينامية وحركية فنية أنتجت المئات بل الآلاف من الأفلام والتي تختلف من حيث المعالجة والامكانيات الهائلة المرصودة لها.

لكن ما هي العناصر الفنية الأساسية التي جعلتنا مبهورين بالصورة الهندية في السينما؟ بغض النظر عن القراءة التاريخية للسينما الهندية والتي تشير جلها إلى وقوع عدة تغييرات في مسار هاته السينما بانتقالها من دراسة البعد الميثولوجي والأسطوري إلى الواقعية مع أفلام مثل “ماسح الأحذية و”ابن الهند” و “من أجل أبنائي” و”دوستي” وكل هاته الأفلام، كان الشباب المغاربة يتعاركون للحصول على تذاكر لمشاهدتها سيما ما خلقه فيلم “دوستي” أي الصداقة من تأثير عميق في المشاهد لأثره القيمي وبنية الحكاية المعتمدة على المأساة والبناء الدرامي، والذي رغم بساطته مقارنة مع الحاضر فهو خطوة جبارة في السينما الهندية.

قوة السينما الهندية تتمثل في محافظتها على جوهر وروح المشهد والقصة والمعالجة السينمائية، وهي تتأسس على ثلاثة عناصر هامة: البطل الأسطوري – الغناء والرقص – الجريمة والعقاب –الانتقام – الفضاء الملون. وتتداخل هاته العناصر كلها وتتشابك كي تصنع حبكة مشوقة مع استغلال البهرجة الإخراجية: الديكور والملابس والأضواء والموسيقى الراقصة ومشاهد الخدع السينمائية.

البطل الأسطوري غالبا ما يكون أساس القصة الهندية، بطولة مطلقة ذات بعد تصارعي بين البطل الخير والبطل الشرير ووجود فتاة تضفي على الفيلم طابعا رومانسيا. وميزة البطل هنا أنه لا ينهزم رغم كل ما يتعرض له، وهذا برز مع مشاهد العنف التي بدأت تطغى على الدراما الهندية حتى تنافس السينما الأمريكية وتكون ندا لها، على مستوى شباك التذاكر. البطل يسعى غالبا إلى فكرة الانتقام تحقيقا للعدالة التي ينتظرها المشاهد بشغف، وترتكز بنية الجريمة في السينما الهندية على عدة مظاهر، إما صراع عرقي أو عائلي أو إرث أو صراع حول المحبوبة، أو تنازع المصالح الاقتصادية، هذه القصة تدور في فضاءات خارجية وأخرى داخلية باستعمال مبالغ فيه للألوان الساطعة والفاتحة والأضواء المشعة ومشاهد الرقص والغناء وآلات العزف من طبول وآلات نفخ والحركة. لقد كانت القصة رغم بساطتها تعرف جذبا كبيرا للجمهور حول العالم نظرا لنمط الإخراج المستمد من البيئة الهندية الغنية بالتراث والحضارة والطبيعة المبهرة والتنوع العرقي، إلى جانب الإبهار المعتمد على الجاذبية والذي يعتبر قوة السينما الهندية.

وقد تم توظيف البطل كمرجع قوي للجذب الفرجوي، فهو كائن لا يغلب، وسيم، من أسرة فقيرة، طيب، يكره الظلم، البطل كرمز تحاول الحكومة فرضه عن طريق عنصري الإعجاب والتماهي. ويمكن النظر إلى الصورة النمطية التي قدمتها السينما الهندية للشخصية الرئيسية من خلال نموذج الممثل أميتاب باتشان وشاروخان.

 تستند الدراما الهندية على الدافع العاطفي، فغالبا ما يكون الصراع على وجود امرأة حتى في أحدث الأفلام وأكثرها شهرة مثل “رجوع العاشق المجنون”.

– بمشاركة نجمي السينما الهندية شاروخان وكاجول، حيث الشاب راج أحب سيمران لكن والد الفتاة رفض تزويجه إياها. وفيلم “ديفاس” الشهير نفس البناء الدرامي: رفض عائلة الفتاة تزويجها لحبيبها ديفاس، الذي عاد من لندن. وجود المرأة كبنية للصراع كذلك في أقوى الأفلام الهندية من حيث المداخيل لكن مع إضفاء طابع كوميدي مرح، ولوحظ انفتاح المخرجين في الهند على قصص تنسجم والمتغيرات الإقليمية والعالمية كفيلم “هايدر”.

– الذي يكشف عن فظائع الحرب بين الهند والباكستان، ثم فيلم “كاهاني” سنة 1912 والذي يحكي عن امرأة تبحث عن جثة زوجها الذي مات في حادثة انفجار قنبلة بإحدى مقصورات المترو، فيلم آخر سيعالج الصراعات الطبقية بين الأغنياء والفقراء من خلال الحفاظ على الجانب العاطفي وهو فيلم “موهنجو دارو” ثم الفيلم التاريخي “باجيراو ماستاني” الذي خرج للقاعات سنة 2015 ويتطرق الفيلم لأحداث تاريخية وقعت بين عام 1700 و1740 يقصها البطل في طابع رومانسي.

نجحت السينما الهندية في أن تصل بالأغنية الشعبية نحو العالمية، حتى حفظت أجيال هاته الأغاني، بل عمل البعض على ترجمتها محاولة منهم لفهم محتواها. إن المشهد الاستعراضي هو مكون فني أساسي أضفى على الفيلم طابعا مرحا ولم يعتبره المخرجون مجرد توابل للقصة المحورية بل كان الرقص والغناء ثيمة مهمة تؤثث فضاء القصة الدرامية أو الكوميدية، لأن أغلب تلك الرقصات والأغاني كانت عبارة عن رسائل تبث داخل النص الرئيسي وتظهر لنا نحن مترجمة على الشاشة رغم بساطة الترجمة المعتمدة. وتتموقع الأغنية في خانة الرمز التلميحي والرسالة المشفرة التي يوجهها البطل إلى حبيبته أو عدوه أو أسرته. وتقدم غالبا على شكل دويتو بين البطل والبطلة.

قوة السينما الهندية رغم أن أغلب الإنتاجات ذات طابع تجاري، تكمن في الحلم الذي تقدمه للمشاهد الذي يحاول الانفلات من واقعه وهذا يعكس الإقبال الشديد لدول العالم الثالث على الفيلم الهندي، كما أنها لم تكن مجرد فرجة فنية فقط بل وسيلة علاج روحي ومحاولة التخلص من عقد واقع مرير. أسماء كبيرة قدمت الأحلام في طبق فني مبهر، إنها روح السينما في بوليوود، الرئة التي تتنفس بها الهند.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.