كلمة ورأي وتعبير و وصف لكل نفس بشرية بقلم الفنان التشكيلي والناقد الفني الكبير والكاتب عضو اتحاد الكتاب العرب Mohamed Kamal

ربما تحتوي الصورة على: ‏شخص واحد‏
لا يتوفر وصف للصورة.
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏أحذية‏‏
+‏٩‏
Mohamed Kamal

يتفق معظم علماء النفس أن بناء الشخصية يمر بعدة مراحل عمرية تشكل فى مجموعها خطأ بيانياً يشبه الجبل ، حيث يبدأ تسلقه من السفح الذى يمثل فترات الطفولة المبكرة ، سيما الخمس سنوات الأولى منها ، والتى تؤثر بوضوح فى التركيبة الانسانية المشيدة عليها ، ثم يعقب ذلك مرحلة الصعود ، شاملة طراوة مشاعر الصبا وعنفوان سلوك الشباب ، وهى حالة لاتخلو من شروع دائم فى الإنضاج الفكرى بين العشرين والثلاثين من العمر ، باشتباك مستمر مع المعطيات البيئية المحيطة لخفض التوتر الداخلى ، تارة عبر المصالحة والمهادنة ، وأخرى بالصراع والمجابهة ، حتى تصل الشخصية إلى اعتلاء قمة الجبل المفروش بالخبرة والنضج المكتملين نسبيا ، والذين يتيحا للمرء فرصة التأمل واستيعاب الوجود داخل مايسمى ب ( حيز الاستواء ) الذى يمتد زمنياً حتى مشارف مرحلة ( الإنحدار ) المتمثلة فى الإنقباض العاطفى والإنكماش الشعورى فى مقابل الوهج الذاتى والفتوح الروحى ، وهو المنعطف الإنسانى الذى يدفع الشخصية إلى الإنزلاق نحو سفح الجبل ثانية ، مستعيدة بكارة الحبو والإرتقاء .
ولاشك أن الملمح السالف لاينفصل غالباً عن الآلية الحياتية عند كثير من المبدعين ، سيما التشكيليين منهم ، حيث سهولة اللعب بالخامة على السطح والفراغ لترجمة تفاعلات إنسانية ظاهرة ومستترة ، فاذا دققنا فى المشوار الإبداعى للفنان مصطفى بط ( 1943م ) سنجد أنه يجسد ذلك المنحنى الصاعد الذى يستوى عند مساحة زمنية ممتدة ، ثم يبدأ فى الهبوط صوب البئر الطفولى مرة أخرى ، بعيداً عن الحسابات الذهنية لبناء المشهد .. فقد ولد الفنان ونشأ وعاش حتى الآن بأزقة وحوارى وشوارع مدينة شبين الكوم منذ أن كانت قديما أقرب إلى السمت القروى بكل مفرداته البشرية البسيطة من فلاحين وعمال ، إضافة إلى الدواب والطيور والجداول والغيطان والمعمار الطينى اللبن الذى يتماهى مع مادة الأرض الزراعية المكسية بالرداء السندسى الأخضر .. وقد تخرج الفنان عام 1966م من كلية التربية الفنية بالقاهرة ، ليبدأ حواره مع مدنية العاصمة وسطوتها الجاذبة التى لم تنل منه كثيراً ، لاحتمائه الدائم بعناصر المنشأ ، علاوة على سيطرة المد القومى آنذاك ، رغم قسوة نكسة 1967م ، إلا أنها لم تزد الشخصية المصرية وقتها إلا إصراراً وعزماً خلال ماسمى ب ( حرب الاستنزاف ) ، وهو ما ظهر فى أعمال مصطفى التصويرية إبان تلك الفترة التى سنطلق عليها مجازاً ( الإرادة ) ، حيث نزع بألوانه الزيتية على التوال إلى توظيف المشتقات البنية بآليتها المونوكرومية ، بداية من دكانة الطينة المشبعة بالماء ، حتى ضى الترابة الملفوحة بأشعه الشمس ، مروراً باللزوجة والنداوة والفراكة والعفار والغبار ، لنجده ينسج بهذه العجينة اللونية الزاهدة مزائج إيحائية غنية تشبه إلى حد بعيد تقاسيم الأرض بسدودها وترعها ومصارفها ، بما يحرضه على الغرس فيها من وجوه وأجساد للبشر بين أطفال ورجال وصبايا ونساء تحت فيض من ضياء أقمار وأهلة ، وكأنهم ينتظرون عهداً جديداً يغلفه الإنتصار . . واللافت هنا أن وشوش هذه المجموعة جمعت بين سمرة الطين وابتسامة التحدى ونظرة الأمل ، وبدت جميعها كقمم أشجار ولود إنطلقت من أرض قادرة على الإنجاب ثانية عبر رباط وثيق مع أبنائها .. ورغم واقعية مفردات هذه المرحلة ، إلا أنها جنحت لتعبيرية رمزية تلبى الحاجة الملحة لعافيه شاب بين العشرين والثلاثين ، لاقتناص الخبرة واكتساب النضج كما أشرنا سلفاً ، علاوة على الإختبار الصعب الذى كانت تخوضه الشخصية المصرية والعربية آنذاك .
ثم ينتقل مصطفى بط مع بدايات النصف الثانى من السبعينيات إلى مرحلة تالية مال فيها أكثر للواقع المحيط به فى شبين الكوم بمفرداته الريفية التى تسود محافظة المنوفية بشكل عام ، مثل أبراج الحمام وعربات الكارو وعازف الربابة وعربات الزبالة والأزيار والقلل والبيوت الطينية ، علاوة على الكائنات الحية من بشر وحمير وبهائم وحمام ودجاج وأوز وبط ، حيث بدأ الفنان فى لملمة كل هذه العناصر داخل قالب من المحاكاة التلخيصية المكثفة التى تفر من بئر التفاصيل بعين قادرة على التقاط روح المشهد من خلال نسيج لونى متقشف لا يرتكن إلى عامل الإبهار ، ربما لتمكن مصطفى حرفياً وإبداعياً فى تلك المساحة العمرية التى تتسم بالإستواء والنضج الكامل كما ألمحنا سابقاً ، وذلك عبر اندماج سياقى يميل إلى توحد بيئى ويمهد لدهشة طفولية ، لذا فقد استمرت سيادة السمرة البنية كقاسم مشترك بين لبنات تكوين العمل .. ويبقى ملمس الطينة الخصبة نواة لمدارات ملمسية أخرى كبشرة الوجوه وجدران البيوت وخشب العربات ولياسة الأبراج ولحم الدواب وريش الطيور ، وهومايسمح أن نصطلح على هذه المرحلة ب ( حضن الأرض ) ، حيث الكل فى واحد مقدس لايقبل التفريط بعد انتصار أكتوبر الإعجازى .. وعندما اختفت دوافع تجاوز المحنة ، وجدنا مصطفى يفرغ بصره وبصيرته لاصطياد لآلىء المكان بسنار تقنى بسيط ، لتحصد بوصلته الإبداعية تسربل الفجر وانبلاج الصبح ولفحة الشمس فى الظهيرة ودفئها فى العصارى ودبيب المواشى ونهيق الحمير وهديل الحمام ونقيق الربابة وحيوية الإصطباحة واسترخاء القيلولة وإنهاك الرواح وحلول المغربية وتسلل الليل وبزوغ القمر ورائحة الأجران ودوامات أنفاس البشر . . وقد تكون هذه الحركة التراسلية بين السمعى والبصرى والشمى هى نتيجة منطقية للذوبان مع فضاء المكان على المستويين الروحى والوجدانى هرباً من الغرق فى دقائق المشهد .

محمد كمال
مقتطفات من دراستى عن الفنان الكبير مصطفى بط تحت عنوان ( تحولات الشخصية فى تصاوير ومنحوتات مصطفى بط .. من التوحد البيئى إلى الدهشة الطفولية
) _ كتابى ” طيور تأبى الرحيل ” _ المجلس الأعلى للثقافة _ 2013م
الأعمال المصاحبة للنص للفنان الكبير مصطفى بط وبياناتها تحت كل عمل
مصطفى بط مصطفى بط الفنان مصطفى بط

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.