مراجعات صادمة لفيلسوف فرنسي.. هل ستنهار أوروبا وحضارتها العريقة؟

الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري يندد بتعامل بلاده مع جائحة كورونا ويعتبره تراجعا أوروبيا (غيتي)

لا يكف الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري عن إثارة الجدل في بلاده بمراجعات فكرية توصف بالمفاجئة والصادمة. وفي مراجعات جديدة ذات صلة بعالم جائحة كورونا، قال أونفري في حواره مع مجلة “لوبوان” الفرنسية إن أوروبا أصبحت بمثابة “عالم ثالث جديد”، معتبرا أن تفشي كورونا يتزامن مع انهيار أيديولوجية أوروبا التي تتبع السياسة الليبرالية الهادفة إلى الربح وحسب.

وندد الفيلسوف الفرنسي -الذي يعد امتدادا لفلاسفة ما بعد الحداثة في فرنسا، ويعرف بغزارة مؤلفاته التي تعد بالعشرات- بعدم كفاءة الحكومات الأوروبية في التعامل مع جائحة كورونا، ودعا لقراءة كتب الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين، الذي اشتهر بتأملاته الشخصية والتزامه العزلة حتى وفاته عام 1592م، وكذلك مشاهدة أفلام المخرج السينمائي الفرنسي جاك تاتي الذي قدم أفلاما روائية مهمة فازت بجوائز عالمية، ضمن عرض موقفه من الحجر الصحي الإلزامي.

انحدار القارة العجوز

يرى أونفري أن جائحة فيروس كورونا المستجد ستشكل مرحلة جديدة ضمن “انهيار الحضارة اليهودية المسيحية”، حسب التحليل الذي قدمه في كتابه “الانحطاط”، واعتبر فيه أن الحضارة الغربية في انهيار متواصل، وتعيش حالة من الهرم، مشيرا إلى غياب الإبداع الأدبي والفني الحقيقي ضمن استعراضه مظاهر أفول الغرب.

وتُظهر الجائحة -حسب الفيلسوف الفرنسي- عدم كفاءة رئيس الدولة والحكومة، وعدم تماسك خطابات الرئيس إيمانويل ماكرون وتناقضها (مثل الدعوة للبقاء في المنزل والذهاب للتصويت)؛ مما يؤدي إلى عدم الثقة في الرئيس “الذي لا يطيعه أحد”.

ويتابع أونفري القول إن أيديولوجية أوروبا آخذة في الانهيار، وذلك نتيجة السياسة الليبرالية التي تبرر وضع كبار السن في ممرات المستشفيات وتركهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، كما أن الإلقاء بالفريق الطبي في “ساحة الحرب”، والعجز عن توفير أقنعة لهم أو حتى معقم كحولي؛ لا تنذر بالسقوط ولا تعجل به فقط، بل تظهر بشكل كامل الطرق التي يسلكها هذا السقوط.

ويقول إن وسائل الإعلام ترصد الموت على مدار الساعة، وتضع الفرنسيين أمام هذه المعضلة الوجودية.

انهيار العولمة

وفي حديثه عن إرسال الصين مليون قناع في شكل مساعدات، وكيف أظهر ذلك ضعف الأوروبيين الشديد؛ أوضح أونفري أن ذلك يشبه سقوط الاتحاد السوفياتي عندما توهم الغرب لأكثر من نصف قرن نجاح الإمبراطورية الماركسية اللينينية.

وفي الحقيقة، يظهر الوباء كيف أن أوروبا -التي كانت قوة اقتصادية عالمية لمدة ربع قرن- بات من المحتمل أن تلتحق بصفوف الإمبراطوريات العالمية الكبرى التي كان مآلها السقوط، ومؤشر ذلك عجزها عن صنع الأقنعة للفرق الطبية التي تستقبل ضحايا الوباء. باختصار شديد، يقول الفيلسوف “أصبحت أوروبا العالم الثالث الجديد”.

لقد تصور الجميع -حسب الفيلسوف الفرنسي- أن الأزمة القادمة ستكون اقتصادية في الأساس، ولكن ما جعل العالم ينهار هو فيروس.

وتوضيحا لسبب سوء تقدير هذه النهاية، أشار أونفري إلى أن الفيروس مرتبط باقتصاد العولمة. وشرح رأيه مبينا أن الاقتصاد الليبرالي جعل الربح غاية جميع السياسات ومنتهاها، وتساءل: لماذا ننتج أقنعة ونخزنها؟ معتبرا أن ذلك جعل الخدمات الصحية حكرا على الأثرياء الذين يستطيعون توفير الأموال للتمتع بها.

وتابع “لا يمكن إنكار حقيقة أن الفيروس عرّى الخيارات الاقتصادية، وبالتالي السياسة المتبعة في فرنسا انطلاقا من فاليري جيسكار ديستان رئيس الجمهورية الفرنسية من 1974 حتى 1981، إلى فرانسوا ميتران، وصولا إلى إيمانويل ماكرون”.

متع فلسفية

وفي الحجر المنزلي، يوصي أونفري بقراءة أعمال الفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس، الذي يصنف بأنه واحد من “أفضل خمسة أباطرة” حكموا الإمبراطورية الرومانية من 96 إلى 180م قبل عصر الاضطرابات وسقوط الإمبراطورية، واشتهر بتأملاته التي كتبها “إلى نفسه”، ودوّنها في وقت كانت بلاده تخوض حربا شرسة لم تمنعه من كتابة أفكاره التي أصبحت من أهم كتب الفلسفة الرواقية، رغم أنه لم يرد أن تخرج للعامة، ويجسد أوريليوس حلم الفيلسوف أفلاطون في أن يكون الحاكم فيلسوفا.

ويوصي أونفري كذلك بقراءة أعمال الفيلسوف والأديب اللاتيني لوكيوس سينيكا (توفي 65م) الذي كتب تسع مسرحيات تراجيدية تجسد فلسفته الأخلاقية والرواقية، وتخوض شخصياتها صراعات درامية بين العقل والعاطفة.

ويقول الفيلسوف الفرنسي إن هؤلاء الكتاب العظام يمكن اعتبارهم فلاسفة الكفاح ضد الشدائد بامتياز؛ فهم يقدّمون نصائح لمحاربة القلق والخوف والكرب والشيخوخة والمرض والمعاناة والخيانة والموت، حسب تعبيره.

وبخصوص الشعور بالملل خلال هذه الفترة، قال أونفري إنه لطالما تجاهل مفهوم الملل، لأن الكتب شكلت بالنسبة له وسيلة للخروج من جميع المآزق التي واجهها.

واقتبس الفيلسوف الفرنسي مقولة الأديب والفيلسوف السياسي الفرنسي مونتسكيو حول الفضيلة العلاجية للقراءة، حيث قال “لم أشعر أبدا بحزن لم تبدده ساعة من القراءة”. لذلك يعتبر أونفري أنه غير قادر على تخيل شعور شخص آخر بالملل؛ فالملل يعني عدم التعامل مع أي شيء سوى نفسك، في الوقت الذي يكون فيه العالم شاسعا خارج ذواتنا.

التعليم والأطفال

وبخصوص ما يجب تعليمه للأطفال في إطار تنظيم التعليم عن بعد، ذكر أونفري أنه ينبغي تعليمهم كيفية القراءة والكتابة والحساب، وبالتالي التحليل والتفكير واكتساب العقل النقدي، وهي أشياء تعد رجعية في نظر “العدميين”، الذين قدموا أنفسهم لسنوات على أنهم تقدميون.

وعلاوة على ذلك، يمكن أيضا الاستفادة من هذا النهج التعليمي للقيام بما لم تفعله المدرسة حقا، وهو تعليم الفن، الذي يعد مدرسة حقيقية للحساسية، حسب تصريحات أونفري للمجلة الفرنسية.

ويتابع أونفري أنه يمكن تعليم القصائد وقراءة الشعر للأطفال، وكذلك القصص، وجعلهم يكتشفون المسرح أو الأوبرا والنصوص والكتيبات، ومشاهد العروض الذكية.

تجاهل العلم

وفي حديثه عن تجاهل الخطاب العلمي، أكد أونفري أن مصطلح “العلم” لا ينبغي أن يمثل عقبة أمام التفكير النقدي.

وبخصوص إمكانية تسبب هذه الأزمة في انفجار مدني وأخلاقي في المجتمعات الأوربية، قال أونفري إن هذه الأزمة ستعقبها تبعات ثقيلة، متنبئا بظهور غضب متزايد.

ويتابع أونفري أن هناك تحفظا -في الوقت الحاضر- على التعبير عن هذا الغضب بسبب بداية الحجر، والخصام الفكري والمعنوي، والمعلومات المجزأة، لكن هذه الأزمة لن تعيد من تلقاء نفسها إحياء الروح المدنية التي دمرتها بشكل نهائي خمسون عاما من الدعاية العامة في فرنسا، حسب الفيلسوف الفرنسي.

وفي الختام، وحول وجود أحداث تاريخية سابقة يمكن أن تلهم الأوروبيين لإعادة بناء أنفسهم، أشار أونفري إلى أنه لا فائدة من البحث في الماضي عن أسباب لفهم الحاضر؛ فالحاضر يعتبر كافيا بالنسبة لأولئك الذين يعملون ذكاءهم وعقولهم وتفكيرهم وفكرهم النقدي.

ويُصنف أونفري بأنه واحد من وجوه “اليسار المعادي لليبرالية”، وقدم في كتاباته أعمال الفلاسفة الكبار، معتبرا أن الفلسفة فن للوجود، وغايتها السعادة عبر المتع الحسية والفكرية، ويحمل كتابه “تاريخ مضاد للفلسفة” حسا تحرريا يسعى من خلاله لتبسيط الفلسفة للعامة بدل احتكارها من قبل النخب الأكاديمية والمتخصصة، رافعا شعار “الفلسفة للجميع”.

المصدر : الصحافة الفرنسية

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.