ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، ‏‏‏‏‏نظارة شمسية‏، ‏سماء‏‏، ‏‏لحية‏، ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏، ‏لقطة قريبة‏‏‏‏ و‏ماء‏‏‏‏

بطاقة تعريف الكاتب

ولد في مدينة ادلب 1959.

إجازة في اللغة العربية.

يعمل في الصحافة الأدبية.

نشر قصصه الأولى في الصحف والمجلات السورية.

فاز بعدة جوائز أدبية.

عضو جمعية المسرح.

مؤلفاته:

1- حكاية تل الحنطة- مسرحية – 1986.

2- درب الأحلام – مسرحية- 1989.

3- الأنفاس الأخيرة لعتريس- قصص- 1993.

4- ساعة باب الفرج- قصص- 1994.

5- نون النسوة – قصص- 1995.

كتب عن أعماله العديد من الدراسات والمقالات النقدية

كواليس مسرح المدينة

 الأستاذ خليل الدُوْمَري:

على هذه الخشبة، وقَفَت كلُّ الممثلات، كلُّ الممثلين، المشهورات إغراءً، المشهورون وسامةً وحضوراً.. أنا الذي صنعتهم، أطلقتُ الإبداع فيهم، طَرَدْتُ المشاغبين.. رافقتً المعتزلات والمعتزلين حتى بيوتهم بباقات الورد، غَيْرَهُم.. صَنَعْت.

المخرجون.. الذين وافقوني على كلِّ انعطافةٍ فكريةٍ، الذين عارضوني لسببٍ فنيٍ، أمْ،.. لأتفه سبب، كُلُّهُم.. حدَّقوا في إصبعي، مُنتظرين كلمتي المشهورة في الوسط الفني:

ـ تَوَكَّلْ

تعني أمرين.. لا ثالثَ لهما:

ـ إبدأ.

حين تُشير إصبعي إلى الخشبة.

ـ انصرفْ.

حين تُشير إلى الباب.

ولن أكتمَ هذا السرَّ.. غازلني الكُتَّاب علانيةً ومن وراء حجاب، الكُتَّاب اليساريُّون، كُتَّاب اليمين، كُتَّاب الوسط، كِبَارُهُم قبل المبتدئين… أحدُ كُتَّاب المعارضة أرسل لي نصّاً باسمٍ مُستعار!

كُلُّهم.. الآذنُ،  نَجَّار المسرح،خيَّاطته، مهندس الديكور، ضاربة الآلة الكاتبة، عُمَّال الإضاءة، قاطعو التذاكر، الممثلات، الممثلون، الجمهور الحبيب.. كلُّهم أولادي، حيث لا أولادَ لي.. رغم زيْجاتي.

* الآنسة حنان/ ممثلة:

أرتجف قلبي مرتين.. الأولى، اتركوها لي لحظةَ عطرٍ، تُهَفْهِفُ بها جديلتايَ على درجات مراهقتي، أمي بغريزِة المرأة شمَّتْ رِائحَةَ العطر فَجَرَّتني إلى الحَمَّام، جَرَّدتني من ثيابي.. تحت لَسْعِ الماء أخذتْ تُزِيل العطر بالصابون وتضربني فأبكي.. ثم تضربني وتبكي!.

ارتجف قلبي مرتين.. الثانية، حين دفعتني من تردُّدي يدٌ من خلف الكواليس، تجمَّدتُ واقفةُ في مُنْتَصَفَ الخشبة داخلَ بقعةِ ضوء.

لِوهلةٍ.. لم أعِ الظلامَ     الذي لَفَّ أنفاسَ الجمهور في الصالة. ثمَّ، لم أفهم لماذا صَفَّقَتْ الأيدي!

أَحْنيْتُ رأسي برقبةٍ مُتوترةٍ وأكتافٍ ترتجف: فلمحتُ في الصالة حشداً من عيونٍ تلتمع.. كأنَّ ألفَ رجلٍ يُحدِّقون بي عاريةً من كلّ ثيابي!.. نَضَحَ الماء من جلدي، نسبتُ الجملة الأولى من حوارٍ حَفِظْتُهُ طِيْلَةَ شهرين، كنتُ سأرتدُّ نحو الكواليس راكضةً، ثمَّ بِفِعْلِ سِحرٍ غامِضٍ سَرَتْ في حنجرتي اللغاتُ كُلُّها..

في الاستراحة، مهدودةً على كرسيٍ، غمرتني نشوةُ أن أتقمَّص أرواحاً على الخشبة، وأرتدي أجساداً في جسدي، وأتناسَخَ في نساءٍ لحظة انكسارهنَّ في الحبّ، أصفق البابَ من ورائي فتهتزُّ جدرانٌ، أخرج من بيتِ الدُمْيِة إلى فضاءِ ثلجٍ لا يُحَدُّ.. وحين أغادر المسرح بعد العَرْض.. اكتشف خيباتي!.

ذات عَرْضٍ.. ارتجف جسدي لأول مرة، فيما أنا أُغيِّرُ لضيقِ الوقت قميصي خلف الكواليس، ضَبَطْتُ أحداً ما، رجلاً يتلصَّصُ عليَّ من وراء ستارة، زَوَرْتُهُ.. أعجبني أنه لم يتوارَ، ظلْتْ عيناهُ تُحدِّقان حتى ارتجف قميصي بين يديّ، أتَّقَيْتُهُ بثوب ديدمونة.. عيناه كلُّ ما بدا منه وخيالُهُ مُتَمَاوِجاً بين طيَّات الستارة، تمنَّيتُ لو أعْرفُهُ، لو أنَّ المشهدَ يتأخَّر، أو تنقطعَ الكهرباء، لأُطَوِّقَهُ ملفوفاً مثل طفل بالقماش الذي يُخْفيه.. تركتُ لعينيه أن تَجُوْسَا بين كنوزي في اكتشافٍ مُوْجِعٍ ولذيذ، حتى إذا أَسْدَلَتُ الثوبَ على ارتعاش جسدي.. اختفى.

حين خرجتُ من عتمةِ الكواليس، على ضوءٍ، ثم بدأ المشهد.. عَرَفْتُهُ من عينيه. كان.. أبْعَدَ من تخميني، سألني بصوتٍ مُرْتَعِشٍ عن منديلي، ارتبكتُ.. حتى خِلْتُ أن ظنونه فيَّ، هي نفسُهَا ظنونُ عُطيل.. صفَّق الجمهور!.

يُصفّق الجمهور عادةً.. ليُبْعِدَ الشُبُهاتِ عَنْهُ!!.

 

* نسيم اسماعيل:

من كيسي تعلَّمت.. ليس معي شهادةٌ في الإخراج، ولا كُنتُ أعرف أن التمثيلَ الحقيقيَّ يجري خارج الخشبة..

قَادَتْني المُصَادَفَةُ إلى مدخل مسرح المدينة، ثم صِرْتُ مُتَفَرِّجَاً مُستْديماً، لا يَفُوتُني عَرْض.. أخرج من غرفتي في القبو الذي أسكُنُه، باحثاً عن عملٍ طوال اليوم، ثُمَّ مساءً.. إلى المسرح أدارِي به وَحْشتي في مدينةٍ لا يعرفني فيها أحد.

عَرْضاً بعد عَرْضٍ، صرتُ أُحسُّ بأني مُرَاقَبٌ، ثم شكَكْتُ في شخصٍ يجلس على الدوام في مقعدٍ خلفي، أعودُ إلى غُرفتي فيتبعني ظِلُّهُ حتّى أول درجات القبو‍.

خِفْتُ، فكَّرتُ أن أعودَ لأشتغل مع خالي، حتى لو أنه سَطَا على أرضنا بِعَقْدِ تَوْكِيلٍ بَصَّمَ عليه أمي خلال غيبوبة الموت.. تَردَّدْتُ، قلتُ في نفسي.. حضرتُ افتتاحَ العنب الحامض، وسأحضر هذا المساء أيضاً، فَلْيَتْبَعْني إذا كان رجلاً ذاك الشخص، سأُمْسِكُ بِخِنَاقِهِ عند أول مُنْعطفٍ، أخنقُهُ بقبضتيّ فلاحٍ.. فأرتاح.

قبل فتح الستارة، فاجأني مدير المسرح بِذِكْرِ اسمي، وَصَفَني بأوصافٍ رنَّانةٍ، ثم أشار إليَّ فالتفتْ نحوي الأعناقُ، دعاني للصعود، قلَّدني دِرْعَ المتفرج المثالي، مَنَحَني بطاقة دعوة دائمة، عانقني مُبتسماً لعدسات التصوير، ظهري للجمهور وَجْهُهُ للعدسات.

خرجتُ بعد العرض مَزْهُواً.. عند أول انعطافٍ تخاطفتني في الظلام أَذْرُعٌ، حَشَرَتْني عضلاتٌ في سيارة.. ماذا فعلتُ؟، أغلقوا شفتيَّ بلاصِقٍ، له طعم الغرَاء الذي كُنّا نطْلِي به التنكات فارغةً، ثم نضع فَتَافِيتَ جُبْنٍ نصيدُ بها فئران الحقول. عَصَبُوا عينيَّ، قَرْقَعَتْ السيارة بين حُفَرٍ، لكموني من كلّ حَدْبٍ، شَحَطوني شَحْطاً، رفسوني في ممر طويل، أنزلوني درجات قبوٍ، رموني في غرفة دبقةٍ، صَفَقُوا وراءهم باباً، تركوني في حُلكةِ ليلٍ أشدَّ من الظلام الرجيم، أدركتُ لوهلةٍ ارتجافي مثل فأرٍ مذعور.

بعد شهرٍ، ربما.. سَنَتين، اعتذروا منِّي، أعادوا لي دِرْع المتفرج المثالي وبطاقة الدعوة الدائمة، أوصلوني في الفجر إلى غرفتي، دَسُّوني في فراشي.. نمتُ كما لم ينم أهل الكهف، ولَّما صَحَوْتُ.. اغتسلتُ، حلقتُ ذقني، لبستُ ثيابي، تعطَّرْتُ، تركتُ باب غرفتي مفتوحاً على مصراعيه، صعدتُ درجات القبو، ثم إلى مسرح المدينة.. نِكَايَةً بهم.

صَفَّقْتُ بعد العرضِ طويلاً، ووقفتُ ليراني الجميعُ، وَحْدَها.. الآنسة حنان هي التي تَذَكَّرَتْني، أشارتْ لِتَدُلَّ عليّ، قفز أعضاءُ الفرقة من عَلْيائِهمْ نحوي، عانقوني، بعد غيابٍ، استَبْقُوني، سألوني بلهفةٍ، ثمَّ بِرِيْبَةٍ ظاهرُها الشفقة، بكتْ الآنسة حنان، طلبتْ من المدير أن يَرُدَّ اعتباري، على الأقل… بتوظيفي، طالما أني لا زلتُ بلا عمل.

ابتسم الدُوْمَري، لم أَرْتَحْ لابتسامته، فاجأني حقاً، فَقَبِلَ تعييني في مسرحه!.

 

*توفيق بسْطُرْمة/ ديكوريست:

 لم أفهم في الديكور المسرحي أكثر ممَّا تفهمه أمي، حين تُرَتِّبُ الوسائد تحت إبطِ أبي ليتكئَ مُتَجَشِّئاً بعد الغداء‍.

الأستاذ خليل هو الذي دَوْكَرَ حياتي، جَرَّني من البَطَالَةِ خِرِّيجَ معهد صناعي ـ قسم الخرَاطَة، حتى بدا نجَّار المسرح أَعْرَفَ منِّي، لكن المدير فَرْمَلَهُ ورَفَّعني درجاتٍ فَوْقَهُ.. وعليه!.

اكتشفتُ أن تواقيعي على الفواتير أسهلُ من توقيع النجَّار، يُقَهْقهُ الدومريُّ بعد كلّ توقيع، يُنَحِّي جانباً تَصَوُّرات المخرجين، يرسمُ على ورقةٍ ما يراهُ.. أبواباً أو نوافذَ لا لزومَ لها، بيارقَ نصرٍ لمسرحيةٍ عن النكسةِ، نَفَّذْتُ له ما قد دَوْكَرَهُ طِيْلَةَ هذه السنين.. تزوَّج سبع مراتٍ، فجدَّدتُ له سبعَ مراتٍ ديكورات بيوتِهِ ومنازله، سبع مرَّاتٍ كافأني، يسمح لي في كلّ مرةٍ.. أن أصنع لبيتي خزانةً من أخشابٍ عتيقةٍ في المستودع، سريراً للطفل، طاولةً للأكل.. يتهدَّجُ ضاحكاً:

ـ ضَعْ عليها أطايب الطعام، شَمِّرْ عن أكمامك وتَوَكَّلْ.

 

* المُلَقِّن نسيم:

أول أجرٍ قبضتهُ عن عملي كَمُلَقِّن.. واقفاً في مستطيلٍ كأنه قبرٌ عمودي، خلفي شاهدةٌ.. لوحٌ من نحاسٍ تُخْفي رأسي عن الجمهور، ظهري للصالة، جبهتي بِمُوازاةِ ومُحَاذاةِ أقدام الممثلين!.

من كلِّ مُخْرِجٍ التقطتُ أفضلَ ما لديه، وما كنتُ أحلمُ يوماً باجتراحِ مآثرهم، لكني في إحدى البروفات.. رفعتُ رأسي لحظةَ استعصاء المخرج على ابتكارِ حلٍ، قلتُ على استحياء:

ـ إذا استدارتْ الجوقةُ مُعْطِيَةَ ظهرها للجمهور، يُمكن لـ أوديب أن يُضَاجِعَ أُمَّهُ.

استدركتُ:

ـ يُمكننا هنا يا أستاذ، استخدامُ التغريب، كما فَعَلَ بريخت.

نَطَّ المخرج مثل قطٍ:

ـ بريخت.. نعم، يُفيدُنا هنا بريخت.

نَفَّذوا اقتراحي، تمدَّدت الممثلةُ/ الأمُ قرب أنفاسي على قطعة الحرير، رأيتُ.. أو.. هكذا، خُيِّلَ إليَّ، حيرةَ أوديب غامضة تُوْحِي بالغرائز.. تسرَّبَتْ إلى أعصابي أنفاسُ الممثلة/ الملكة، خُيِّل إليَّ.. أو.. هكذا رأيتُ الممثلةَ بأعوامها الأربعين تُخْفِي بالكاد اشتهاءً مُزْمِناً للمثل بأعوامهِ العشرين، الممثلُ.. بدا لي لحظةَ قُبْلته الأولى طفلاً يتعثَّرُ بثيابِ شبابه، غِرَّاً.. تَفضحُهُ الملامسةُ الأولى للأنوثةِ أُمومةً، للأمومة ملكةً لا يُطَالُ حَرِيْرُهَا بالتشهِّي، للمليكة امرأة تَعَتَّقتْ مثلَ دنِّ نبيذٍ مُهْمَلٍ في عَتْمَةِ كهف.. ارتعش جسدي كُلُّه في حُفْرة التلقين.. كأني الذي ارتكبتُ الخطيئة، كأنَّ الآلهةَ لم تصنع قدري، لم تقذفني في أَتُونٍ.. أغمضتُ عينَّي خوفاً من نبوءة العرَّافين.

بعد ارتعاشي.. بكيتْ.

نَفّذوا أول اقتراحٍ فتوالتْ اقتراحاتي، لكن الدُوْمَرِي تركني في الفتحة التي تحت الخشبة، حتى تسرَّبت الرطوبةُ عبر قدميَّ إلى عظامي على هيئة روماتيزمٍ مُسْتَدِيم!.

في يوم سَعْدِي، والممثلون يتأفَّفُون من انقطاع التدريب، اغتنمتُ حيرةَ الدُوْمَري، قفزتُ من تابوتي، اتجهتُ نَحْوَهُ مُبَسْمِلاً بجملة هاملت، حتى صرخت هِيَ بي:

ـ سأكونُ مُخرجَ هذه المسرحية، أَوْ.. لا أكون.

حدَّق بي كأني شَبَحٌ، حدَّق فيَّ الممثلون كأني حَفَّارُ قبورٍ، قال الدومري:

ـ تَوَكْلْ.

فَتَوَكَّلْتُ..

 

*حَمْدو الكَهْرَبجِي:

 مَرَّ عليَّ الأستاذ خليل، ابن حارتي، قبل أن يتركها إلى منازله، قال:

ـ احمل عُدَّتَكَ وتَوَكَّلْ.

دخلتُ الصالةَ مُلْتَمِساً خُطَاي على امتداد ضوءٍ شاحبٍ.. آتٍ من وراء الكواليس.

حين انتهيتُ من إصلاح الكابلات الثلاثية، وأعطي الأستاذ إشارته، أدهشتني الأضواء التي سطعتْ، والظلالُ خلفّ الستائر.

استأذنتُ الدُوْمَري، ابن حارتنا، أنْ أبقى لأتفرَّجَ على ألعاب الممثلين، قَهْقَهَ، ثم بَتَرَ ضحكته:

ـ على شرط، تجلس دون أن تفتح فمك.. تَوَكَّلْ.

زَمَمْتُ فمي، أَجْلَسْتُهُ على آخر كرسي في الصالة.. صار الممثلون يصعدون بِتَمَهُّل إلى خشبة المَرْسَحْ.. حين بدأ التشخيصُ أحسستُ بتيارٍ يسري في عينيَّ، عبر أُذني.. يُكَهْرِبُ جسدي!.

لأول مَرَّةٍ أرى تشخيصاً على المَرْسَحْ، تذكرتُ كَمْ يُشْبِهُ هذا ما قد فَعَلَهُ الساحرُ حين اقتحم حارتنا بمناديلهِ وكُرَاتِهِ الموَّنة، استأجر المقهى، بدأ عروضَهُ صَبَاحَّيةَ أول أيام العيد، دفع أبي فرنكين كاملين لأدخلَ ولم يدخل، همس لي: استَعِذْ بالله يا بنيَّ عند كلِّ لعبةٍ، إذا صاحَ عليك فلا تذهب.

لكني حين دخلتُ المقهى نسيتُ التعويذة، ثم كأنَّ الساحر قرأ شفاه أبي عند الباب، فدعاني إليه.. قفزتُ إلى المَصْطَبةِ ناسياً تحذيرَ أبي، لم أُفْلِحْ في الصعود، أمسكَ الساحرُ بيديَّ ورفعني عالياً في الهواء.. في الهواء بَقِيْتُ، أَخْرَجَ الكُرَاتِ من جيوبي، من فمي، من أُذُنَيَّ، ومنْ.. قَفَايَ، ضحك أولاد حارتنا عليّ، وحين أكلني الغيظُ وجدتُ أقدامي تسقط نحو خشب المصطبة.

أَشْفَقَ الساحرُ عليَّ فصار يدعو أولاد الحارة سبعاً وراء سبعٍ، يجعلهم في سراويلهم يتبوَّلون لأُغِيْظَهُمْ بضحكاتي، يُخْرِجُ بَطَّةٌ من قُبَّعتِهِ، يُدَوِّمُ برشاقة أصابعه فتختفي، يسألني:

ـ من سرق البطة؟!.

فأُشير إلى سارق ألعابنا في الساحة، يذهب الساحرُ إليه ليُخرِجَ من ثَنِيَّاتِ قميصهِ ريشاً وجناحين، ذيلاً ومنقاراً وقدمين بالخلاخيل.. تلك أشلاءُ بطةٍ! يسخر الساحر منه:

ـأكلتَ البطة نيئةً؟!

يُمْسِكُهُ من ياقته، يقلبه رأساً على عَقِبٍ، يَدْحُوهُ على ظهره، يُطلْقِ سارقُ ألعابنا صرخةً تستغيثُ، فتطير البطَّةُ من فمِهِ، ترِفُّ، ثم تحطُّ في حُضني.. نضحك.. نضحك..

يا الله، كأنَّ الساحرَ بعد كلِّ هذه السنين أمامي، تَوزَّعَتْهُ أجسادُ وحناجرُ الممثلين!.

استرخيتُ في مقعدي أُتابِعُ، ولَّما أَطَلَّتٍ حنان وقالت جملتها الأولى.. انخلعَ قلبي من مكانِهِ.. صاعقةٌ من بَرْقٍ نَزَعَتْهُ من صدري، رَفَعَتْهُ في هواء الصالةِ، خفْتُ أن يصطدمَ بالسقف، أن تتقاذَفَهُ الجدران، لكنَّهُ خفَّ، رأيته يَرِفُّ حولها، يطيرُ حيث تَسيرُ، يحطُّ حيث تجلس.. ركضتُ به بعد انتهاء التدريب:

ـ دخيلك يادُوْمَري.. شغِّلني عندك.

 

*حَمْدُو.. سابقاً/ لاحِقاً.. حميد طاهر:

أغلقتُ دكاني، لازَمْتُ المقعدَ الأخيرَ في زاوية الصالة، أُراقِبُهَا تَمِيْسُ فوق الخشبة، أحفظُ الأدوار كُلَّها لأتهجَّى دورها، أراها في العروض من خلف الكواليس يغسلها الضوءُ على الخشبة ويَجْلُوْهَا التصفيق.

قال لي الدُوْمَرِي، ابنُ حارتنا: تَوَكَّلْ..  فبقيتْ، ثُمَّ لم يَعُدْ يتذكَّر حتى وجودي، صرتُ جزءاً من هذا الهواء، يُنَاوِلُني آذنُ المسرح أبو صالح كأسَ الشاي في الاستراحةِ، كأني واحدٌ من الجميع.

يوماً.. بسخونةِ الشاي احترقتْ شفتايَ لَّما انفجر المدير في وجه الممثل الرئيسيّ:

ـ نَفَدَ صَبْري عليك، حَرَّضْتَهُم على الانشقاقِ عن مسرحنا..

أخبروني، فرقة أضواء المدينة.. هِهْ، وَجَدْتَ اسماً مُنَاسِباً وضَلَلْتَ الطريق، لا أحدَ معك.. غيرَ اثنين من الكومبارس، وعاملِ إضاءة لا يعرف كيفَ يصعدُ إلى »البرجكتورات« دون أن يَقَعْ!.. خُذْهُمْ بعيداً وتَوَكَّلْ.

مَرَّتْ لحظةُ صمتٍ مُتَوَتِّر، رأيتُ فيها وجهَ حنان مَغْسُولاً بالخيبة، شفَّافاً وحزيناً مثل وجه اليتيم، ورأيتُ الدُومريّ يَتَشَهَّاهُ ثُمَّ يقول:

ـ فَكِّروا معي بممثلٍ يُنْقِذُ الأغلبيةَ في مسرحنا.

أنهضتني كهرباء غامضةٌ من مقعدي.. ركضتُ عابراً الممرَّ الطويل، صَعَدْتُ الدرجات دَهْراً نحو الخشبة.. وقفتُ قِبِالَةَ حنان، كأني سأحميها من وَحْشَةِ أدوارها، سأحتويها بأطراف هواجسي، وبالشوق يَسْتَنْفِرُ الحَوَاسَ تمثيلاً، يُكَهْرِبُ الهواءَ الذي بيننا فترتعش الستائر، بدأتُ الحوار معها من حيث انقطع.. لم أَعُدْ أرى غيرها في كُلِّ تدريبٍ، في كلِّ مشهد.

عانقني المدير على نجاحي في إنقاذ مسرحه، وليس على رهافتي في التمثيل، همستُ له:

ـ قُلْ لقاطع التذاكر.. آخرُ مقعدٍ هناك في الزاوية، يظلُّ محجوزاً لي، باسم حمدو الكَهْرَبْجي!..

مُذْ ذاك، في كل تدريبٍ، وفي كلِّ عرضٍ.. يجلس حمدو الكَهْرَبْجِي على ذلك المقعد يَرْقَبُني وأَرْقَبُهُ، أغارُ منهُ كلَّما دخلتُ إلى الكواليس وظلَّتْ حنان وحدها على الخشبة، أو.. مع ممثل غيري!.

 

* المُخْرِج نسيم:

لَمَسْتُ الوترَ الخفيَّ بين حنان وحميد.. صِرْتُ أَعْزَفُ عليه،

صنعتُ منهما أجملَ ثُنائيٍ على المسرح، ما إنْ يَرِنَّ جَرَسُ البداية، حتى يُضْرِمَا حروف الحوار بشوقٍ كَتِيْم يُحِسُّهُ الجمهور ولا يراهُ.

أثناء التدريبات، يجلسان.. كلِّ في طَرَفٍ، يغرقان في تفاصيل الدور، لا يَنْبِسَان بحرفٍ، يتبادلان التحية بِرَفَّةِ الرموش، تَارِكَيْنِ كلَّ كلامٍ مُعَلَّقاً بلحظِة انفتاح الستارة.

في نهاية كلِّ عرضٍ.. يتبادلان نظرة صامتةٌ، أَلْمَحُ ارتعاش يديهما إذْ يتقاربان لحظة اصطفافِ الممثلين رَدّاً على التصفيق.. لم يُمْسِك يدها مرةٌ ليرفعها ابتهاجاً، لم تُقَارِبْ يَدَهُ.. يمضي كلٌّ منهما إلى غرفتين مُتَبَاعِدَتَيْنِ ليخلعا أدوارهما، تندفع حنان خارج المسرح دون أن تلتفت إليه، يتنحَّى لها مُتَشَاغِلاً بأيّ شيءٍ، ثم يخرج مُعْطياً ظَهْرَهُ لسيارة التاكسي المُنْطَلِقَةَ بها إلى بيتها مُنْتَصَفَ كُلِّ ليل.

في البداية، اعتقدتُ أنهما بهذه البرودة يَخْدَعَاني، ليتحاشيا المديرَ والزملاء، الصحافةَ وإشاعات الناس، تخيَّلْتُ على الدوام كيف تدور السيارة بها من الشارع الخلفيِّ لمبنى المسرح نحو الرصيف الذي يمشي عليه، تتمهَّلُ السيارةُ قُرْبَهُ، تفتحُ حنانُ البابَ، أرى أصابعها تنتشلُ أصابعَ لَهُ تتأرجَحُ، ينصفق بابٌ وتطيُر بِهِمَا عربةٌ اسمها الرغبةُ..

أُقَرِّرُ ـ كلّما وضعتُ رأسي على وسادتي ـ مَنْعَهُ عن دور العاشق، وأَنْ.. أَرْمِيَةُ عن لِحَافِهَا وحريرها وثِمَارِهَا المُحَرَّمَة، أن… أقِفَ قَبَالَتَهَا على الخشبة، أُعانقها أو.. تُزَمِّلَني بِجُثَّتِها مثل جولييت.. أَحْتَلِمُ تحت لحافي، ترتجف الأضواءُ، تَعُمُّ السكِيْنَةُ فضاء الخشبة، أَتَكوَّرُ حول نفسي مُبَلَّلاً بهواجسي.. أنام.

 

* يوسف/ نَجَّار المسرح:

منذ أربعين عاماً، وأنا انتظر أن يأتي أحدٌ.. أيُّ أحدٍ ليُزِيْحَ الدُوْمَري عن مَنْصِبِهِ المُسْتَدِيم، بَدَّلْتُ تسع مطارق وإزميلاً ومنْشارين كهربائيين، تبَّتُ ونَزَعتُ معملاً من المسامير، فتَحْتُ براميلَ من الغِرَاء، الخشبُ الذي جَهَّزتُهُ لديكورات مسرحنا يكفي نوافذَ حيِّ بأكملهِ!..

قالت لي أُمَيَّة، خيَّاطة مسرحنا، قبل أن نَتَزَوَّجَ:

ـ لستُ عذراء بسببه، أرعبني في مستودع الألبسة، أرهبني، رغَّبني بقماشٍ رديءٍ..

وأنا نجَّار المسرح، احتجتُ قطعة خشبٍ أُرَمِّمُ بها سريرَ ليلةِ عرسي، فاجأني المدير أخرجُ بها من الباب الخلفيّ، هَنَّأني على زواجي الوشيكِ، ثمَّ حَسَمَ من راتبي ثمن الخشبة!..

تَشَكَّيتُ له، نَفَضَني خطاباً عن الأخلاق والأموال العامة!، ثم قال: تَوَكَّلْ.

كلَّما تحدَّثوا عن فُقْدانِ شيءٍ في هذا المسرح، حَدَّقَ المدير في عينيَّ، وكأني المتهم الجاهزُ دائماً بين يديه.

أخيراً، طَفَحَ معي الكَيْل.. فَصَّلْتُ له من أسوأ الأخشاب تابوتاً، قابعاً في قبو المسرح منذ سنين، مازلتُ أنتظر موتَهُ، أو تغييرَ جسدِهِ بجسد مُديرٍ جديد.. حتى صرتُ أرى التابوتَ في أوهامي.. يطير عالياً، ترفعه الملائكة البيضُ، الأبالسةُ.. ثمَّ، تُسْقِطُهُ عليه.

 

* الآنسة/ السيدة.. حنان:

عينا حميد أجملُ مافيه، يُذَكّرني بأبي.. رجولتهما في العينين!.

منذ اكتشفت أنوثتي خلف الكواليس، أمسكتُ أقربَ قلمٍ، رسمتُ رجلاً.. رشيقٌ ظِلُّهُ، بوجهٍ غائمٍ، لَوَّنْتُهُ بهواجسي.. عَلَّقْتُ لوحتَهُ دونما إطارٍ فوق سريري.

لو أنَّ حميداً دقَّ زجاج نافذتي بغير عينيه، كنتُ رَكَنْتُ اللوحة في خزانة أمي.. لو أنه خلعَ صمتَ المفاصل في باب غرفتي، لو حطَّمَ وَحْشَةَ الخشب، كِدْتُ أكرهُ أمي حين غاب أبي صامتاً حِيَالَ تَسَلُّطِهَا ولسانها الزَفِرِ.. الطويل.

بعد موته.. استعارتْ أمي صَمْتَهُ، هجرتْ غرفتها، انزوَتْ في غرفته، أسمعها في الليل تسترجعُ آثامها منذ اشترطتْ عليه غرفتين للنوم.. مُنْفَصِلَتَيْن.

وحدي.. كنتُ دليلَ أُلْفَةٍ في أسبوعٍ قصيرٍ من العسل.

وحدي.. كنتُ أَنسلُّ إليه، بعد نومها، لأندسَّ في فراشه الأبويَّ، كان يدسُّ في حقيبتي هداياه.. زجاجةَ عطرٍ على شكل قلبٍ، قلمَ شفاه، كتباً وروايات.. كأنه يفعل ما لم يستطعه مع أمي،  ما لم يفعله معي هذا الحميد.. لستُ طيفاً، فَلْيَلْمَسْنِي حميدٌ من يديّ، كأنما.. كلُّ الذين حولي في مسرح المدينة رجال مَخْصِيُّون.. لم تَعُد عيناه تتلصَّصان عليَّ من خلف الستائر، ما التفت أحدٌ لدمعتي عالقة على رموش المرآة في غرفة ملابسي، كَسَرْتُهَا.. تناثر وجهي شظايا من البللور، هجستُ برجلٍ يُدْمِيني، يركض في حاراتي المغسولة لِتَوِّها بالمطر..

أقفل الدُوْمَرِيُّ بابَ مكتبه عليّ، أقفلتُ أجفاني، عَرَّاني بضربةٍ من أصابعه، شعرتُ بدبيبِ عينيه فيما هو يدورُ حولي، يَتقًرَّى جسدي بِكَفَّيْهِ، مدَّدني على أوراق طاولته، استسلمتُ لرائحة الحبر في الأختام، لِمَلْمَسِ أعضائه تنزلق على جلدي.. اقتحمني، سمعتُ لوحتي تتمزَّقُ فوق سريري.. كاشفةً غرفتي للريح والماء المَهِيْن.

انتهى منِّي على عجلٍ، أَحْكَمَ ربطةَ عُنْقِهِ، انحنى مُمْسِكاً كَفِّي قَبَّلَها:

ـ سيدتي الجميلة.. أنت.

انخطفتُ راكضةً من مكتبه، خرجتُ من مسرحي بغير التي كُنْتُ..

 

* الآذن أبو صالح:

يوم احترقَ مسرح المدينة.. بكيتْ.

كلُّ ما فيه، كلُّ مَنْ فيه.. صار رماداً، مديرُهُ والمخرج والممثلون و….. لَمْ أَكُنْ أنوي أن أخونَ أحداً فأنجو.. كنتُ على الرصيف استلمُ صناديق المرطبات حين لَفَحَتْني من باب المسرح حرارةٌ وغطَّاني دخانٌ كثيف، خلعتُ سُتْرتي مُلَوِّحاً بها، كاشفاً أمامي الطريق.. الطريقُ ألسنةٌ من لهبٍ، سمعتُ صرخات الجميع، استغاثاتهم، انهيارات الكواليس، شَمَمْتُ رائحة شِوَاءٍ، رائحة لحمٍ آدمي.. يا لطيف الألطاف اسْتُرُ، ثم قذفني انفجارٌ نحو الرصيف، ارتطم رأسي بإفريز الشارع، رأيتُ في غيبوبتي… ستائرَ زرقاء، أضواءً، خشبةً خضراء دونما كواليس، ثم لا أدري سوى أني في فضاءٍ لا يُحَدُّ.. كنتُ الممثلَ الوحيد!.

حلب كانون أول 1998

كواليس غرفة نوم قيس وليلى

* كرة الضوء الحمراء:

أتدلَّى من منتصف السقف، فوق سريرها.. تماماً، كأني قَدَرُهُمَا..

اختارتني ليلى فحملني قيس مُبتهجاً، علَّقني بالسقف وليلى تُراقبه.. تخشى أن يَمِيْلَ به الكرسيُّ فيقع.

وضع في فمي مصباحاً أحمر، طَبْطَبَ عليَّ:

ـ اخجلي، سترين أشياء لن يراها أحد!.

أطاح بالكرسيِّ قافزاً باتجاه ليلى عن عَمَدٍ ليطير بها إلى السرير، فلمَّا حطَّا على بياض المِلاءة، وصارت ليلى بين ذارعيه، ضحكاً.. كان يضحكان مثل العصافير، قال:

ـ لم أَعُدْ أحتمل..

ـ تظلُّ تتشكَّى، ماذا تريد؟!

ـ أُريدكِ..

لم يُكْمل جملته، أطبق على شفتيها بشفتيه، حتى لكأنَّ دهراً مضى، ثم كالمجنون عَرَكَهَا عجينةً تحت لَمْسِ يديه، فَارَ بهما التَنُّور.. وأنا أنوسُ فوقهما مُتَفَادِيَةً ذُؤَابات اللهب، يُعَرِّيها قيسٌ من ارتباكه قطعةً قطعة، ومن ارتباكها حريراً يَشفُّ.. دوائر من لهفة الدانتيل، تتبدَّى ليلى كما لم تَرَ كرات الضوء امرأةً.. مُنَمْنَمَةً، خطوطها ألغاز الخَلِيْقَة، بلَمَسَاتِهِ تتلوَّى.. فتلمسه بالأنامل كأنما تتهيَّبُ غابةً وحشيةً ما بين كفيه، ما إنْ تقرؤُهُ حتى ينخطفَ فيتعرَّى، تختلس ليلى اللحظةَ لتتفادى عُرْيَةُ فَتُسْدِلُ الغطاء فوق ما قَدْ تجلَّى، يضحك مُنْدَسَّاً تحته، يِتلوَّى بهما قماشٌ، ينداحُ، يتدوَّر.. أسمع بالكادِ زقزقاتٍ، تَمْتَمَاتِ السَحَرَة، يَنْتِرُ قيسُ الغطاءَ كاشفاً ما قد استتر، فأُدرك لوهلةٍ تجسيد الغِوَاية ما بين ذَكَرٍ وأُنْثَاهُ..

الغرفة شَفَقٌ من غبار الطَلْع.. ليلى مُغمضة العينين وقيس يراها بأصابعه، بأطراف شفتيه، بأرنبة أنفه، بمرور جبهته فوق ارتجاف الخلايا، يتمسَّحُ بها، يَمُوءُ، يلمس ثم يُخَرْمِشُ، تتلمَّسه ثم تُخَرْمِشُهُ، بغتةً، يتصلَّبُ عموده الفقريُّ.. كأنه ينوي ابتعاداً، فإذا بَعُنَّابِهِ يطعن الوردَ، وإذا شهقتها تصَّاعد فتكويني، أراه يَهُزُّها كشجرة توتٍ قبل اندياح ثمارها فوق حقول السرير، يشهق فَيَرِقُّ، تشهق فتصير له يمّاً، سريرهما زَبَدٌ يمور.. مَدُّ أمواجٍ، رياحٌ تَلُوبُ، غيوم تنضفر فَتُرْعِدُ، يُعْشِيني التماعُ البرق، يَنفجر السرير عن أمطارهما.. الأمطار من سماءٍ عادةً!، الآن.. ترتقي منهما إليَّ، آه.. يا ربَّ كلِّ شيء، ما أصعب أن يكون أحدٌ ثالثَ اثنين في غرفة النوم!.

ثم كأنهما السكينةُ بعد العاصفة!!

ينحلُّ التحامُهُمَا على مهلٍ، كأنما لا يُطِيْقَانِ افتراقاً.. مُسترخيان جَنْباًَ إلى جنبٍ، أصابعهما مُتشابكة، أعضاؤُهُمَا تَختلجُ وَهْناً على وَهْنٍ..

يمرُّ دهرٌ من ذهولٍ، متمايلاً فوقهما كنوَّاس الساعة، ثم تختلجُ في الغرفة نسمةٌ فأرى نقطةً، ثم اثنتين، ثم ثلاثاً، أشدَّ حُمرةً من خجلي، حين تنهض ليلى مُهَرْوِلةً، قبل أن يلمحها قيسٌ في غَفْوَتِهِ.

على صوت انصفاف بابٍ وراءها، أستفيقُ، ويستفيق قيس.. يتلمَّس بامتداد ذراعه مكانها، أصابعه تنكمش فوق مساحتها دافئة وخالية، يلوي رقبته فيلمح النقاط الحمراء إيَّاها، يُبْهَتُ للحظةٍ..

يرفع أصابعه أمام عينيه مُخَضَّبَةً بِحِنَّاء البكارة.. يهتف مثل غرٍ:

ـ فَعَلْنِاهَا يا ليلى.. فعلناها!..

من خلف باب الحمَّام، أسمع ويسمع قيسٌ شهقةَ الماء في ضحكاتها، يتقافز قيسٌ.. لو أني بقدمين، يفتح الباب، أراها وسط زذاذٍ وبُخَارِهِ، ثم أرى قيساً يلتحم بها تحت انثيال الماء، وليلى تتحاشاه.. لو أني أطراف أصابعه، يُدَغْدِغُها قيس من ثناياها، تُزَقْزِقُ:

ـ خَلَصْ دَخِيْلَكْ.. خلص..

تَنْدَاحُ برأسها إلى وراءٍ، فيرتشف الماء مُنْثالاً من طرف ذقنها، يرتشفه من مرايا الرقبة، من بحيرات النهدين.. تشبكُ ليلى أصابعها خلفَ رقبته، تُدْنِيْهِ  بُرْهَةً ثم تُبْعِدُهُ حتى يرتوي الظامئون، الذين احتشدوا في حَشَاهُ، وعلى أطراف شفتيهِ.. يا ربَّ الأرباب، لماذا خلقتني كرةً من خلائط »الفِيْبَر«، ليس فيها الطينُ؟!.

ينفجرُ المصباح في رحمي، شظاياهُ تُدْميني، فَأُطْلِقُ صرخة المُعَنَّى يرتجُّ لها الهواء، يتجمَّد قيسٌ، ينقطع ترنيمُ ليلى، يهمس لها مُتَحَفِّزاً:

ـ سمعتِ صوتاً؟

ـ سمعتُ!.

ـ ماذا كان؟!

ـ صوتٌ!.. مُجَرَّد صوت!!

بغتةً، ينفجران ضاحِكَيْنِ، كانا يضحكان من نسمة الهواء إذا هبّت.. كأنما العشق مُرَادِفٌ للضَحِك!!.

يتركاني في ألمي، يتجهان نحو أريكة في الصالة مُتَحَاصِرَيْنِ، تلفِّ جَذْعَيْهمَا منشفة واحدة، والوقت ما بين صباح وظهيرة.. متى سينتبه أحدهما فينزعَ من أضلاعي الشظايا.. خسرتُ لِتَوِّي ضلعاً، ثمَّ سيمرُّ ليل حتى يكتشفا أني بِقَدْرِ ما انتشيتُ بهما.. تألمتُ، كأنما النشوةُ يتبعُهَا الألم!!..

 

* ليلى :

لم يكن قيس أول شابٍ.. أُعْجَبُ به، لكنه أولُ من أحببتُ، ولا أتمنَّى أن يكون آخرهم..

ما إنْ تكوَّرَ نهداي حتى أخافني الدم الأول، ثم شهراً تلو شهر.. تجاوزتُ خوفي، خصوصاً حينما تعلَّقتْ بي أولُ عينين ذكوريتين.. مَيَّزَتَانِي من بين صبايا الحارة، مَسَّ قلبي اضطرابٌ غامضٌ تبلورت له في داخلي مرآةٌ، كبرتُ فكبرتْ معي.. أرى فيها انعكاس وجوه الرجال وأرواحهم، قيس، الآن.. في محْرَقِ اللوعة، ثم بإصراره الطفوليِّ، بِخَفْق روحه كلما رآني، راح ينقش اسمه فوق رهافتها، مُتَخَوِّفاً أن يُثْقِلَ فيُشظِّيها.. غَيْرُهُ، من ردَّة فعلٍ أولى رماها بالحجارة، اتقَيْتُهَا سَبْعَاً براحات الروح فَأَدْمَتْنِي، وبفتنة الجسد.. فأَدْمَيْتُهُ.

سِأَلَتْنِي نفسي مِرَاراً.. لماذا لا تختبرين حُبَّ قيسٍ فوق حقول الجسد؟!.

شيءٌ ما، كان ينمو، يتبرعم بينما نتلاقى لنمضي معاً، نقضي اليومَ بِطُوْلِهِ حتى نطويه، يُودِّعني قيس مساءً عند مدخل البيت الذي أُشَارِكُ فيه طالباتٍ غيري، ينتظرني عند خروجي من محاضرات الجامعة، نحكي في كُلِّ شيء، وعن كلِّ شيء.. سِوَانا، يَهْجِسُ دوماً بحلمٍ على هيئة طائر يفرُّ من بين يديه.. ها أنذا أيضاً بين يديه، فلماذا لا تَهْجِسُ يا قيس بحلمٍ يُداريك؟!..

يتفادى قيس هواجسي بأحاديث ونقاشاتٍ عامةٍ، بسخريته من كلِّ شيء، سِوَاي، يهجو زمناً لايجيءُ وأزماناً أوصلتنا إلى ما نحنُ فيه.. يضحك من خيباتٍ لا أكاد أراها، قال إنها آتيةٌ.. لارَيْب!.

يُعَدِّد لي جوائزَ فيلمٍ سَنَراهُ، حتى لنكادُ نكون وحدنا في عتمة الصالة!

يُشير في مسرحٍ إلى رؤوس قليلةٍ، مُتناثرةٍ فوق الكراسي.

يدعوني إلى جلسة شاي في المقهى المُوَاجِهِ للقلعة، بعد حفلة فول مُدَمَّس، نتبادل كُتُباً نكتفي من نقاشها بغمزةٍ لنرميها في أقربِ برميلٍ لزبالة، وَضَعَ أحدنا وردةً في كتابٍ، احتفظنا به، حتى صارت لدينا حديقةُ وردٍ في أرحامِ الكتب.

نمشي كثيراً لنطوي حاراتٍ مُبَلَّطةٍ بالحجر، نعبر تحت أقواس وزخارف لم يأكلها بَعْدُ أو.. سيأكلها سرطان الأسمنت، نُدَلِّي أرجلنا في الهواء مُتَلاصِقَيْنِ فوق أحد أبراج القلعة، وحلبُ حولنا ومن كل جهاتها تتبدَّلُ ببطءٍ، تتغضَّنُ، نَسمع صوت سُعَالِهَا وَلُهَاثَ رئتيها من زفير النفوس.. يَرِفُّ بجانبنا شيءٌ، فإذا كيسٌ من النايلون الأسود، يتخطَّانا مُدَوِّماً، ثم يهبط فَنَخَالُ مصيرَهُ خندقَ الماء حول القلعة، غير أن هَبَّةً من غبارٍ تُدَوِّمُ مُحَلِّقَةً به يكاد يَلْمِسُ قُبَّة مَزَار »النسيميّ«، يتلامَعُ تحت شمسِ رمادٍ فيختفي عن ناظرينا، أسأل قيساً:

ـ أين سيحطُّ، إذا مضى في هذا الاتجاه؟!.

يُحدِّقُ في الهاوية التي تتبدَّى تحت قدميه:

ـ سيحطُّ في باحة مدرسة الكواكبي..

ـ تلك التي في الحيِّ الجديد، تُرفرف فوقها الزيناتُ؟!.

ـ بل، القديمة.. خاويةً من طُلاَّبه ومُرِيْدِهِ!..

نمشي كثيراً لِتَتْعب فينا الأسئلة.. نتعبُ لنجلسَ، حتى لنكاد نعرف كلَّ ظلٍ على كلِّ مقعد في الحدائق، حين ننهض.. نكون تركنا إشاراتٍ غامضةٍ على مساند الخشب.. بغتةً، يقف بي قيس أمام مكتبةٍ، يتركني على الرصيف، يدخل، ثم يخرج بديوان شعرٍ في كلِّ ما قاله أراغون لإلْزَاهُ، يُنَاوِلُني إيَّاهُ.. لماذا يتخفَّى قيسٌ وراءَ سِوَاه؟!.

مرةَ، قال لي مُتَفَاصِحٌ من حزبٍ ثوري، مُحاوِلاً إغوائي:

ـ كم تُشبهين روزا لوكسمبرغ.

ثم عَدَّ أسماء عشيقاتٍ مجهولاتٍ جداً لمناضلين معروفين جداً!.. ما شأني أنا بكلِّ هاتِهِ النساء؟!. لكزني قيسٌ:

ـ أين شَرَدْتِ؟!.

لأُغِيظَهُ.. حكيتُ، اقترب.. صرنا مُتَقَارِبَيْن في تَقَابُلِنَا بأكثر ممَّا تَحْتَمِلُهُ ساحةٌ عامةٌ، حامَتْ حولنا العيون باستطلاعٍ فًَجٍّ، قال:

ـ أُخَمِّنُ أنك قلتِ: بل.. أنا ولاَّدةُ بنت المُسْتَكفي!.

ضحكتُ حتى لامَسْتُهُ، شدَّني من يدي كاسراً طوقَ العيون، دوائرَ الأفواه حولنا فَاغِرَةً من الدهشة.. كأنها لم تر اثنين يضحكان في ساحةٍ هكذا، سوى في الأفلام!.

عبرنا الساحة ركضاً.. أصابعنا تتشابك.

ثم كأن قيساً يقرؤني من أصابعه التي بين أصابعه، همس ونحن نعبر ممرَّ المشاة:

ـ أتعتقدين أن ابن زيدون قد مات؟!!.

يكتفي قيس بتلميحاته.. يُهديني قصائد غيره، وهو الشاعر، أكثر أقرانه مُشَاركةً في أمسيات الجامعة.. يُغيظني أنه لم يقرأ قصيدة لي، كَتَبَهَا لأجلي، مُبْتَهِلاً، بتضرّع، يطلب قلبي بأيّ ثمنٍ، أو… يموتَ دونه!.

صفقتُ باب غرفتي ورائي، تركتُ زميلاتي في المسكن ذاهلاتٍ، وقيس عند مدخل البيت.. لا أنا دعوته، ولا أنا وَدَّعته، قُلْنَ من حيرتهن: تفضَّل يا قيس، فاعتذر شاحباً وغادرهن.

رميتُ ديوان أرغوان إلى السرير، فطارت من ثناياه ورقةٌ مَطْوِيَّةٌ، ما إنْ لاَمَسَهَا الهواء حتى اتخذت هيئة جناحين، رَفَّتْ بين أربع جدران، تهادتْ قُرْبِي، ثم استكانتْ فوق الطاولة، ارتكبتُ.. تلامعت فيها حروف، تلك قصيدة بخطِّ قيس!.. أثقلني عرقٌ باردٌ حارٌ، تجمَّدت بُرْهَةً لا أُطِيْقُ في نفسي حَرَدَ البنات، ثم لم أعد أُطِيْقُ بلوزتي.. خلعتها عنِّي، خلعت حذائي.. قذفته إلى ركنٍ، خلعتُ بنطال الجينز، طَوَّحْتُ بحمَّالة نهديَّ، رميتُ إلى لامكانٍ.. سروالي الداخلي..

على الكرسيّ، جلستُ.. تناولتُ بأصابع واجفةٍ قصيدته، فَتَلامَحَتْ في سواد حبرها عيناه، ارتجفتُ.. أَسْدَلَ خجلي السِتْرَ عليّ، قرأتُ أولَ ما تهجَّتْهُ الروح:

»أودُّ لو أجمعُ النساء فيكِ

ثم أُوَزِّعَهنَّ في القبائلِ

ليسَّاقطَ الرجالُ صَرْعَى كُلُّهُمُ

قتيلُ هواكِ.. هذا القيس«..

أُنَقِّلُ عينيَّ ما بين سطورِهِ، قلبي يخفق من أطرافه، عُرْيِي يَصْطَكُّ.. هل هذا هو الحب؟!

أقفز مُنْدَسَّةً في سريري، أَشُدَّ الغطاء فوقي حتى آخر خُصُلاَتي، مُحْتَجِبَةً عن كلِّ ما عدا قيس.. يَقْرَعْنَ باب غرفتي مُتَضاحكاتٍ، تدعوني زميلاتي لأخرجَ إلى عشائِهِنَّ الأخير..

أتشَّبثُ بِثَنِيَّاتِ فرَاشِي كأني أتمسَّكُ بحبل المشيمة.. لا أريد أن أعبرَ لِيُفاجئني ضوءٌ فأَصْرُخَ احتجاجاً ثمَّ أُداري خيبتي ببكائي.. تقطعُ الدَايَةُ حبلَ المشيمة، تُمسكني من قدميَّ، تقلبني في فضاء عيونٍ تستطلع قدري، يتجهَّمُ وجهُ والدي من انتظار ذكرٍ لا يأتيه.. لا أحد يُزغرد، يمسحون بالملح بكائي، ثم بالزيت خَطَاياي، لا أحد يُوزِّع الحلوى.. يَضمُّون فخذيَّ، يُسْبِلُوْنَ ذراعيَّ خاصرتي، يربطونني بالقمّاط.. كأنهم يمنعون عنِّي ألعاب الطفولة، لكنها قبلةٌ، خاطفةٌ فحسبُ، أطلقتْ فيَّ أنوثتي، ولمَّا أَزَلْ ألعبُ بحثاً عن حرارةٍ تُشْبٍِهُ لَدْغَ النَّحْلِ، بحثاً عن تفسيرٍ لاضطراب الهرمونات في الدم وفي الدماغ، ولآلام الحَيْضِ، مُذْ طوَّقني ابن الجيران بذراعيه، في ظلال مدخل بيتنا، وعلى عَجَلٍ.. قبَّلني.

اكتشفُ فيما بعدُ.. أَنْ لا شيء يُسْتَعَادُ، وأَنْ للقبلات نكهاتٌ كالتوابل مُفْرَدَةً.. بَعْضُهَا كخَلْطة العطَّارين، بَعْضُهَا حَبَّةُ »فاليوم« بَعْضُهِا مَلاَذٌ، بَعْضُهَا.. بَعْضٌ من يأسٍ، بَعْضَها ما تَوَدُهُ الروحُ، وبعضها ما تصرخ به غرائزُ الجسد!، ثمَّ لم أعد أُسْلِمُ شفتيَّ لأحدٍ.. ما جدوى قبلةٍ لا تجمع هذا كلَّهُ، أو… تَزِيْدُ؟

جسدي بوصلتي، بوصلتي شفيفُ حاسَّةٍ في حوَّاء لا تُخْطِئُ في الرجال قراءةً واختزالاً.. آدمُ، غادرته تلك الحاسَّةُ، كانت قبل التفاحة لديه، طَوَقْهَا رَغَائِبُ فحولته.. الرغباتُ سِرُّهُ، تملأ جبهته، فَصِّيِّ دماغِهِ، وسوائله.. تُرْغِي، ثم تُزِيْدُ فيه، كما لَوْ دونها يخشى الموت!.

هل كان قيسٌ يخشى فَنَاءَه.. فأحبني؟!.

وكنتُ فقدتُ بكارتي قَبْلَهُ، أعطيتها فيما أنا ألعبُ، وقد نَغَّصَتْ عليَّ أنوثتي، ثم حين تَجَاسَدْنَا لأول مرةٍ، افتعل قيس ارتباكاً لم أُدْرِكْهُ.. دَلَلْتُهُ بأصابعي إلى دَغْل أسراري، ساخرةً من ارتباكه وقِلَّةِ خبرته، أوحى إليَّ بأني عذراء لتوِّي، وفي كلِّ مرَّةٍ، وكنتُ أدمنتُ ارتشاف الدِنَانِ قَبْلَهُ، ولسان حالي أن النبيذ.. سَوَاءُ!.

في أول لياليه.. خِلْتُ انتشائي به شيئاً تستدعيه الطَزَاجَةُ، ثم في ليلةٍ غَذَوْت لَهْفَتَهُ، ينداحُ سريراًَ، أتلوَّى لَحَافاً، مَرَةً يصير خاصرتي، مرةً.. تُطَوِّحُني خاصرته، أَلْويْهِ ويَلْوِيني، يأتيني كما تفعلُ الخيلُ، كما العصافيرُ ليلةً، يُدَاوِرُ حول مياهي لينخطف فيها كَفَحْلِ السمك.. أتجاذبه نحو شرقٍ وجنوب، يخطفني من نجمة صُبْحي.. أطير به من سُهَيْلٍ على زُحَل، أُوْمِي لبناتٍ نعشٍ مُتَمَنيَّةً معه اختلاج ذروات الموت!..

ثم لا يَكِفّث في اندياحه عن هَمْسِهِ:

ـ لا تُقَاربي عَنَبَاً قبل الأربعين، الخَلُّ يا ليلى دُوْدُهُ مِنْهُ و.. فيهِ.

أضحكُ بكلِّ أعضائي بين ذراعيه، فاكتشف لوهلةٍ أن أدغالي تضحك مثلما تَتَنَدَّى وتحتوي وتتأوَّهُ وترتعش..

من أجله.. دَاوَرْتُ أمام عشاقي، رميتهم بسهامٍ ليس في غاياتها القتل، لأُخْرِجَهُم بالصَدِّ الرؤوم عن حقولي، بينما أركض بأقدام الربيع نحو قيس، وقيس يموت من الغيرة، مُنتشياً بأني له دون سِوَاه.. كم تخيَّلتُهُ كجواد امرئ القيس مِكَرِّ، مِفَرٍّ، مُقْبِلٍ، مُدْبِرٍ معاً، كأنما ليطرد أجسادَ سِوَاهُ عن جسدي، ظلَّ في هَوَسٍ حتى تقشَّرَ عن جلدي الجلدُ، صَفَعْتُهُ:

ـ مجنونٌ أنتَ يا قيس.

تراخى بين نهديَّ، ثمَّ في صمتٍ بكى.. لامستُ ذَوَائِبَهُ:

ـ يكفيكَ أنكَ عَبَرْتَ بَرْزَخَاً إلى روحي.

استفاق كالذاهل، لامسني نحيلاً قد شَفَّهُ الوَجْدُ.. راقَصَني، جلسنا بعد لهاث إلى طاولةٍ في الرُكْنِ، رشفنا كأسين لنرتوي، تنحنح، على مُحَيَّاهُ هيئةُ سقراط لحظةَ تَجَرَّعَ قارورة السُمِّ، قال:

ـ ليلى.. هل تتزوجيني؟!

دونما قصدٍ.. فَرْفَعَتْ في المكان ضحكاتي، استدار نحونا كل رأسٍ حول طاولةٍ، كلُّ جَذْعٍ في حلبة الرقص، استقام مخطوفاً وغاب.. صرتُ أهجسُ من ثُمَالته، ومن جَذَعي، أتضرَّعُ إلى عَشْتار أن يدومَ عشقه، وعشتار تسخر منِّي.. تهمس في ليلي، وليلي كلُّه قيس:

ـ لرجلٍ واحدٍ، لم تُخْلَق امرأةٌ.

أُحَدِّقُ في عينيها مبهوتَةً.. فتحتجبُ.

يطلع صُبْحٌ فَتُشَافِهُنِي بحروفٍ وقد منعوا عنها ألواح الطين:

ـ بِحَدِّ السيف قَلَبَ جلجامش مُعادلتي، نَقَشَ بأزاميل الحديد على حجارة »أوروك«: لم يُخْلَق رجلٌ لأمرأةٍ واحدةٍ، فصدَّقه الرجال!.

أطيحي ياليلى بلوائح الحجر، قيسٌ من سلالته، واحدٌ بين الرجال، والرجال في سرير الحياة مُتشابهون، أطفالٌ هُمُ.. في إهَابِ النمور، جلودهم مُرَقَّطَةٌ، أقنعتهم خادعةٌ، قساةٌ، أنانيُّون، يُحبِّون فكرة الحب، لا يُجازفون بِمُلْكٍ، ولا بأَيْمَانِهِم وما مَلَكَتْ، مُلاَّك أجسادٍ وأموالٍ وأسلحةٍ، طُغَاةٌ، ما تحت جلودهم هَشٌّ كالقوارير.

ركضت إلى قيس، اعترفتُ له بالذي شَافَهَتْني به عشتار.

علَّق هامساً، كأنما لا يَوَدّث أن تسمع دوني النساءُ..

ـ في كُل امرأةٍ عشتار نائمةٌ، إذا استفاقت.. فيا لطيف الألطاف استُرْ!.

غَضَبْتُ ضحكاتي..  حاجَجْتُهُ:

ـ وأنت، تحسبُ أن جلجامش فيك؟!.

أخذني بين ذراعيه، أغمض عينيه، بين نهديَّ، همس لِتَوِّهِ:

ـ أنا أنكيدو، الذي من ماءٍ وطين.. أخذته المرأة من أطرافه على خبزٍ، وإلى ملحِ دُنْيَاهُ، ثم إلى نشوة خمورها الفاتنة:

أَدْنَيْتُهُ من حُلْمَتَيَّ:

ـ اشربْ يا قيسُ.. ارتوِ.

ظلَّ يرشفني كأنما قد تاهَ عن دياري دهراً، فلمَّا شَارَفَ مَوْتَهُ، استدلَّ من شهقة الروح عليّ.

ارتشفته كماء الضُحَى، توضأتُ بِسِرِّهِ وسروره، مُدْمِنَةً على صَبَوَاتي فيه، حتى لكأنه قال مرةً:

ـ لماذا لا نتزوَّج!

فتزوَّجنا.

بل، أنا التي قلت:

ـ تعبتُ يا قيسُ من سؤال العيون، معك وحدك.. أَحْبَلُ بالأجوبة.

تزوَّجنا..

* قيس

لم أجد هذا المقطع بين مُسوّدات قصّتي.. وكنتُ في أول نومي، يمنعني شيء غامض عن نومي، ثم جاءتني قصتي هذه؛ على أطراف أصابعها.. حافيةً، دغدغتْ أرنبة أنفي، ما خلف أذني حتى منبت الكتف، تشمَّمتني، همستْ.. تقلَّبتُ في سريرٍ غير سريري، لكزتني.. استفقتُ.

فلمّا أفقتُ.. لم أجد هذا المقطع بين مُسوَّدات قصَّتي، كأنه حبر إلى بياضه.

حاولت كتابته ثانية فما طاوعتني الحروف، حاولت استحضار قيس ثانيةً فما أدركتُ سوى غيابه في حضوره؛ وسوى حضوره في الغياب.

قيس بعد انتهاء قصّته: غادرني، حتى.. لم يعد لي من سلطانٍ عليه!.

* كرة الضوء الحمراء :

منذ عشر سنين وأنا أتدلَّى من ذات السقف.. أرى ذاتَ الغرفة جدراناً وكواليس.

اهترأ الشريط الذي يربطني بالسقف، سينقطع بي.

منذ ما لا أعرف، لم تُشْعِلا في رحمي ضوءاً، حتى صار يُؤْلمني نَحِيْبُهُ، تحايلتُ عليه فَأَسْقَطْتُهُ، بِدوائر أحشائي.. ارتطم، سمعتما آهتي وصوت الشظايا، لم يرتعش فيكما جَفْنُ.. بعد دهرٍ، قال قيس دون أن يستدير:

ـ هل سمعت صوتاً؟!.

ـ سمعتُ!..

ـ ماذا كان؟!.

ـ صوت!!. مُجرَّدُ صوت!!

وما كُنْتُمَا في غَفْلةٍ، بينكما مسافة هي التي سأسقط فيها.. إذا سقطتُ.

وَجْهَاكُمَا كلٌ إلى جدارٍ.. الغبار يا ليلى تراكم فوق رموشي، وكُنْتَ تفكُّ قيدي كلَّ حينٍ، تأخذني من هُبَاب الدهرِ، تغسلني بالماء، يُلاحقك يا ليلى بتلميحاته.. يُشَبِّهُ استداراتي باستدارات أعضاء فيك، فتضحكين.. كم ابتهلتُ إلى الله أن يرزقكما بطفلٍ.. الذي فعلتماهُ أمام ناظريّ يُخَصِّبُ صحارى بأكملها، كأنما نُطَافُكَ.. وَهْمٌ، كأن ذروات خِصْبكِ في كلِّ شهرٍ.. سراب!

أهمس بكلِّ أقواسي:

ـ خُذَانِي بين ذراعيكما طفلاً من خلائط »الفِيْبرَ« فألهو بينكما لتلهو بكما الحيّاة..

هَمْسَتي تَتَمَاوَتُ، أُعَاوِدُ قبل شَهْقة الروح، كأنما أُذْكي في الرماد جَذْوَةً، أُحْرِقُ كفيَّ لأرمي بالجِمَار تاريخ العشق.. ياليلى، يا أراغون، يا بُثَيْنُ، يا روميو، يا إلزا، يا جميل، يا جولييت، يا ولادة، يا قيس..

ثمَّ، كأني قد.. متُّ، لا يسمعني في غرفةٍ.. اثنان، فكيف يسمعني النازلونَ من السَفِيْنِ، وقد رَسَتَ على الجُوْدِيِّ، يُخَوِّضون في الطين.. اثنان من كل نوعٍ، اثنان من كل جنسٍ، اثنان في واحدٍ، جوابٌ.. قَرَارُ، ربيع امرأةٍ يتنازعها الخريف، خريفُ رجالٍ بعد كل صيف.. تنضج امرأةٌ في صيفها، يكتمل رجلٌ في خريِفِهِ، والفصول لا تتوالى كما في تقاويم بابل، أَمْ.. في متواليات فيفالدي، وكان حكيم في الصين قد.. قال: »في مركز الكون جهاتُ الروح، في القلب تتداخل فصولُ الجسد..« ثُمَّ، لم يُكْمِل.. كأنما انكسرت في حبره حروف الخَزَف.

قيسٌ وليلاهُ.. نائمان، هل يُشبه موتي.. نوماً؟!.

أصرخ من شهقة الأمل:

ـ اقطع يا مُعاويةُ.. شَعْرَتك.

حلب

 

شاي جزائري.. بالنعناع

 

هل كان حلماً.. ما رأيتْ؟!.

لكني رأيت مدينة بيضاء، كحّلت نوافذها بالزرقة، تنحني بها جبالها نحو شواطئ اللازرود.. لترفعها بأجنحة النوارس نحو الأعالي.

ورأيت امرأة.. لها شعر أسود، وبعينين سوداوين، ثم رنّت ضحكاتها الفاتنة في أذنيّ.

  أن ترى مدينة قبل أن تراها، وتعرف امرأة قبل أن تلقاها، ثم تغمض عينيك مسترخياً على مقعد الطائرة، لتفتح أجفانك في المطار.. فتظن الحلم قد صار بين يديك:

ـ أهلاً بكم في الجزائر.

قالها شرطي المطار وهو يتأمل جواز سفري.

  كم شرطياً.. سيتفحصه، ليطابق وجهي مع ظلّه في الصورة؟!.

أحسست أني سأظل أحمله.. لأمد به يدي وأسترده، وكنّا نحمل في أيدينا أقنعةً لنستحضر بها أرواح أشخاصٍ ونتقمص أجسادها في أجسادنا.

  ما أن عبرت أول حاجز وفي يدي جواز سفري، ومن خلفي أفراد الفرقة المسرحية، حتى رأيت، ما كنت قد رأيت.

  كانت واقفة قرب المسار الذي سيأخذنا نحو حقائبنا، تلوّح بورقة مطبوعةٍ بين أصابعها، ترفعها فوق الرؤوس.. لنراها:

(المهرجان الوطني للمسرح الجزائري)

 وفي السطر الثاني:

(الوفد المسرحي السوري)

  تركتُ حقائبي فوق المسار الدوّار.. لتُكمل ما شاءت من دوائرها، مضيتُ نحو الصبية، أطابق صورتها مع ما تبقى من ملامحها في ذاك الحلم البرتقالي.

  وقبل أن تميز أحداً في الزحمة.. قادماً إليها من الوفد الذي كُلّفت باستقباله, ارتديت قناع الإله بعل.

خطوتان.. فحسب حتى صرت قبالتها.

  كفّتْ عن التلويح بورقتها، انسدلتْ بها يداها وهي تتأمل ذاك الوجه القادم إليها من شواطئ الفينيق.

  كأني أنشدتُ لها، أو.. لامرأة ذاك الحلم:

(خذيني يا عناة من يديَّ

اخطفيني من هذا الموتْ.

لأجلك..

شطرتُ اليمَّ.. نصفينِ

عبرت الملح

من شرقيَّ إلى غربكَ).

  بقيتْ تُداري دهشتها حتى أسدلتُ قناع بعل عن وجهي، سألتني:

ـ أين بقية الوفد؟.

ـ أنا الوفد كله!.

  ابتسمت:

ـ سافا.. ورئيس الوفد؟

ـ أنا رئيسه، وأنا أفراده، وكما أنتِ في انتظارنا، نحن أيضاً في انتظارك.

  لماذا لم أقل: أنا أيضاً في انتظاركِ..لا أدري؟!.

   لكنها تفادت أيّ تعليق وهي تنظر في جدول بأسمائنا حتى كادت تختبئ وراءه، ثم وضعتْ إصبعها قرب اسمٍ في الجدول:

ـ هذا اسمك.. صحيح؟

 كيف أمكنها أن تعرف؟!.

تحلق أعضاء الفرقة المسرحية حولي، قدمتها لهم:

ـ هاجر.. من المسرح الوطني الجزائري.

  اتسعتْ حدقتاها وهي تسلم على مجموعتنا المسرحية، وحين صعدنا إلى الحافلة جلست بجانبي لتسألني:

ـ كيف عرفت اسمي؟!

ـ رأيتك في حلم خاطف قبل مجيئي.

ـ وأنا رأيت حلماً هذا الصباح!.

ـ ماذا رأيتِ؟.

ـ بل.. ماذا رأيتُ؟!.

  كان عليّ أن أروي لها حلمي خلال طريقنا من المطار إلى مركز العاصمة، فلما انتهيت نهضتْ فجأة لتوزع علينا بطاقات التعريف، علقناها حول رقابنا، بدأت ملامح الجزائر العاصمة تتبدى لي من نافذة الحافلة.. مدينة بيضاء كحّلت نوافذها بزرقة البحر من حولها.. الجبال الراسيات الشامخات.

أشارت هاجر بإصبعها:

ـ هناك على القمة.. نصب الشهيد.

دخلنا بلد المليون شهيد.. آمنين.

  وحين نزلنا من الحافلة لم يتسنّ لي أن أسأل هاجر عن حلمها، أو يُتَاح لها وقت.. لترويه.

  دخلنا صالة المسرح.. كان الحفل الافتتاحي قد بدأ قبل ربع ساعة، وجدنا أماكننا التي حجزتها لنا، أجلستنا ثم جلست معنا في آخر كرسي، بيني وبينها خمسة عشر قناعاً يسترخي بين أحضاننا، رحبت بنا مذيعة الحفل، رفعنا أقنعتنا ملوحين بها وسط التصفيق.

 

ما قبل حلم هاجر

  جواز سفري بين يدي، أو.. في جيب قميصي.

  يوقفنا حاجز أمني فأنسله لأعطيه/ يبتسم الشرطي، أو رجل الأمن:

ـ إنت من سوريا.. أهلاً وسهلاً.

  يقولها من قلبه، وأيضاً.. ليتأكد من لهجتي بغريزته الأمنية، أُجيبه بلهجة شامية مَحْضة:

ـ يا أهلين ويا سهلين.

  مررنا بذات العاصفة الإرهابية قبل عقدين من الزمان، وكنا نجزع من نسيان بطاقة هويتنا في البيت إذا كنا خارجه، حتى في وضح النهار.

  قبل أسبوعين من مجيئنا إلى الجزائر، استهدفت سيارة مفخخة دار الحكومة.. في عز احتفال المدينة بكونها عاصمة للثقافة العربية.

  الثقافة العربية هي أيضاً.. في مواجهة ثقافة العنف والتعصب والارتداد الجاهلي نحو الإثنية والقبلية والطائفية.

مدّتْ صحفية جزائرية يدها نحوي:

ـ فلانة بنت فلان.. أمازيغية.

فرمقها عبد الله.. سائق حافلتنا الجزائري:

ـ شكون.. قولي جزائرية، والتالي.. أمازيغ!.

قلت لها:

ـ الجزائر بالنسبة لنا في بر الشام هي عبد القادر الجزائري، والمليون شهيد.. أمازيغي وعربي وطوارقي و قبايلي.. الذين تابعوا مسيرته.

  وحين جلسنا قبل موعد العرض في الكافتيريا المجاورة للمسرح، تابعت مداعباً إياها:

ـ جمالك يمني، شعرك جدائل سبأ، عيناك حضرموتيتان.

ـ كيف .. كيف؟.

رشفتُ من كأس الشاي بالنعناع:

ـ لكل لغة عائلة تنتسب إليها، ثمة.. العائلة السامية، السلافية، اللاتينية، الفارسية، الصينية.. وهكذا، إلى أي عائلة تنتمون؟!.

ـ لا أعرف.. لست متخصصة، لكن لغة الأمازيغ  خاصة جداً لا تشبه سوى ذاتها.

   شرحتُ لها عن اللغة الأم، من رحمها تولد المفردات الأولى.. تسميات البشر لأعضائهم ولمظاهر الطبيعة ومحاكاتهم للأصوات والألوان والظواهر.. أردفتُ:

ـ الإله شمش البابلي هو ذاته.. الشمس في العربية.

ثم تابعت وأنا أقف لألحق بالعرض المسرحي الفلسطيني:

ـ أنتِ جزائرية بالمواطنة، أمازيغية الهوى، حضرموتية لجهة اللغة الأم.

عند مدخل المسرح التقتني هاجر:

ـ تأخرت!.

في رنّة صوتها.. عتاب رقيق.

كأنما يبدأ الحب عند النساء… بالعتب!.

أحسستُ وأنا أعبر معها الممر إلى مقاعدنا.. أني ممتلئ بقصيدة ، وأريد أن أخطف هاجر بها إلى غابة قرب البحر، لأنشدها.. لها  وحدها.. دون النساء جميعهن.

 النساء شعر، ونحن الرجال.. قصائدهن.

   كلما خرجنا من  عرض مسرحي ، وجدنا الجزائر العاصمة غارقة في النوم، الشوارع شبه خالية، ينقطع ضجيج اليوم كله عند الثامنة مساء، المحلات تغلق ويلوذ المارة ببيوتهم،لتبدأ الحواجز الأمنية المتنقلة بالظهور.

  ماذا أفعل.. يبدأ ليلي عادة بعد منتصف الليل،هاجر ستذهب إلى بيتها،، وسأكون وحيداً وسط من حولي في مطعم الفندق على طاولات العشاء الأخير.

لكل مدينة ليلها.. حتى لو كانت تلهث بالحواجز وتكح.

مدينة بلا ليل.. كامرأة بلا رجل ينتظر أن تفك ضفائرها السود فوق مخدة نهاره.

  حسناً.. في جيبي جواز سفري، أنسرب من الفندق وحدي، أتجاوز حاجزه الأمني، أقف طويلاً عند مدخله لأوقف سيارة (طاكسي) كما يلفظها الجزائريون، يسألني السائق:

ـ كيف نهبط؟!.

أسترخي في المقعد الخلفي:

ـ خذني إلى ليل العاصمة.

نهاري كله.. هاجر، حتى أُكابد في الليل وحدتي.

لم ترو لي حلمها .. بعد.

  وأنا لا أكاد أنام ساعتين ما بين ليلي ونهارها حتى تكون في بهو الفندق.. بكحلٍ جديد تحت رموشها وبظل أزرق يوماً ، ورديٍّ، أو.. أخضر فوق الجفنين.

تكتحل المرأة لنفسها تارةً، أو لأحد يعنيها وتعنيه.

  نذهب جماعة نحو الفطور، يطالبني أعضاء الفرقة بالخروج من هذا الروتين اليومي، تسّوقنا تمراً ونبيذاً بما فيه الكفاية عرفنا الأسواق كلها.

 التفتُّ نحو عبد الله سائق حافلتنا، أهمس له:

ـ لديكم شاطئ رملي تلتقي فيه الغابات بالبحر؟.

ـ وي.

ـ خذنا إليه.

  حين عانقت أقدامنا الرمل، تخفّفنا جميعاً من أوزاننا، ومن ثيابنا، ركضنا، انسربنا في البحر أسماكاً ودلافين.

  حاجز ما .. يمنع هاجر من ارتداء ثياب البحر ومشاركتنا لهونا وسباحتنا فيه.. تظل على الشاطئ ترمقنا بعينين حزينتين.

ما أكثر الحواجز.. في كل بلادنا!.

  أعود نحوها مغتسلاً بحنين أبدي، أمد يدي لأخطفها من حواجزها، نمشي..  فيمشي ظلنا أمامنا، ونمشي..لنترك ما نتوهم أن آثار أقدامنا لن يمحوها مدُّ الأمواج بعد حين.

  ما بيننا..خفْق أجنحة النوارس، هَمْهمة الموج، يندسُّ هواء الغابات بيننا، كما لو أنه يلوذ بنا، كما لو أننا نلوذ به.

  لا ننبس بأية كلمة، كأننا لا نريد لهذه الموسيقا أن تلتاث بالحروف.

الصمت أيضاً.. حرف، نسيت الأبجديات أن تدوّنه.

  نجد كومة حطب ما بين الغابة وشاطئها، جثونا… قرّبتُ نار الولاعة الشحيح، بدأنا.. أنا وهاجر ننفخ على شبه لسان من لهب، نفخنا حتى بدأت طقطقة تسري في الخشب، ثم انداحت نارنا.. فيه، انجذب كل أفراد فرقتنا من مائهم نحوها.. كأنهم فراشات الليل، فلما تجمعوا حولها تسامت فوق رؤوسهم أجمعين، أخطف أصابع هاجر من أصابعها، أبدأ معها الدوران، يكمل بقيّتنا أقواس الدائرة، نرقص حول النار مثل أقوام الأقدمين.

  تذكرت أقنعتنا المسرحية المرصوصة في المقعد الأخير للحافلة، أذهب أنا والسائق لنعود بها، نرتديها أو.. ترتدينا ، قناع عناة.. لها، قناع بعل.. لي، نغني أغنية شامية، تغني هاجر لنا.. ونرد وراءها بلهجة جزائرية غير متقنة، نلهث بضحكاتنا،نتعرق مثل شقائق النعمان حين يلثمها الصباح من شفتيها،نكاد نطير كلما تسامت النار نحو أثيرها، تتطاير خصلات شعرها، يسبح نهداها في هواء رئتينا، يتلوّى خصرها، تتمايل أقواس أنوثتها.

أخيراً.. جلستْ النار في رمادها، جلسنا.

لم نكد نسترخي حتى صاح بنا صاحب الحطب/ أو حطابه:

ـ شكون.. يا دين الرب؟!.

ـ ولا يهمك، سنعوضك بغابات من الحطب.

أدسّ له الدنانير في جيبه:

ـ لديك شاي بالنعناع للعطاش السوريين.. اسقِ العطاش تكرُّما.

   يأتينا بإبريق يدسه في الجمر، وبكاسات، وبربطة نعناع طازجة.

   نرشف الشاي.. يشدو الحطاب بأغنية عن صياد (حوّات) أتعبه البحر، ثم ألقاه في أبعد غابة، وحين استفاق.. وجد فأساً عتيقة بجانبه، ليس لها أحد.. سواه.

تتكئ هاجر برأسها على كتفي خلال غنائه، أسألها هامساً:

ـ بماذا حلمت؟!.

فلا تجيب!!

 

القفز فوق الحواجز

   كلما استفقت.. أفتح ستائر غرفتي في الطابق التاسع من فندق الأوراسي، أفتح باب الشرفة لأستقبل المدينة وجبالها وبحرها..

   أسحب مقعداً إلى الشرفة، يأتيني النادل بفنجان قهوتي الصباحي، فأتقاسم معه علبة بسكويت سوري مغطس بالشوكولا في كل مرة.

   هذه المرة.. لم أكد أضع المقعد حتى رن جرس الباب، عبرت الغرفة وفي ظني أن النادل قد فاجأني  بالقهوة قبل أن أطلبها.. فتحت الباب:

ـ صباح الخير.

وقبل أن أجيب.. اندفعتْ رائحة الخُزامى إلى غرفتي، عَبَرَ الباب نيزك فمسني ضوءه، بللتْ قدميّ الجداول.

  مددت رأسي خارج الغرفة استطلع الممر كله حتى المصاعد، أقفلت الباب ورائي، استندت إليه..رأيت هاجر في منتصف غرفتي.. حائرة بعد اندفاعها.. لا تعرف أين تقف، لا تدري أين تستقر، سمعت قلبها.. يتكتك بدأ وجهها يتعرق بحبيبات من ماء شفيف.

ـ يا صباح الفل والياسمين.

  كيف أمكنها أن تعبر الحواجز كلّها.. لتصعد إليّ.

  طيلة خمسة عشر يوماً الماضيات، كانت تنتظرنا في بهو الفندق، أو.. في صالة الإفطار، وحين دعتها زميلاتنا في الفرقة إلى غرفتهن.. اعتذرت:

ـ ليس مسموحاً لنا الصعود نحو الغرف.

   طلبتُ فنجانَي قهوة، حملتُ مقعداً آخر إلى الشرفة، تبعتني.. لم تجلس، بقيت تتأمل المشهد البانورامي لمدينتها وكأنها تراه.. لأول مرة.

   دُق جرس الغرفة، أسدلت ستائر الشرفة ورائي، فتحت الباب للنادل، قلت له:

ـ نفذ كلُّ مخزوني الإستراتيجي من البسكويت.

  قال ضاحكاً وهو يزلق الصينية على الطاولة ويسحب من تحتها شيئاً:

ـ لا باس .. لا باس عليك.

  ناولني صندوقاً من التمر الجزائري:

ـ أعرف أنك ستسافر غداً.

  شكرته.. لولا أنها هنا, لما شربت  قهوتي إلا معه.

  وحين غادرني، أعدت فتح الستائر، مضيت بالقهوة والماء والتمر نحو الشرفة.

ناولتها حبة تمر لأراها كيف ستأخذها بإصبعين وبين شفتين، تأملتها وهي ترشف الماء من كأسها حتى آخره.. كأنها عبرتْ صحراءً إليّ:

ـ صحة على قلبك.

  رشفتُ من قهوتي، نظرتُ في عينيها طويلاً فهربتا نحو البحر الممتد أمامنا:

– هاجر بماذا حلمت؟.

  بدل أن ترد.. سألتني:

ـ كيف نحكي عن حلم قبل انتهاء منامه؟!.

ثم سألتني:

ـ لماذا جئت.. لماذا تغادرني؟.

  التقطت أصابعها بين يدي، ربما.. لأُوقِفَ اندياح الأسئلة، ربما .. كذريعة لألمس رهافتها، وأُطِبْطِبَ على قلقها الداخلي.. انخطف نورس بيننا، تابعناه.. فارداً جناحيه، مكملاً دورة طيرانه نحو البحر.. والسماء مابين صحو وغيم ينعقد فوق الأفق.. لا تكاد تعبره الشمس حتى تختفي.

  لم نكد نكمل قهوتنا حتى لامس الغيم جبهة الجبال، وحين مسّته الغابات.. انهمر.

 

ما بعد حلم هاجر:

  عادت بنا حقائبنا نحو.. المطار.

   رافقتنا هاجر كما لو أنها تستقبلنا من جديد، وزّعتْ على أفراد الفرقة عناوينها.. وتجاهلتني.

   جلستُ أرشف شاياً بالنعناع في الكافتريا وأنا أتأملها .. تنتقل كفراشة بيننا، سوى أنها لم تدن مني، قالت لجميعنا من غير أن تخصّني بنظرة:

ـ أكره لحظات الوداع، أسمعوني كل النكات الحمصية.. دفعة واحدة.

  توالت النكات من حولها، رنت ضحكاتها الفاتنة في أذنيّ.

وقبل أن يخطفني آخر حاجز:

ـ هاجر.. بماذا حلمت؟!

  كأنها همست بشيء لم أسمعه وسط هذا الضجيج.

  ابتلعتني إجراءات المغادرة قبل أن ألتفت نحوها لآخر مرة.. لم ترفع يداً، لم تُلوّح لي.

عادةً.. لا يفهم الرجل أحلام المرأة حتى يُغادرها، أو.. تُغادره!!.

الجزائر- دمشق2007  

فنجان قهوة

 

  ليست المصادفة وحدها.. ما يجمعنا حول طاولةٍ، ذات مساء،

 ومن غير تخطيط مسبق.

 ثمة.. التخاطر، أن تشتاق لأحد، أو.. هي الألفة، روتين العادة،

 ربما.. الحاجة للتواصل مع آخرٍ.. يشبهنا قليلاً أو كثيراً،

وقد يكون نقيضنا.

  التقينا خمسة أصدقاء.. امرأتان وثلاثة رجال، حول طاولة في بيت دمشقي عتيق وقد صار مقهانا، حتى أوهمنا النادل أن الكرسي السادس حول طاولتنا.. شاغر،

 لم يضع صحناً، لم يضع كأساً، حتى أنه خطف منديل القماش السادس من فوق المفرش ومضى به.

 قلت لنفسي:” يعد النادل الرؤوس والأجساد التي يراها”!.

حاولت أن أشرح له: “ثمة شخص سادس على الطاولة معنا”.

 وحين جاء يسألنا: ماذا تشربون؟!.

 اقترحت أن نبدأ ليلنا بالقهوة، عدّ النادل الرؤوس التي رآها:

  – خمسة قهوة .. سادة؟.

 فنبهته:

  ـ ستة فناجين.. لو سمحت.

 

 أعرف أنها تبدأ صباحها المتأخر جداً..بالقهوة،

 بركوة قهوة من ذوات الستة فناجين، وعصرها.. أيضاً، وأول مسائها،

 وبها.. تنهي ليلها الطويل,

 تستقبل بها.. أول صباحاتها.

 

 دار النادل حول الطاولة ثم وضع فنجانين أمامي مباشرة.

  كنت منخرطاً في حوار.. كان قد بدأ، وحين انتبهت.. لم يرني أحد أرفع فنجاني مرة إلى شفتيّ، وفنجانها .. مرة، أرشف عني.. مرة، لأرشف.. عنها،

 ثم تركت في كل فنجان رشفة أخيرة، لأدخن لفافة تبغ أخيرة.. عني، ولفافة.. عنها.

 

لو سألني أحد من أصدقائي الخمس: “لمن هذا الفنجان السادس الذي طلبته؟”

فلن أقول أبدا أنه.. لي، سأدير الفنجان قبالة عينيه، ليرى آثار أحمر شفاهها على حوافه الخزفية.

  لماذا لا يضيف خبراء الأمن الجنائي على أدلة البصمات.. آثار شفاههن؟!.

 تترك شفاههن ـ حتى.. من غير أصبغة ـ علامات من اللوعة على أي جزء منا.. تلمسه، أو.. يلامسها.

  اندغمت في مسامرة أصدقائي.. لأجلها، وفي النقاش.. لتسمع وجهة نظري،

 ابتكرت جملاً ساخرة.. لتضحك، وتعليقات.. لأورطها بالتعليق على ما قلت.

 

 منذ رأيتها لأول مرة.. أحسست أني أعرفها ،

أو.. أننا التقينا قبل دهر، ثم فرقتنا الدروب، وها نحن نلتقي بعد غياب مرير.

 

 رفعت فنجان قهوتنا بين يدي، تأملت بصمة شفتها السفلى فوق بياض استدارته، انسربت رائحة أنفاسها ممزوجة بأنفاس قهوتها إلى رئتي،ومن حيث كانت ترشفها.. رشفت بشفتين مرتعشتين.

 قلت لها:

  ـ في لقائنا الأول، دسست لي أسئلة مثل قشور الموز تحت قدمي!.

   ضحكت.. وبعبارة هي الأكثر دقة: ضحكت عيناها.

 

 لها عينان ناعستان على الدوام، فإذا استفاقت لتوها بعد فنجان القهوة،

أو.. رمقها أحد مطولاً ليتأمل هذا اللغز، اتسعت حدقتها.. كدهشة الطفل قبل أن يضحك.

  في لقائنا الثاني، سألتني عيناها الناعستان:

 ـ من أنتَ؟!

كيف لي أن أعرف؟!

كنت على وشك سؤالها هي:

 ـ من.. أنا؟.

  لو أنها بصوتها العذب تبوح بكينونتي.. كما تراها وتحس.

 

 ما تزال ترصدني  بعين أنوثتها، ولم تزل تختبر ما وراء كلماتي.. وتفتش ما بين السطور، كأنها تحمي أنوثتها من مغامرة جديدة.

 تصمت أحياناً.. لتسمعني، وتصمت.. لتسمع صدى صوتي في داخلها،

 فأصمت بدوري.. لأسمعها كما يليق برجلٍ لا يطيق انتظاره.

 

 بعد صمت جليل، التفت نحوها. تاركاً أصدقائي في أحاديثهم:

 ـ تريدين فنجان قهوة آخر؟.

 أومأت.. فحسب.

 لماذا تضن علي بصوتها؟!.

صوتها.. أيضاً لغز.

  لا أدري حتى الآن.. لماذا يشبه صوتها نبيذا,

 وعليّ النزول إلى أقبية الكنائس, حين ترتعش أجراسها، لأميزه في العتمة؟!

 فلما أومأت.. سألتها:

 ـ لو أن الرجل رحيق قهوتك.. ماذا تفعلين؟!

 ـ أرشفه.. حتى الثمالة.

 

لتوي.. اقترحت على أصدقائي ستة فناجين جديدة، جاءنا النادل بما اقترحت،

 لكنه تجاهلها للمرة الثانية، ساحباً من أمامي فنجاني القهوة الفارغين،

 ليضع فنجانين جديدين.. أحدهما يطفح من الترقب، والثاني مترع باللهفة.

  ابتسمت:

 ـ أنتم الرجال أنانيون، تشربون لحظتكم، وتشفطون أيضاً.. لحظاتنا.

 – ليس ذنبي يا سيدتي، إنه النادل، مصر على تجاهلك.

 ـ ولماذا لا تكون متواطئاً معه، لتحرمني من قهوتي،

 لتشربها بالنيابة عني، وتتركني هكذا.. ناعسة وعطشى؟!.

 ـ أنا؟!

 ـ ألا تريدني أن أصحو.. لأراك جيداً، ثم أصحو..لأتأكد أني بدأت أعرفك،

 وأن يسري الكافيين في عروقي.. لأرتب أبجديات أنوثتي قبل أن أقرأك؟!.

  ملت نحوها.. هامساً:

    ـ هل قال لك أحد.. بأني من عشاق النساء الغارقات في نومهن؟!.

   بلعت ريقها كأنما لتحرف سؤالي عن مساره، قالت:

    ـ قرأت شيئاً من هذا في رواية.. ماذا كان اسمها؟ نسيت!!.

  دعينا من الروايات قليلاً، أنتن أيضاً مصابات بغريزة التلصص على الرجال النائمين.

  صمتت.. وكأنها حيال سؤال فلسفي.

  لا تصمت هكذا.. إلا لتحضر سؤالاً آخر من أسئلتها الفاتنة الغامضة!.

 حتى أتفادى سؤالها الوشيك.. همست:

  ـ أعترف بأني بعد استرخاء من أحب، على سريري، أو.. سريرها،

 أنسل من غفوتها متربعاً كبوذي, لأتلصص على مفاتنها بعد العاصفة.

  فلما حملت فنجانها لترشفه، أو .. لأرشفه، لكزتني إحدى صديقاتنا على الطاولة:

   ـ كأنك تحكي مع أحد.. غيرنا؟!

   ـ أنا معكم.. تماماً.

  ثم بغريزتها الأنثوية:

  ـ لمن إذاً .. هذا الفنجان الثاني على التوالي، أمامك؟!

  ـ هذا هو الفنجان الثاني عشر، أنا لا أحب الأرقام المفردة!.

 ضحكت:

  ـ ألست من قلت: أنوثتك تعادل.. أنوثة امرأتين؟!

  ـ كأني قلت هذا.. ذات يوم.

 صححت لي هامسة في أذني:

  ـ ذات ليلة…

 أخذتني بالضربة الأنثوية القاضية.

 عدت بأصابعها رؤوسنا حول الطاولة, حتى ظننت أنها تخطئ في العد.. مثل النادل تماماً:

ـ واحد ، اثنان، ثلاثة، أربعة وأنا.. اثنتان،صرنا ستة،

 ألست تحب الأرقام المزدوجة؟!

 لأتفاداها.. غنيت:

          “كنا سته ع النبعة، إجا المحبوب صرنا سبعه”

 انخرط الجميع في الغناء، ومن على المقعد السادس حول طاولتنا.. لمحتها تشاركنا الغناء، تسلل صوتها عذباً غلً في مياه الروح.. فاضطربت له مياهي جميعها، ثم انتاب جسدي ما يشبه انخطاف رجل في البحر مطلع شهر كانون.

 

كلما أردت أن أصحو من حب، أو.. أنفلت منه، كلما داهمني حب.. أقف عارياً سوى من جسدي تحت “الدوش” أفتح صنبور المياه الباردة حتى منتهاه.. مرتعشاً مثل أشجار الصبار حين يفاجئها المطر.

كيف للمطر أن يكون ذكراً, بعلاً, والمياه .. أنوثته؟!.

حين خرجنا إلى ليل دمشق، وتفرقنا خمسة..الى اتجاهات خمسة, لم ينتبه أحد,

لم ينتبه النادل, لم ينتبه الساهرون.. أني مضيت نحو الكرسي السادس لأمسك مسنده الخشبي بكفين مرتعشتين:

ـ لو سمحت.. سيدتي.

سحبته إلى الخلف بينما هي تقف، ناولتها الشال الذي قالت لي عنه:

 ـ هذا صديقي في كل خريف.

 

ساعدت شالها الأسود, ليلها المنسوج من رحيق القهوة، حتى استقر حول كتفيها, وانسدل حتى آخر ظهرها, ملتفاً من لوعته.. حولها، التقطت أصابع يدها أطرافه السكرى.. حيث مفرق النهدين.

 خرجنا معاً.. تاركين فناجين قهوتنا مبعثرة على الطاولة، مضينا في الأزقة المبلطة بالحجر، نعبرها.. لتعبرنا، حتى تاهت بنا الحارات وتهنا، ثم.. لم أعرف حتى الفجر باباً يأخذني إلى فنجان قهوتها الصباحي.

 تمهلت عند أول كل حارة، وفي منتصفها، وعند منتهاها، حارت بي التقاطعات وحيرتني.

 لم تكن نائمة حتى الآن.. ليست نائمة بالتأكيد.

 رصدت كل الشبابيك ريثما تطل من شباكها العتيق.. بعينيها الناعستين،

 وحتى تمطرني بصوتها العذب:

 ـ صباح الخير.

  كيف لي أن أرد على بحة صوتها.. بصوت مرتبك، فاجأه غبش الصباح بكل هذا الحنين؟!.

تركت ليمامة فوق سطحها أن ترد, ارتعش جناحاها فانخطفت بيننا في فضاء الحارة.

  ـ هل شربت قهوتك الصباحية؟!

سألتني لتنتشلني من بغتة, تصيب الرجل.. كما لا يفعل رمح أو سيف.

كأنها تعرف.. كم أنا بحاجة لذريعة كمثل سؤالها,

 لأصعد منها .. إلي، لأصعد مني إليها!!.

أليست القهوة حرف علة، حتى يرشفها المعتل بحروف الشغف؟!.

دمشق22\9\2007

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لم أكن يوما مضطرًا للمراءاة لأحد ..

ولا أذكر انني توجهت يوما الى لقاء وزير او أمير او حتى رئيس .. لأطلب منه منفعة شخصية .. بل على العكس هم من كانوا يسعون الي .. انا العبد الفقير لله وللكلمة، بما امتلك من صناعة فوتوغرافية للمعلومة البصرية الوثائقية ..
او من خلال وفود رسمية بمهام محددة في الشأن العام ..
لذلك عندما أهجو كائنا من كان او اقرظه .. ليس لسبب شخصي او لأنني أكرهه فلم أكن يوما سخيفا ولا سفيهًا ..
ما كان يحفزني لذم أحدكم او مديحه أنني منصف في قلمي وشاهدي على ذلك ضمائركم ..
نجم الدين السمان .. صديق عزيز ، وكاتب مهم ويمتلك حساً نادرًا بالسخرية الادبية ..وقلمي احد محرري صفحته ( شرفات ) مع نخبة من ألمع الأقلام التي قد أكون انا أقلهم شأنًا، وقدمت له بكونه رئيسا للتحرير حزمة من اكثر الأبحاث رصانة وعلمية دونتها في رحلة عمري .. لم ينشر منها بحثًا واحدًا طوال سنتين ..
ولم أسأله يوما عن سبب تلكؤهِ او عدم نشره ما كتبت .. ..
مع ذلك اقول ان نجم الدين السمان بما يحرره ويختاره لوحده من ابداعات السوريين يعادل برأي اهم من أي وزارة عربية للثقافة، في مشروع طويل الأمد لايزال في بداياته بإمكانات فردية وظروف انسانية مخجلة بتواضعها ..
ويعادل المشروع الاعلامي الأمريكي الرائد لدى إصدار المختار “ريدرز دايجست” عام 1922 الذي استمر قرابة السبعين عاما في نقل المعرفة الانكليزية الامريكية في آخر منشوراتها وإصداراتها الى العربية بصور أعمق في تحديد الابداع الحقيقي للكلمة والصورة واللوحة والكاريكاتور .
وأشدد مرة أخرى ان كل ذلك لوحده .. ودون أي ممول .. ولم يتوقف يوما عن العمل والإنتاج …الا ما ندر ..
انه معمل ثقافي متكامل …أقدره ويقدره غيري من حجم المراسلات وطلبات الانضمام المهولة الى مجموعة شرفات سورية التي تردني يوميًا بل كل ساعة واوافق على تمريريها، وهي مسؤوليتي الحالية المكلف بها..
لقد أضاع أغبياء المعارضة أديبا نجماً .. واعتمدوا مرتزقة بالأجرة فاقدي الموهبة لم ينجح أحدهم الا في تكرار ذهنية الفشل … كما فقده اجرام حكام دمشق .. الزائلون..!!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أربعرسائل في الهَوَى والهِيَام

قصة: نجم الدين سمّان

  • الصورة :

لم يكن متاحاً لي سوى أن أخطف ورقة من دفاتري المدرسية، لأكتب لابنة جيراننا ميسون.. رسالة حب لاهبة، حتى شاعت دفاتر الرسائل الملونة بالقلوب الحمراء وطيور الحب والأزهار، فأناول الرسالة لأختي الصغيرة منبهاً من انكشاف حبٍ ممزوج بأحلام المراهقة الأولى.يقال بأن الرجل يراهق مرتين؛ أخطرهما: جهلة الأربعين.فهل تراهق المرأة مثل الرجل.. مرتين؟!من الصعب.. التقاط كيف تستعيد امرأة مراهقتها الأولى وهي تمر بربيع أنوثتها في الثلاثين، أو حين تتعتق في الأربعين كنبيذ في خوابي الأقبية، إلا إذا كانت لم تعش مراهقتها الأولى ككل الفتيات والصبايا، عندها.. تظهر عليها الأعراض الجانبية للحب بوضوح لا التباس فيه.

أعادت ابنة الجيران رسالتي، وقلدت أختي نبرتها:

ـ أنا الأولى على صفي، ما بدي أرسب.. كُرْمَى لسواد عينيه!.

لم أدر وقتها.. كيف يقترن الحب بالرسوب في المدرسة، فكتبت رسالتي الأخيرة اليائسة، وفيها سؤال سقراطي:

ـ أنت شاطرة في الدراسة، والحب أيضاً.. امتحان، فلماذا تخافين امتحان الحب معي وحتى الرسوب فيه؟!

بعد ست سنوات فاجأتني ميسون بأنها تعلقت بصديقي نوَّار عبر مكالمات هاتفية متواصلة حتى مطلع الفجر.

الهاتف أيضاً.. رسالةٌ بين اثنين، وستتغير أشكال الرسائل ولا تتغير مضامينها بتوالي الأزمنة، خصوصاً بين اثنين فاجأهما الحب، كما لو أنهما شجرتان في شمس آذار بعد عاصفة من البرق والرعد والمطر.

أخبرني نوار أن ميسون لم تعد تتصل، لم تعد ترد على رناته الثلاث وأنها تتفاداه وهي في طريقها إلى المدرسة، كأنما تتفادى غواية صوته العاشق.

الصوت أيضاً.. أحد رسائل الهوى والهيام.

ثم فاجأتنا أنا ونوار بزواجها المباغت من رجل يكبرها بعشرين عاماً، حتى سمعنا بأنها عادت إلى بيت أهلها حاملةً بقجة ملابسها، فرأينا زوجها صاعداً الأدراج إليها في مفاوضات ماراتونية؛ وهابطاً في كل مرة؛ كما لو أنه صخرة تتدحرج يأساً وتعاسة حتى يكاد الحب يفتتها، وقد اشتبهنا ليلاً برجل يحوم حول بيتها فإذا هو زوجها متلبساً بغيرته، ذهبنا به أنا ونوار إلى المقهى؛ لم يدر أننا أيضاً.. أحببناها مثله، فأخذنا نواسيه كما لو أننا نواسي أنفسنا، وهو يرشف الشاي ذاهلاً يود لو يعرف سبباً لطلبها الطلاق منه، ولم يعرف أهلها لماذا؟!

بعدها بسنوات اعترفت ميسون لي:

ـ لم أنسجم معه.

ـ جسدياً؟!

ـ وعاطفياً.. كأني تزوجت ما يشبه أباً.

ـ لكنه أحبك بجنون.

تنهدت: أعرف، لهذا حسمت الأمر بسرعة لأوقف آلامه، وحين خطب غيري اتصلت به وتمنيت له حياة سعيدة.

ـ كما فعلت مع نوار، وكما ستفعلين معي حين أتزوج!.

ضحكت طويلاً.. فعلقت:

أحببناك نحن الثلاثة، فهل هذا مصير العاشق الرابع أيضاً؟!

انقطعت ضحكتها:

ـ لن أحب ثانية، بتُّ أخاف من الخسارات، سأتزوج من أي رجل يمضي معي ما تبقى له من عمر، هكذا.. بلا مشاعر، بلا حب، وكأني أوقع عقد شراكة معه ضد الوحدة والشيخوخة وبغتة الموت.

سألتها:

ـ ما أقسى خسارات المرأة؟

ـ أن تخسر رجلاً.. أحبته، أو.. رجلاً أحبها حتى لو لم تحبه..

صمتت قليلاً ثم تابعت:

ـ الأقسى.. أن تخسر عمر أنوثتها وهي تنتظر الحب.

تأملتها وقد أنضج الحزن أنوثتها فمنح عينيها سحراً لا يضاهى.

سألتني:

ـ أمازلت تحتفظ بتلك الرسالة؟!.

ـ لن أحتفظ بها بعد الآن، سأرسلها لك.. كما لو أنها لأول مرة.

ـ مع أختك؟!

ـ بالبريد العاجل جداً.

ضحكت:

ـ كعادتك حين انخرطت في هواية المراسلة.

ـ لم أقل لأحد.. كيف عرفت؟.

ـ سلمني ساعي البريد مرةً.. رسالة، فرأيت رزمة رسائل تحتها، قال إنها لك، ثم قال: الله يشفيه جارك، سيقضي عمره وهو يلحس قفا الطوابع ليلصقها على علاك فاضي.. ماله طعمة.

ضحكنا.. علقت:

ـ هذا أول ساعي بريد في العالم.. يكره مهنته.

قالت:

– ويعيد الرسائل إلى أصحابها!.

هكذا.. أيضاً، وصلتني رسالتي إلى ميسون من جديد، عائدة إلي، وقد كتبت ميسون على آخر الهامش الأبيض في أسفل ورقة دفتر مدرسي مطوية بعناية:

ـ أعيد رسالة حبك لي، لأحتفظ طوال عمري.. بصداقتك.

المحبة لك دائماً.. ميسون!!.

رسالة إلى فاطمة:

كم أفتقد اليوم تلك النكهة الحلوة لصمغ الطوابع على طرف لساني، ولهفة انتظاري لرسالةٍ من أقصى المغرب، أو من اليمن حيث أقصى الجنوب، من مصر أو تونس أو الإمارات، وأن أحبَّ فتاة بالمراسلة.. فقط، ثم تنقطع رسائلها عني لتعود رسائلي وقد كتب عليها ساعي بريد مغربي بقلم أحمر: «العنوان خطأ» هكذا.. بألف ممدودة، زائدة، لا عمل لها!.

ثم لا أدري لماذا حين سافرت إلى المغرب لحضور مهرجان الشباب العربي، كيف قصصت المثلث الذي كتبت عليه عنوانها فدسسته مع صورتها الفوتوغرافية 33 سم في حقيبتي، وحين ذهب وفدنا إلى أسواق الرباط أخذت سيارة تاكسي، أعطيت السائق المثلث الورقي لرسالتها، أوقفني عند درج صاعد بالبيوت الصغيرة البيضاء إلى زرقة السماء:

هذي هي الزنقة.. البيوت لها أرقام.

دققت جرس الباب، فتح لي طفل محدقاً بي في دهشة طفولية، ثم ظهرت من ورائه أمه، قلت وأنا أنظر إلى مثلث العنوان بين أصابعي:

ـ مرحباً، أنا من سوريا، أبحث عن فاطمة…

ولم أكمل الكنية، ابتسمت الأم التي أمامي، لوهلةٍ.. لم أدرك أنها الفتاة ذاتها التي راسلتها وحفظت تقاطيع وجهها من الصورة، وهي نفسها من تقف أمامي وطفلها يمسك بتلابيب جلبابها المغربي:

ـ سبحان من جمع الشامي بالمغربي.. تفضل.

تحوَّل اللقاء كله إلى مفارقات ضاحكة حتى دمعت أعيننا، والطفل بيننا يضحك بالعدوى منقلاً نظراته بين أمه وبيني.

تأملت فاطمة صورتها.. صورة ما كانت عليه في مراهقتها الأولى وقد أحبت بالمراسلة شاباً من أقصى الشمال السوري، وها هو ذا أمامها بشاربين وذقن حليقة، نهضت إلى خزانة في الزاوية، أخرجت منها صورة ما كنت عليه وقد وصلت إليها متأخراً بعد اثني عشرة عاماً بالتمام والكمال.. قلت:

ـ كتب ساعي بريدكم أن العنوان خطأ، لم أعدت لي رسائلي؟!

ـ خطبني يوسف، لم أعد فاطمة التي في الرسائل، لهذا قلت لساعي البريد إن العنوان خطأ.. فأعادها لك، احتفظت برسالة واحدة منك وبصورتك.. إيه.. أيام!.

دق جرس الباب بإصرار وتدفقت بنتان وصبي عائدين من المدرسة، احتضنتهم فاطمة بلهفة أمومتها وقد فاجأهم وجود شاب في بيتهم، ثم فاجأهم أني سوري، فأمطروني بأسئلتهم الطفولية المتوالية، حكيت لهم عن التجريدة المغربية التي قاتلت معنا في حرب تشرين، بينما كانت فاطمة تعد لهم الطعام، أصرت:

ـ ستبقى معنا على الغداء.

حاولت أن أعتذر.. ابتسمت:

ـ يوسف يعرف حكاية المراسلة بيننا، سيكون مسروراً باستضافتك.

لكني اعتذرت لارتباطي بفعاليات المهرجان، طمأنتها أني سأعود قبل سفري.. ولم أعد، كما لو أن أجمل الرسائل هي التي لا تكتمل حكايتها.

رسالة إلى وعد:

أصبت بالإحباط حين ردت ميسون رسالتي الأولى إليها، حتى رأت ابنة جيراننا وعد رواية في يدي، فطلبت مني بنبرة فاتنة وبريئة أن أعيدها الرواية بعد أن أقرأها، فلم أقرأها؛ خفق قلبي وأنا أستعيد جملتها ورنين صوتها العذب وانخطاف زرقة عينيها تحت رموشها الشقراء، هكذا في مراهقتنا.. نقع في الحب من أول جملة، من أول حرف في الرسالة متدحرجين من سطورها الأولى وحتى نهاياتها المفتوحة على كل احتمال.

أمسكت قلم الكوبيا الأحمر وصرت أختار من الرواية كلماتٍ بعينها، مؤشراً تحتها بخطين لا يلتقيان، ناسجاً منها رسالة حب، ثم خشيت ألا تسعفها غريزة استطلاعها الأنثوي فلا تفك شيفرات الكوبيا، اتصلت عبر هاتفنا نصف الآلي.. نصف اليدوي مختبئاً وراء سؤال عن مسألة فيزيائية، فقعني والدها.. بما يلي:

ـ تضرب إنت وإياها يا كر، ما بتعرف إنو بنتي حمارة في الفيزياء، ما عاد تتصل وإلا فرمتك شقف وكباب!.

فحمدت الله أن والدها لم يكن قصاباً، وما إن أراه خارجاً إلى عمله المسائي حتى نخطف المكالمات خطفاً لنتواعد غالباً في مكتبة المركز الثقافي، وهناك اعترفت وعد لي بأنها تموت في الشعر الغزلي.

نمل جسدي كله، وأخذني هذيانٌ فلم أترك ديوان شعر لنزار قباني في مكتبات إدلب إلا واشتريته لها، دستها تحت الفراش كما لو أنها في تلك الأيام قنابل موقوتة، ثم دسَّت لي في حقيبتي المدرسية مقاطع اختارتها لي بخط يدها.

اختيارها للمقاطع كان رسالة أيضاً، أشبه برسالة كتبها بالنيابة عن مشاعرها نزار قباني.. شعراً.

لكنها همست وهي بجانبي في قاعة المطالعة:

ـ أحلم بقصيدة يكتبها شاعر خصيصاً لي.. وحدي.

اشتريت ماعون ورق أسمر ومحبرة سوداء ورحت أقرض الشعر لأجلها، أعادت لي أيضاً.. أول قصيدة قرضتها طوال ليلتين على إيقاع شخير أخي الذي يقاسمني الغرفة، قالت:

ـ لا أريدها.. أنت تقلد نزار قباني وهو يشخر!!.

كانت وعد من حيث لا تعلم الناقد الأدبي الوحيد الذي امتثلت لملاحظته النقدية، وهكذا.. ابتعدت عن شخير أخي، أغلقت عليه باب الغرفة، ورحت إلى طاولة المطبخ؛ أكتب.. لأمزق ما كتبته؛ حتى بدأت وعد تحتفظ بقصائدي.

لازمت طاولة المطبخ أغلب ما كتبت طوال هذه السنين، المطبخ هو أكثر الأماكن صمتاً في بيت أهلي بعد نوم البطون، وأبعده عن غرف النوم، وأقربه إلى معدَّات القهوة والشاي، حتى.. حين تزوجت، صرتُ بالغريزة أقفل باب المطبخ ورائي وفي يدي أوراقي، أنظف الطاولة وأعمل دولة قهوة مستقلة فاتحاً درفة الشبّاك صيفاً وشتاء حتى لا ألوث هواء المنزل بنفايات سجائري دخاناً ورماداً، ولأسعل كما أشاء دون أن أزعج أحداً حتى مطلع الفجر.

دخلت أختي المطبخ وفي يدها رسالة من وعد، لم تستطع تسليمي إياها حتى نام الأهل، أحسست كما لو أن رسالتها مبللة بالدموع، ومعها حزمة قصائدي وقد أعادتها لي.

أحسست كما لو أن رياح العالم قد احتبست في رئتي ولم تعد تريد الخروج، كان خطُّ وعد هذه المرة.. قلقاً، مرتبكاً، وفي مدِّ حروفه انكسار لا يكاد يرى، كتبت رسالتها بالعامية.. أيضاً، كما لو أنه لا وقت، أو.. لا قدرة لها على تدبيج رسالة بالفصحى:

ـ خطبوني لواحد ما شفته غير مرَّة، يشتغل في الخليج، رح يجوزوني بعد فحص التاسع، بغضّ النظر عن النتيجة.

نجم.. لا تزعل، بكل الأحوال نحنا كنّا بطول بعض، والبنت بتكبر أسرع من الصبي، ولو كنت لحقتني بالطول ما كنت قبلت إتجوَّز.. غيرك.

حبيبة قصائدك.. وعد.

وقبل أن تسافر إلى الشارقة مع زوجها؛ أرسلت لي ورقة بيضاء لا كلمة فيها، فقط.. طبعت وعد حمرة شفتيها على البياض الأليف.

المناديل المطرزة بالإبرة.. حيث يتربع في الزاوية أول حرفين من كل اسم وبينهما قلب أو حمامة أو زهرة ياسمين.

المناديل المبللة بعطر الحبيب، وتلك الورقة بآثار شفتيها.. أليست كلها رسائل هوى وهيام؟!.

ثم لا أعرف كيف بقيت آثار شفتيها مطوية في درجي واختفت كل قصائدي إليها، حتى اكتشفت أن أخي الذي باتَ مراهقاً أيضاً.. يستخدمها لمآربه العاطفية، فتحت درجه فاكتشفت رسالة إليه تتغزَّل كاتبتها برقة «قصائده»، صرخت فيه:

ـ منفلوطي يا ابن الحرام، أنت لا تأخذ أكثر من ثلاث علامات في موضوعات التعبير.

وكدت أهدّده بكشف سرِّ «قصائدي» لحبيبته، ثم رقَّ قلبي فسمحت له باستخدام كل مخزوني الإستراتيجي من الرسائل والقصائد الخائبة.

المفاجأة أن أخي نجح بفضلها فيما فشلت فيه.. حتى الآن.

وأعترف أني شعرت بالغيرة، وأنه يلطش مشاعري التي أحولها في سهرات مضنية إلى حروف وكلمات ومقاطع.

وشعرت باليأس.. كأن الكتابة في الحب هي رحلة لا تنتهي وراء حب مستحيل، أو أن الكاتب يكتفي باقتناص لحظة مضت من حياته وكأنه يعزي نفسه حين تبدو وكأنها خرجت منه إلى الأبد، وبأنها لم تعد تعنيه، ويتفادى الأسماء الصريحة لأبطاله، خصوصاً.. أسماء النساء اللواتي لم يغادرنه حتى بالكتابة عنهن، كما أفعل الآن.

بعد ذلك فرحت.. حين رأيت أخي وحبيبته المتيمة «بقصائده» كحمامتين على مقعد في الحديقة العامة؛ لأن ما أكتبه يصل إلى غايته الأسمى: الحب، حتى لو لم أكن طرفاً فيه!.

ثم دقَّقت النظر في حبيبته، كانت.. جميلة ذاتها، ولم تكن تشبه امرأة أحلامي في شيء، فحمدت الله أنها لم تكتشف حتى الآن سرَّ قصائدي ورسائلي التي أوصلها ساعي بريد بالخطأ إلى عنوان قلبها المراهق الصغير.

رسالة «لايف» إلى غيداء:

دخلت إلى الجامعة ـ خائباً مرتين.

أمضيت الفصل الدراسي الأول منغمساً في الأنشطة الأدبية والمسرحية وفي النادي السينمائي وحين فكرت بإخراج نص محمود دياب:

الرجال لهم رؤوس، بدأت أبحث عن زميلة تستطيع تمثيل دور الزوجة بينما أمثل أنا.. دور الزوج!

فجأة.. خطفتني ضحكاتها الصاخبة آنذاك، وسحرها شبه.. النوويّ، حضورها، فتنتها العشتارَّية؛ قلت في نفسي:

ـ الثالثة.. ثابتة!

عاملتني كزميل، ثم تعزَّزت صداقتنا، وكنت أحسُّ خلال البروفات المسرحية أن مشاعر الشخصية التي أمثلها أمامها تختلط فوق الخشبة بمشاعري، وأنها التقطتها.. لكنها تتريَّث، أو.. أنه الدلال الأنثوي، ثم بدت وكأنها تحسُّ بغيرتي من قطعان المعجبين بها، ومن حولها، أينما جلست، وأنّى مال خصرها حين تمشي، حتى أوحت لي.. كما تفعل كل امرأة؛ بأنها تنتظر مبادرتي.

فبادرتُ كما يليق بعاشق متهور، وكأني في سباق لاجتياز كل الحواجز الخائبة مخلفاً إياها ورائي، رُحت.. دسستُ اسمي في أمسية شعرية بعد أن طلقت الشعر ثلاثاً، ثم دعوتها لحضور الأمسية، وحين صعدت إلى المنبر.. قررت اختبار وسيلة اتصال لا تضاهى: البث المباشر!.

فردت أوراقي على المنبر، وما إن نظرت نحوها حتى وجدت أصابعي تشير إليها؛ حيث جلست على يمين المدرج، في الصف الثالث تماماً، لفظتُ اسمها.. واضحاً وصريحاً مع الكنية، ثم أهديتها قصيدتي.

احمَّرَ وجهها، تعرَّقت.. فصارت أجمل مما كانت عليه، والتفت الحشد الذي في مدرج الجاحظ إليها.. بعيون مستطلعة أو جاحظة، فأخذت تنظر إلى ظل قدميها المرتعشتين تحت المقعد طوال إلقائي للقصيدة، وحين انتهيت وأنا أرتجف من التوجس وترتجف بين أصابعي أوراقي.. خطفت إلى نظرةً لا أستطيع نسيانها.. ما حييت، كما لا أستطيع وصفها منذ تلك اللحظة، واليوم، وفي كل حين!.

كانت تلك النظرة.. أكثر رسالة حبٍ حاسمة في حياتي!!.

حتى لكأننا مثّلنا دور الزوجة والزوج.. على خشبة المسرح، لنعيد تمثيله ارتجالا، ومن غير نص.. على خشبة الحياة.

ولا أدري.. أهي الرسائل التي تكتبنا، أو.. أنه الحبّ، ونحن.. رسائله في كل مكان وفي أيّ زمان؟!!.

القاص في سطور

* كاتب قصصي ومسرحي وناقد سوري، ولد في مدينة ادلب 1959. يعمل في حقل الاعلام ويعد من أبرز الأصوات الجديدة في القصة السورية.

من مؤلفاته:

* «حكاية تل الحنطة» مسرحية ـ 1986. «درب الأحلام» مسرحية ـ 1989. «الأنفاس الأخيرة لعتريس» قصص ـ 1993. «ساعة باب الفرج» قصص ـ 1994. «نون النسوة» قصص ـ 1995.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.