المعلومات الشخصية:

الاسم الكامل: هاني الراهب
مكان الولادة وتاريخها: قرية مشقيتا بمحافظة اللاذقية في عام 1939
الجنسية: سوري

السيرة الحياتية:

عاش أعوام طفولته متنقلاً ما بين المدينة والريف ومتأثراً بوفاة شقيقه الأكبر الذي كان يتولى رعاية العائلة بكاملها فناب عنه أخوه الثاني إلى أن حصل على الدرجة الثانية في الثانوية العامة. تم منحه مقعداً مجانياً بقسم اللغة الإنكليزية بكلية الآداب في جامعة دمشق، وتخرج في كلية الآداب، وعُين معيدًا في قسم اللغة الإنكليزية، ثم ما لبث أن منحته الأمم المتحدة مقعداً في الجامعة الأمريكية في بيروت، وخلال عام واحد، حصل على شهادة الماجستير في الأدب الإنكليزي، وحصل في لندن على شهادة الدكتوراه خلال سنتين ونصف. مارس كتابة الرواية، والقصة، والنقد الأدبي. درّس لسنوات طويلة في جامعة دمشق، وسافر إلى اليمن والكويت، ثم عاد إلى دمشق وتوفي فيها إثر مرض عضال أصابه في السادس من شباط عام 2000.

النتاج الروائي:

• “المهزومون”، 1961
• “بلد واحد هو العالم”، 1965
• “شرخ في تاريخ طويل”، 1969
• “ألف ليلة وليلتان”، 1977
• “الوباء”، 1983
• “التلال”، 1988
• “بلد واحد هو العالم”، 1985
• “خضراء كالمستنقعات”، 1992
• “خضراء كالحقول”، 1993
• “رسمت خطا في الرمال”، 1999
• “خضراء كالبحار”، 2000

النتاجات الأخرى:

• “المدينة الفاضلة” (قصص)، 1969
• “الشخصية الصهيونية في الرواية الإنكليزية”، 1974
• “جرائم دونكيشوت” (قصص)، 1978
• “خضراء كالعلقم” (قصص)، 2000

معلومات أخرى (جوائز، ندوات، استضافات.. إلخ):

• جائزة مجلة الآداب اللبنانية في عام 1961
• جائزة اتحاد الكتاب العرب عن رواية “الوباء” عام 1981م

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هاني الراهب

المقدمة
من غيمة تُدعى مشقيتا، هطل هاني الرّاهب، مثل مطر نيسان في أيار عام 1939، خافضاً درجة حرارة الرّواية التّقليديّة، مُنْعِماً بخيراته على قمح الرّواية الجديدة، وهو في طور الإزهار والإثمار، فزاد حبّاته امتلاءً واكتمالاً، جاعلاً إياها تنمو وتنضج، مطوّراً محصول الإبداع الرّوائي كمّاً وكيفاً.

ولادة هاني الراهب وحياته

حين شعرت أمّه «نزهة» بالمخاض، تركت الغرفة التي تسكنها عائلتها، المكوّنة من تسعة أشخاص، والتجأت إلى المطبخ الذي تشترك باستخدامه خمس عائلات، وأغلقت بابه من الدّاخل، ثم تمدّدت في إحدى زواياه منفردة، بآلامها وبالمخاطر التي تهدّد حياتها، إلى أن ولدت هاني محمّد علي الرّاهب، وذلك في عام 1939.
ما إن فتحت الأم باب المطبخ، حتى ارتفع صوت المولود، وأقبل عليها زوجها ببشاشته المعهودة، وهو الأبكم والأصم، ذو اللّحية البيضاء، المسترسلة على صدره، حتّى خصره النّاحل.

عانى هاني الراهب في طفولته من ترحال عائلته بين قريته ومدينة اللاذقية، ومن آثار عواصف الحرب العالمية الثانية، التي كانت تهب من كل اتجاه وتنذر بتدمير العالم، وقد خزّن الكاتب في قبو ذاكرته مشاعر الخوف، الظلم، القلق والنّقمة لتنعكس صوراً في رواياته، وجراحاً لم تندمل حتّى وفاته.

أمضى هاني طفولته في رعاية أمّه وأبيه وبعض أخوته، وبدأ دراسته في مدرسة القرية الابتدائية، إلى أن توفي أخوه عليّ، الذي كان يعمل في اللاذقية ويتولّى رعاية العائلة بكاملها، عن عمر لم يتجاوز الاثنين وعشرين عاماً.

تولّى أخوه سليمان، رعاية هاني الصغير، حتّى حصل على الدرجة الثانية في الثانوية العامة، فمنح مقعداً مجانياً في جامعة دمشق، قسم اللغة الإنكليزية، كما منح راتباً شهرياً قدره 180 ليرة سورية.

في أواخر عام 1957 سكن هاني الراهب مع اثنين من رفاقه في غرفة واحدة في حي الشعلان، ثم دعاه أخوه هلال الرّاهب للعيش معه.‏

تخرّج هاني الراهب من كلية الآداب وعُيّن معيداً في قسم اللغة الإنكليزية، ثم ما لبث أن منحته الأمم المتحدة مقعداً في الجامعة الأمريكية في بيروت، وخلال عام واحد، حصل على شهادة الماجستير في الأدب الإنكليزي، وحصل في لندن على شهادة الدكتوراه خلال سنتين ونصف.

المهزومون

أعلنت دار الآداب في عام 1960، عن مسابقة للرواية العربية اشترك فيها أكثر من مئة وخمسين كاتباً عربياً، وكان هاني الراهب طالباً في جامعة دمشق، لم يتجاوز عمره الثانية والعشرين. وكانت المفاجأة بأن فازت روايته «المهزومون» بالجائزة الأولى، ليبرز الراهب ككاتب يمتلك رؤيا من نوع خاص، يمتلك حدساً بالمستقبل يقترب من النبوءة فى بعض ملامحه. ففي «المهزومون» التي غلفتها نفحة من السارترية والعبثية في آن واحد، قدم تصوراً عميقاً للحالة العربية التي تعانى التفكك والانعزال، وتوقع سلسلة من الهزائم تبدأ بسقوط الشعارات الواهية التي كانت تطلقها الأنظمة العربية آنذاك، هذه الشعارات التي جعلها غلافاً لروايته، ليخبرنا عن مدى هشاشة هذه الأنظمة وشعاراتها الزائفة، وهذا ما حدث فيما بعد حيث توالت الهزائم العربية داخلياً وخارجياً على نحو مأساوي مفجع.

المتمرد والمتأمل

هاني الراهب

رفض هاني الرّاهب الكتابة الكلاسيكيّة، ونادى برواية جديدة بتقنياتها، تتجاوز حدودها الوطنيّة، دافعاً بها إلى آفاق جديدة، مكوّناً لنفسه مجرى خاصاً به، مستقلاً، وبالغ الأهميّة في العالم العربي والعالمي، في وقت، اكتفى فيه الكتّاب، بالقصة والرّواية الكلاسيكيّة التي تهدف إلى كتابة تاريخ الإنسان، كمؤرّخين، يكرّسون أنفسهم كشاهد أمين على حياة بعض الأشخاص، ناقلين تجاربهم المعاشة. فالشاهد المباشر في رواية هاني الرّاهب، ينتمي إلى عالم الخيال مهما كان شكله، وشأنه في ذلك شأن الوقائع التي يرويها، لتنحو منحى تأمّلياً، بنبرات وجودية واضحة، بغية استخلاص معنى، والتعبير عن أسلوب للحياة، وعن هويّة، بلغة بسيطة قريبة من لغة الحياة اليومية من حيث المفردات وقواعد النحو، وهي تجسّد طابع التفتّت بتراكم الجمل القصيرة، وتتجنّب إلى أبعد الحدود إقامة صلات سببيّة، وإبراز بعض العناصر على حساب أخرى. وهناك تعابير ومفردات تعود باستمرار مثل لحظة عابرة، تشير إلى الزمن الذي يمضي، وخيبة وضجر وغربة وقصور، للتأكيد على قلق الأشخاص.
يبدو بناء القصة عند هاني الراهب مفكّكاً دونما اتساق. ففي الرواية الكلاسيكية تشكّل الأحداث الهيكل العظمي للرواية، وهي تتسلسل وفق ترتيب زمني ومنطقي، وتتواصل بصورة لا يمكن فصل بعضها عن البعض الآخر، وتتضافر على إيصال القصة إلى نهايتها. إنها تشكل ما يشبه حلقات سلسلة، إذا غابت إحداها تأثرت القصة بمجموعها. على أن هاني الراهب لم يعد يرضيه هذا النموذج الذي لم يعد يعكس الواقع العربي المعاش. وهو يرفض الحوارات الهامشية جداً في هذه الرواية. ويعطي وظيفة جديدة للحدث على الأخص، عن طريق طبعه بخاتم التفتّت. يضع هاني الراهب النص بصورة رئيسة على المسرح، كمجموعة من الطلاب تضم أدباء، وهؤلاء الأشخاص يتناولون في مرّات متكرّرة موضوعات أدبيّة بصورة خاطفة. وحين يصل النقاش إلى الحدَث يجري التّأكيد على أنّه فقدَ أهمّيته: «من يكتب عن مجدّد يكتب رواية مشتّتة. حياته ليست سلسلة، بل حفر ومطبّات وبقع ضوئيّة، الحادثة لاتهم لأنها لا تمثّل حياته. كلّنا لا نطرح أنفسنا من خلال الحياة اليومية لأننا نعتبرها غريبة عنا وليست الحياة التي نحلم بها»، وقد نادى هاني الراهب بهذه الأفكار منذ عام 1965 في مجلة «المعرفة»، والتي تتمثل في أنه يبحث عن أسلوب جديد للكتابة، أشبه بلوحة تنقيطيّة، عن طريق تكديس لمسات صغيرة، ومشاهد من الحياة اليوميّة، حتى أكثرها تفاهة، أو أكثرها سخفاً، وهذه تتضافر لإعطاء المعنى العام للمؤلَّف، وهو أن العالم ليس إلا فرقة، حزناً، ضجراً، خيبة، وقصوراً.

ينفجر الحدَث في روايته عبر عواطف وأحوال، وفي شخصياتٍ ومعانٍ، فالحدث ليس أحد العناصر الجوهرية في القصة، بمعنى أنه لم يعد المحرّك المباشر للحبكة، ولا تعبّر عن عوامل تغيير، أو وقائع فريدة تطوّر الوجود الجماعي، أو الفردي للأشخاص. إنها تنقل محيطاً، جواً عاماً يمتد على طول النص من أوّله إلى آخره. وليس لهذه الأحداث معنى بذاتها، ولكنها تكتسب معنى بالعلاقات التي تقيمها مع الأحداث الأخرى، وترابطها مع أفعال أو عواطف، وبالتعليقات أو الصور التي ترافقها، من دون تسلسل للأحداث، حتى أن الروابط تضيع بينها، فإن حذفت عدداً كثيراً من صفحاتها أو قليلاً من أي مكان، لن تشعر بنقص في تسلسل أحداثها.

تتأرجح شخصيات هاني الراهب، بين احترامها للتقاليد وإرادتها للتقدّم والحرية، بالرغم من ظروفها الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي لا تسمح لها دائماً بالازدهار والعيش في سلم ورخاء. يتحكّم هاني الراهب في المعنى، ويختفي بصفته سلطة تعبيرية ليترك الأشخاص يستولون على الكلمة، ويتيح للقارئ الاستيلاء على المعنى، كما في روايته «شرخ في تاريخ طويل»، وهذا القارئ في الحقيقة، هو الذي سيستخلص من التجارب طابعها العام، ويربطها بالزمن الجماعي، ألا وهو زمن التاريخ.

لقد كتب هاني الراهب في كانون الأول 1969 أن العالم العربي يواجه مشكلتين رئيسيتين: التجزئة والتخلف. ولهذه الأسباب كانت هزيمة 1967 مكتوبة سلفاً في الحياة العربية اليومية، قبل أن تتحقق في ساحة المعركة، وأكّد أن على الأدب أن يأخذ بالحسبان هذه العوامل، وأن يعمل لتلبية حاجات التغيير في المجتمع: «الثورة خلق وتكوين جديدان، كذلك يجب أن يكون الأدب». ففي رواية «المهزومون» يؤكد على خط الأشخاص المشبعين بالرغبة في الحياة، والمتحرّرين من الضغوط الفكريّة والاجتماعية التي تعيق وجود السوريين: «أريد أن أشرب الحياة، أعبّ الحياة، أمتصّها، وأنسفح على أعصابها، وأنغمر في أعماق لذائذها ووجودها».

شرخ في تاريخ طويل

هي رواية قصص حب خائبة، أقامها الراوي والبطل أسيان على التوالي مع سوزي، ومرام، ولبنى. ويعود السبب الرئيسي لهذه الإخفاقات إلى النظام الاجتماعي العام الذي يمنع الأفراد من التعبير عن أنفسهم بحرية، وإظهار انفعالاتهم بصورة عفوية.
إن الحب مستحيل، لأن المحيط يتفنّن في إقامة الجدران التي لا يمكن اختراقها بين الناس ذوي الأخلاق الحسنة. ونصادف هنا من جديد نقد القوى الاجتماعية المحافظة السائدة، تلك القوى التي تتمسك بالمظاهر، بدلاً من القيم الاجتماعية الإيجابية، وتمنع الناس من أن يعيشوا كما يرغبون، في فرح وتفتّح.

ولما كان الحب ممنوعاً، فإنه لا يبقى أمام المرء لعلاج كبته إلا الخُطبات الخاطئة، أو العلاقات الجنسيّة التجارية، أو العادة السريّة. لأن هذه التيمة المحدودة للحب ليست إلا عرَضاً من أعراض الجو العام للضغط وعدم الرّضا السّائد. فالنظام الاجتماعي يمنع الصدق والحرية في جميع أحوال الحياة. وتغيير ذلك يعني أن ندق إسفيناً في الحالة الراهنة، ونعمل من أجل ثورة شاملة تمس جميع قطاعات الوجود العربي، وهذا ما يحاول أسيان شرحه لأحد أصدقائه.

«أسيان، لماذا تضيع حياتك متقطّعة. أنت موهوب وفهمان، اعمل ليستفيد منك وطنك. الوطن في حاجة لك، لجميع المخلصين، أليست بلادنا في حاجة إلى ثورة شاملة؟
ـ أريد امرأة أعيش معها ثورتي وبعدئذ أنطلق إلى ما هو أوسع. أكوّن أسرة وأنشئ أطفالاً أصحّاء.
ـ عصرنا لا يسمح لك بهذا الترك. هذه قضية صغيرة. أنت للوطن ولست لنفسك.
ـ عندما أعيش مع امرأة لا تتمزّق علاقتنا أكون قد صنعت ثورة كاملة. خدعتنا الشعارات الكبيرة، وغفلنا عن قصورنا الشّخصي».

ومدينة دمشق، المكان الاجتماعي بامتياز، تجسّد في معظم الأحيان هذا الانقسام، هذا التفتّت، عن طريق وضع حواجز داخلها: حواجز ماديّة أو رمزيّة تقيمها بين الناس وبين الجنسين بصورة خاصّة.

“رأيت البيوت المنظّمة حولي ـ بعضها غارق في الظلام، وبعضها مغلق على أنواره ـ والشوارع المنظّمة. عوالم سحيقة صامتة مفصولة بآلاف السدود والسنين. صبوات وخيبات أعلت بين الناس جدراناً من القيم والتقاليد وملأتها بالنوافذ والستائر، وصاروا يتحرّكون داخلها ويضاجعون ويأكلون ويلبسون الثياب ويتكلّمون في شؤون الدّنيا وأكثر من ذلك يطلقون أحكاماً». هذا الفصل قائم يومياً، وفي جميع الأنشطة الاعتيادية. والناس يعيشون في مكان وزمان يفصلان بعضهم عن بعض. هذه الجدران تقف حاجزاً أمام الحاضر، فأسيان يضطر إلى التصرّف كغريب حين يزور سوزي، المرأة التي يحبّها، وهو يشعر بأنه مستبعد من المشهد الذي يدور أمام عينيه، ولم يعد إلا متفرّجاً خارجيّاً، والأشخاص الذين يرون أنفسهم محصورين بين ماضٍ يفرض قوانينه الخاطئة، ومستقبل يبدو أنه لا يقدم فرصة للأمل، هؤلاء الأشخاص يستمرّون في الحياة بانتظار الموت. شيء واحد يمكن أن ينقذهم من الوحدة، ألا وهو الصّداقة التي تُسقط بعض الحواجز وتجعل المدينة غير معادية: «في دمشق لا توجد جدران ولا رمال. ثمّة مجد وسوزي ولبنى ومسعود وبعض لعاب العنكبوت القليل الأهميّة». كل هذا كتبه هاني الراهب بأسلوب العودة إلى الخلف.

يؤدّي الزّمن دوراً مهيمناً، ولكن دون أن يُنظر إليه من الناحية الكمّية التتابعيّة. إنه على العكس من ذلك، كيفي، نفسي، إنه الزمن البشري، الشعور الذي يحسّه كل إنسان باللحظة التي تمر، ويحيله إلى نشاط ذهني لإعادة البناء، من خلال استدعاء أحداث تشكل حياة. هكذا تصبح الفئات الزمنية للحاضر والماضي زاخرة. ففي الرواية يصبح الحاضر «شيئاً معاشاً» يقدم نفسه للقراءة. مروراً بآلية الذاكرة يقدم الماضي نفسه في حالة «حاضر»، يخضع للعلاقات الشعورية واللاشعورية التي تبني ذهن الإنسان.

التلال

هي تاريخ مدينة (وربما تاريخ مدن أخرى، لأنّ مصيرها مترابط) بعليتا، الواقعة في وادي «النهر الكبير»، أي النيل. ويأتي السرد التاريخي حول المدينة ليمثل، بالدرجة الأولى، التقلبات التي عاناها السكان، وطموحاتهم، وآمالهم، وإنجازاتهم: «معظم هذا التاريخ مرشوش الآن على ذاكرة العالم وفي متاحفه. لم يبق منه إلا القليل الذي رأيناه أطفالاً، القليل الغائب عن البصر والبصيرة، الذي يعيشه فقط ورثته، الغائبون هم أيضاً عن البصر والبصيرة. ولكن ما بقي هو الأهم. إنه التاريخ السري الذي تشاء الكتب والمخافر أن تنساه، الذي كلما تقادم اقترب من اللغز والهلوسة والمستحيل».
وهكذا فإن الأدب الخيالي واللجوء إلى الأسطورة والسخرية والرمز وأشكال السرد، يأتون لنجدة التاريخ، ويعيد للمنسيين مكانتهم. فطريقة الكاتب تجمع بين التاريخ «العلمي» والتجربة الشّخصية. فالتجربة الشخصية تسمح بالولوج إلى هذا التاريخ السرّي الذي لا يعرفه التاريخ الرسمي، والذي يعطي مكانة للتاريخ «الشعبي» على أن حضور شخصية «فيضة» يسمح بتجاوز هذا الإطار التاريخي الصرف وإعطاء معنى لحركة الحياة، وزحزحة السّرد نحو هذا «التاريخ السرّي» الذي يحمل في طياته قيماً عالمية، تتجه نحو غرض واحد، ألا وهو الحديث عن الممارسة المعاصرة للسلطة في العالم العربي لإبراز الجوانب السلبية فيها، والمطالبة بقدر أكبر من الديمقراطية. والرؤية التي يقدمها عن هذا العالم ما تزال متشائمة. فالبلدان العربية لم تنجح في إرساء الديمقراطية والسلم على أرضها. ومن خلال القصص الخاصة بالأشخاص تطالعنا خيبة الآمال الكبرى التي حرّكت التقدميين العرب في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وحركات التحرر. وقد عبّر الكاتب عن هذا في مجلة ألف قائلاً: «بمعنى أنا أريد أن أحشد أكبر كمية، أكبر حجم ممكن من التجربة ومن البشر في خلق فني ما، فماذا أفعل، أتساءل عندها:
أيها الأقدر على تقديم هذا الحشد، الواقعية أم الأسطورة؟ ويأتيني الجواب: الأسطورية. الواقعية أم الرمزية؟ يأتيني الجواب: الرمزية. هل أهجر الواقع؟ أبداً، الواقع عنصر قائم ونحن لسنا منصرفين تماماً إلى الرمز والأسطورة لأنهما بالأساس نشآ من الواقع».

ألف ليلة وليلتان

نقد للتاريخ العربي في القرن العشرين، وصعود البورجوازية الصغيرة إلى السلطة في بداية الستينات، وإخفاقها في مهمتها لتحقيق التقدم والإصلاح. والأشخاص يمثّلون هذه الطبقة الجديدة المسيطرة، ويظهرون غير قادرين على تلبية توقعات الشعب. فقد جرى تجميد الإصلاح الزراعي، وهيمن الفساد والمحاباة، واحتل الجنس الأولوية أمام الحب الحقيقي، وبقيت التقاليد الأكثر رجعية تحكم العلاقات الاجتماعية، وقد تأثرت المرأة بشكل خاص بهذه الأوضاع، وبقيت خاضعة لسلطة عائلتها التي ترى فيها سلعة للتبادل، وسلطة زوجها الذي يفرض عليها أن تخدمه بصورة عمياء. صحيح أن الفروق الاجتماعية زالت، ولكن الانقسام القائم بين الأغنياء والفقراء ازداد اتساعاً. والمجتمع الاشتراكي التقدمي الموعود بقي بعيداً عن الواقع الممثل في الرواية: «إن اختلاط الأزمنة في الرواية مقصود به الإشارة إلى استمرار عالم ألف ليلة وليلة العربي خلال ألف سنة وسنة، وإن هذا الاستمرار بلغ ذروته عام 1967 عبر هزيمة حضارية أزاحت العرب عن هامش الزمن ووضعتهم في الليلة الثانية بعد الألف: وهذا الزمن الجديد الذي تنتهي الرواية ببدايته سيكون سداة رواية قادمة».
يبرز في الرواية عنصر رئيسي وهو «النعاس» وحياة الناس منظمة فيه، كما هي الحال في الحياة الواقعية، بالتناوب بين النوم واليقظة، ولكن هذه اليقظة ليست إلا جسدية، فالواقع أن المجتمع العربي استكان إلى النعاس، ولن يستيقظ إلا بعد الهزيمة، حيث يقرر قسم من الأشخاص مغادرة عالم ألف ليلة وليلة ومعيشة حياتهم الخاصة. وتنتظم القصة حول فعل «أفاق» الذي يفتتح الرواية، «في زمن ما يفيقون»، وكأن الأشخاص يعيشون في حالة من «النوم، التعب، ليلة بدون صباح، نوم أبدي، الخدر الدائم»، وكأن الزمن قد توقف بالنسبة إليهم، وهم لا يفعلون إلا تكرار النماذج الماضية، غير قادرين على إيجاد حل للأزمات التي يجتازونها، فعالمهم لا يملك من الحداثة إلا المظاهر، فهو يتزين بالكلام الجميل، ولكن مساوئ الماضي ما تزال مستمرة في القلوب، وهو متجمد في أساليب قديمة من التفكير، على غرار الزمن المتوقّف، فالعالم تكبّله التقاليد والديمقراطية الغائبة، وضيق هوامش الحرية بسبب الضغوط السياسية والعقائدية والفنية التي يخضع لها.

رسمت خطاً في الرمال

واستمر الراهب في نقد وتعرية الواقع العربي الفاسد في روايته الأخيرة «رسمت خطاً فى الرمال» والتي تعتبر من أفضل ما كتب خلال مسيرته الروائية، حيث تناول فيها الوضع العربي ككل من خلال رسمه لملامح الغزو العراقي للكويت وما تبع ذلك من احتلال الجيوش الأمريكية للكويت بذريعة حمايتها من العدو.
«كان قد مضى عليّ ثلاثة أشهر دون أن أتلقّى دولاراً واحداً، وعشرون شهراً وأنا بلا عمل. عندما انقطع رزقي بسبب الطول السياسي للساني، انفضّ من حولي تسعون بالمئة من أصدقائي ومئة بالمئة من دخلي. وبعد أشهر بدأت أبيع مقتنياتي، وأقترض. الصحف والمجلات التي كنت أكتب لها ـ أنا عيسى بن هشام ـ وجدت أن مقاماتي باتت تفتقر إلى النّكهة والنّكتة والطّعم واللون والرّائحة (كلّها دفعة واحدة). وتأسّف رؤساء التحرير لعدم استطاعتهم نشرها».

وقد استخدم الراهب في هذه الرواية نفس الأسلوب الذي استخدمه في رواية «ألف ليلة وليلتان» حيث استعان بالتراث ليستحضر شخصيات منه و يلبسها ثوب المعاصرة ليحملها أفكاره الثائرة على الواقع، حيث نجده يسخر من الماضي والحاضر والمستقبل عبر شخصيتي بديع الزمان الهمذاني وأبو فتح الإسكندري، لنقرأ معاً هذه الصورة الساخرة:

«وهكذا جثمت على خاطري معضلات الحياة الجاثمة على مدينة لماذا. كنت مسترخياً على الحصيرة في غبش البرودة والتهويم. أسندت ظهري إلى الجدار. نقلت عيني الغافلتين بين المحراب والمنبر وحروف الذهب البديعة على الجدران الأخرى: أنا عيسى بن هشام، الذي تمرّد على خالقه بديع الزّمان وقال له: “إما أن تجعلني غنيّاً بالمال أو غنياً بالكرامة، أما لا ذاك ولا تلك، فهذا فراق بيني وبينك.

أبو الفتح الإسكندري طويل اللسان. نحن لم نتكوّن في رحم أمّ واحدة. لكننا توأمان في كل شيء. لقد تكوّنا في رحم آخر هو مخ خالقنا بديع الزّمان. كان طبيعياً أن نبقى أسيري لغته إلى يوم القيامة. لكن لحظة انفطار واحدة، الانفطار الكبير، غيّرت كل شيء. هذا التكرار، تلك النمطية، ذلك السجع. تلك هي لغة بديع الزمان التي اعتبرها فقهاؤنا معجزة. أدخلنا فيها وتركنا هناك. وفي مدينة بخارى اتفقنا أن نغادر وجدان خالقنا وأن نتأبى عليه إلى الأبد. وأخذ أبو الفتح ينشد:

ويحك هذا الزّمان زور فلا يغرّنك الغرور
لا تلتزم حالة ولكن در بالليالي كما تدور

ويمّم شطر مدينة الإسكندرية.

أما أنا فهوت عن كاهلي قشور الأبدية وشممت روائح الزمن في مدينتي النديّة، هناك استقريت، وعزمت أن أكسب لقمتي بكرامتي. جلست بين شجرة المشمش وشجرة الورد. انتظرت مجيء دنيازاد لنحتفل معاً بشرب فنجان قهوة (تكرّمت جارتنا بإعارتنا أوقية من البن). الشجرات المثمرات التي زرعتها في الحديقة صارت مجرد عيدان، فأولاد الجيران تربّصوا بكل غصن ينبت فيها أو ورقة، وأسعدهم اقتطاعها، بقيت فقط صنوبرة ودفلى وزيتونة».

وهنا أيضاً يناجي الأخطل قائلاً:
«واندهش وهتف: ماذا دهاك أيها الأخطل؟ أراك عدت إلى عقلية الحجاج بن يوسف.
قلت: هات الحجاج بن يوسف وهو يهدم الكعبة فوق رؤوسهم.
قال: إما انك أسرفت في معاقرة الخمرة أو أنك استمعت إلى حكاية من شهرزاد، اقتلهم وهم في الحرم الشريف؟ لدينا وسائل أرقى بكثير لعلك نسيت أننا في القرن العشرين.
قلت: بل أنت نسيت أننا في القرن السابع.
فنبر بصوت ودود: بئس الشعراء إذ يعاقرون السياسة، حتى أنك لا تعرف أن الحجاج فتح دكاناً خاصاً به ولم يعد يخدمنا».

بعد ذلك ينتقل الكاتب للحديث عن الواقع العربي والتغير الذي اعتراه بعد حدوث معجزة النفط، وسعي أميركا للحصول على هذه الثروة بأي شكل، في هذه الصورة نرى الأمريكي يخاطب ربه ويطلب منه أن يباركه في الحرب التي سيفتعلها بين العرب للحصول على النفط منهم (ويقصد بها حرب الخليج الثانية)، يقول:

«ماذا نفعل بمعجزة النفط هذه؟ هؤلاء الجمالون أنفسهم يشترون ويشترون كل مشتقات الجنس والتكنولوجيا والترف، ومع ذلك تبقى لديهم بلايين الدولارات من مشتقات النفط. ويدعون أن هذا فضل منك، يجب أن نجد وسيلة لسحب هذا الادعاء. البترودولار يهدد الدولار.

نحن يا أبي- الأميركي مخاطباً ربه – مضطرون لتصحيح أخطاء المصادفات الجيولوجية. منذ سبعة عشر عاماً ومليارات البترودولار تتراكم في حسابات الجمالين هؤلاء، إننا نجعلهم يشترون ثلث ما يشتريه العالم كله من الأسلحة ومع ذلك لا تنضب ملياراتهم. وإذا حدث وتصالح حاكم واحد منهم مع شعبه فسنكون في خطر، سوف لن يكون مضطراً لطلب حمايتنا ولا لإيداع دولاراته في مصارفنا. (…) وأنا شخصياً لم أجد وسيلة لتعديل هذا الخلل المستطير في الجيولوجيا المالية إلا أن أجعل هؤلاء الجمالين يتحاربون فيما بينهم كما كانت عاداتهم من قبل محمد، ومن ثم يطلبون المساعدة منا. لأجل هذا يا أبى أعتقد أنك ستمنحني بسهولة البركة التي أطلبها لأمضي قدماً في هذه الحرب. ليتقدس اسمك. ليتعال ملكوتك كما في السماء كذلك في الأرض».

قراءة في أدب هاني الراهب (شاكر فريد حسن)

هاني الراهب روائي سوري من أصحاب الكلمة الممنوعة والمقموعة والمغيبة. اقتحم بوابة الرواية بثقة وجواز مرور واحتلت نصوصه موقعاً واضحاً في الأدب القصصي والروائي السوري والعربي المعاصر. وقد نحى منحى جديداً في الكتابة الروائية واستفاد كثيراً من مطالعاته وقراءاته في الآداب والثقافات العالمية المختلفة ووظف كثيراً مما اكتسبه في آثاره وأعماله.
عاش هاني الراهب في زمن الانقلابات والعواصف والصراعات الفكرية التي أعقبت نكسة حزيران، ومات في الرمال التي غطت أرض الوطن العربي بعد عاصفة الصحراء والهزيمة الكبرى في العراق، تاركاً ومخلفاً وراءه الصدق والوهج وألم الفقدان ووجع الغربة والأسئلة عن الذات والحالة العربية الراهنة.

صدرت له عدة ترجمات لأعمال نقدية عالمية ولرواية «غبار» لياعيل ديان، وألف كتاباً عن الشخصية الصهيونية في الرواية الإنجليزية، وله في القصة القصيرة «المدينة الفاضلة» وفي الرواية «المهزومون»، «شرخ في تاريخ طويل»، «ألف ليلة وليلتان»، «الوباء»، «التلال»، «المستنقعات»، وغيرها.

ويعبر هاني الراهب عن حالة وبؤس الواقع العربي المأزوم والمهزوم على لسان «أسيان» بطل قصته «المعجزة» فيقول: «إن حياتنا اليومية مطبوعة بطابع النذالة والتفاهة والغيظ والمماحكة، وعلينا أن نتخلص من هذا الطابع لتصبح الحياة ممكنة. أعرف أنني أعمق نذالة من الجميع وأكثرها تفاهة وغيظاً وإني فارقت من الخطايا ما يبتلعكم كلكم، لكني من جانب آخر معذور لأني أردت أن أعرف حقيقة الإنسان، إننا جميعاً خطاة ولكننا لن نضيع وقتنا في المحاكمات وإصدار عقوبات الإعدام فالشر بذلك يبقى شراً».

ويحاول هاني الراهب في نصوصه رسم ونقل هموم وعذابات أبناء جيله ووصف حالة الانهزام والسقوط والتكيف في ظل الهزيمة، ونجده في قصة «الخامس الدائم من حزيران» يحكي عن مجموعة من الشباب المرح الذي يستسلم للهو والرقص للهروب من الواقع ونسيان ما يقلق البال وتنتهي حفلة الرقص بحادثة تقضي على الفرح الكاذب عندما تظهر لاجئة فلسطينية طالبة الخبز لأطفالها الجياع.

«خضراء كالبحار:
الحرب لم تنته…
الحرب مثل أمواج البحار..
لا تنتهي …
أنت تعيش بين الناس في حالة حرب…
وأنت وهم في حالة حرب مع أناس آخرين..
الحياة نفسها حالة حرب «السلام حالة موت»..
ولكن من هذه الحالة يولد الحب والفن وتولد الإنسانية…
بعيد سفرها راح يهلع في المدينة.. واكتشف أن الحياة..
لعنة ضرورية.
إذا فشل الإنسان في الحب عشرين مرة.. فكيف لا تقوم الحرب؟؟
إذا لم يكن الإنسان آمناً على عيشه وهو في الخمسين.. فكيف لا تقوم الحرب؟؟
إذا لم يكن أحد حراً في اختيار مكان صلاته… فكيف لا تقوم الحرب؟؟
عندما تتراكم الحلول التي لا تحل…
تقوم الحرب!
ها هنا مجتمع يعلق أخلاقه على الستائر..
ويطلق ثعابينه وراءها…
مجتمع أنتج زوجاً لاتهمه براءة الروح.. وإنما عفة الجسد..
عرفت أن الجسد والروح ينبثق أحدهما من الآخر.. وليس يلغي أحدهما الآخر..
وإنهما يكونان مئة و ألفاً.. عندما يكونان واحداً».

الوباء

اختارها اتحاد الكتاب العرب كواحدة من الروايات المئة الأوائل في تاريخ الأدب العربي، يطرح فيها هاني الراهب أسئلة هامة وكثيرة لم يجد لها جواباً في الواقع الحياتي عن الديمقراطية والحرية، وموقع المثقف في المجتمع المدني ودوره في عالم تنقرض فيه الثقافة ويقتل الوعي النقدي. تبدأ الحكاية هناك في الشير في تلك الفسحة المربعة بين كتلتين من الجبال. تنتهي آجال، وتولد أجيال، وما بين الولادة والموت فسحة الحياة التي تتلون بألوان يضفيها عليها المناخ والمسرح والآفاق.
ضمن هذه الأجواء يتنقل هاني الراهب متابعاً دورة الزمان لهذه العائلة السنديانية الآتية من ذلك المكان الممتد بين مرابع الصحراء إلى بلاد الشام وزمان ينحدر من السفر برلك إلى يوم حاضر.
يتتابع الأشخاص، يتغيرون بتغير أماكنهم وأزمانهم، يموت أشخاص ويولد غيرهم ويبقى وجه الحياة وحسها الآتي من معانيها قابعاً في كل حياته.

وتبقى حسرة في قلب خولة «كما يهدر من عمر الإنسان في هذا النمط من الحياة؟ كل هذه الأعوام، سبعة وأربعون، ولم تتعلم أن الزهرة تظل أجمل إذا لم تقطف، ولكن ماذا لو أنها تحت الحرية واكتملت؟ لو أن هذا الهدر لم يكن، لكان بوسعها أن تخيط ألف فستان زيادة، وتحب ألف شيء آخر، وتشعر بألف فرح آخر». وتبقى «ماذا لو؟» لغز السعادة الآفلة، في رواية الوباء الآتية من ثنايا حكاية الحياة.

وشخصيات هاني الراهب ملتبسة وقلقة ومضطربة، تعاني القمع والاغتراب والتهميش، وغير قادرة على مواجهة السلطة السياسية التي تغتال الإبداع وتصادر حرية الكلمة.

أخيراً يمكن القول أن قصص وروايات هاني الراهب فيها الكثير من التفاصيل الزائدة والرموز السياسية، وتستوعب الواقع اليومي الممل، وذات أبعاد سياسية وفكرية عميقة ،وهي تصور التكوين والتشكيل الطبقي والسياسي في المجتمع العربي البطريركي، وتغلب على أرجائها مسحة الحزن واليأس، وتحكي القهر والألم والتفجع لكاتب عربي أصيل أصيب بالخيبة وفقدان الأمل، وعايش الإخفاقات والانتكاسات والهزائم، ومات في رحاب المهزومين.

تكريم هاني الراهب

كتبت لمى يوسف في شؤون ثقافية عن تكريم هاني الراهب بتاريخ 9 أيار 2006:
احتفى اتحاد الكتاب العرب ومديرية الثقافة بالكاتب الروائي هاني الراهب خلال مهرجان نيسان الأدبي في عيده الفضي.

شارك في هذا التكريم الأديب عبد الكريم ناصيف، د. عبد الله أبو هيف، الناقد والروائي نبيل سليمان وأدار الندوة الأديب محمد حطاب.‏

اللامنتمي

استعرض أ. عبد الكريم ناصيف ظاهرة «اللامنتمي» في أدب هاني الراهب – «المهزومون» أنموذجاً – قائلاً: «طغت على المكتبة العربية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي موجة من كتب الأدب التي تنتمي للوجودية، إذ سعت دور النشر في بيروت خصوصاً والقاهرة ودمشق عموماً إلى ترجمة كتب سارتر، ولسن، وغيرهم من الكتاب، لتعرض في أبرز الأمكنة من واجهات المكتبات، ولينتشر بين بعض الناس – من ذلك الجيل – نمط من السلوك يحاكي النمط الوجودي ذاك، ويعمل على اقتفاء أثره في كثير من الجوانب والميادين الفكرية الاجتماعية وحتى السياسية. في تلك المرحلة من الزمن استقبل ذاك الجيل رواية هاني الراهب «المهزومون» بالحماسة والاندفاع، واعتبرها الكثيرون فتحاً في عالم الرواية وخروجاً على الموروث الروائي في تلك الأيام، وفتح باب جديد للإبداع الروائي على صعيدي الشكل والمضمون، وكان واضحاً كم كان الراهب متأثراً بتلك الموجة الوجودية واللاانتمائية التي جاءت من أوروبا، واستطاع أن يعبر في روايته عن انتشار تلك الأفكار بين الشباب المهزومين الذين يثرثرون في المقاهي ويصنعون الفراغ من الحلم الوجودي، وهو ما فسر يوم ذاك سبب تلقف سهيل إدريس مباشرة لرواية الراهب، ونشرها في دار الآداب – التي كانت تتبنى التيار الوجودي ـ مبشرة القارئ العربي بميلاد روائي عربي واعد. وأثبت هاني بعد ذلك أنه عالم من الإبداع قائم بحد ذاته لا يفتأ يتنقل بين عوالم مختلفة يبرع كثيراً في إعادة بنائها جميعاً، هو الفنان والمهندس الماهر في التشكيل والبناء».‏

ويضيف الأستاذ ناصيف: «ابتعد الراهب في “المهزومون” عن الاتباعية والمحاكاة في ميدان الرواية العربية لينفرد بذاته شاهداً على عصر بدأت فيه تحولات جذرية في المجتمع من أجل صنع مجتمع جديد بصيغ وعلاقات جديدة. فها هو بشر بطل “المهزومون” وطالب الجامعة يعلن عن أفكاره التي في مقدمتها النقمة على المجتمع والثورة عليه، فقد أعلن في أكثر من مكان أن المجتمع صفر، أي أن البطل يدين المجتمع ككل، يلغيه باعتباره لا قيمة له كالصفر».‏

تقانات جديدة‏

واستعاد د .عبد الله أبو هيف عبر مداخلته أغلب أعمال الروائي المحتفى به مستهلاً حديثه بالقول: «هاني الراهب من الروائيين العرب القلائل الذين جددوا السرد الروائي، وحدثوا تقاناته نحو التعبير الاستعاري الشامل عن تأزم الذات العربية ومحن الوجود العربي من خلال تعاضد رؤاه الفكرية مع تعليقاته الوجودية والتاريخية. فصارت غالبية رواياته مثار وعي بالتاريخ ومدار وعي بالذات إزاء اشتراطات الواقع المؤسسية. في مجموعته الثانية “جرائم دون كيشوت” (1978) صياغة سردية، أقرب إلى ممهدات لرواياته وتفكيره الروائي من حيث التزام الواقعية الجديدة وثراء الدلالات التناصية وتعدد المستويات السردية كما هو الحال مع قصة “وسوى الضبع” أنموذجاً، فهي مكتوبة ترميزاً عن هيمنة المحتلين والغزاة وتحالفهم مع العدوان الداخلي فيما بين العرب أنفسهم. فلا سبيل لمواجهة العدوان الخارجي ما لم يواجه العدوان الداخلي قبل ذلك. ويكرر الراهب في روايته “شرخ في تاريخ طويل” (1969) الموضوع نفسه، وتكاد الرواية تشبه لوحات متتابعة لحوارات سياسية وثقافية عن وعي الجيل الجديد وضغوطات السلطان السياسي عليه، حتى غدت الرواية مشاهد للجدل العقائدي والفكري والذي يتلفع كثيراً بلبوس وجودي حيناً وتاريخي حيناً آخر، وتلتزم ببعض تقانات الرواية الجديدة التي مارسها آلان روب جرييه وميشيل بوتور وكلود سيمون».
ويضيف د. أبو هيف: «لفت الراهب النظر إلى إبداعه الروائي الحديث بقوة في روايته “ألف ليلة وليلتان” التي وسع استخدام تقاناته الروائية الجديدة فيها، ولاسيما الشاعرية والكثافة وانفتاح المنظور السردي على مصراعيه لتعدد مكونات الفضاء الروائي من الواقعية إلى المرجعية التاريخية».

اللاتعيين

أضاء الناقد والروائي نبيل سليمان على إضافات هاني الراهب الأكثر أهمية، إن كان بالنسبة لتجربته الروائية أو بالنسبة للرواية العربية، كما تجلى ذلك في روايتيه «خضراء كالبحار» و«رسمت خطاً في الرمال»، وكان الراهب قد استخدم في رواية «التلال» إستراتيجية اللاتعيين كما يسميها الناقد سليمان. ويضيف: «تعثرت تجربة الراهب في “التلال” من هذه الناحية، لذلك لم يتابع مشروعه في الجزأين الثالث والرابع منها، وظل ذلك إشكالاً مريراً بينه وبين نفسه، وعرفت ذلك من أحاديثي الطويلة معه. في روايته “خضراء كالبحار” يشتغل من جديد على تطبيق هذه الإستراتيجية، لكن يمكن للقراءة أن تستعين ببعض المؤشرات، فالبلد قد يكون لبنان أو سورية من خلال وجود ضابط أسير لدى إسرائيل. كما اشتغلت الرواية على التلاقح مع الفن التشكيلي ومع الموسيقى، والرواية كما نعلم فن بلا تخوم تتفاعل مع الفلسفة والاقتصاد والتاريخ ومع الفنون كافة، وإن كان تلاقح الرواية العربية مع الفن في التشكيل والموسيقى ليس بغزارة تفاعلها مع التاريخ، لكن هاني راهن في روايته هذه على ما يمكن أن يقدمه التفاعل بين السرد وبين الفن التشكيلي والموسيقى، وليس المقصود هنا أن تكون الشخصية الروائية أو تلك رسامة أو عازفة مع أن الشخصيات المركزية فيها كلها تشتغل بالفن، واحدة منها تبدو قناع الكاتب ليدلي بدلوه وبآرائه بالفن التشكيلي. شخصية الفنان التشكيلي المزواج المطلاق، الذي يبدو كقناع للكاتب ليجسد التجربة الإبداعية. ودائماً الخلفية هي الموسيقى خاصة الكلاسيكية منها».
أخيراً‏ أغلقت هذه الندوة التكريمية، وفتحت أمامها مهرجاناً سنوياً لهاني الراهب في مشقيتا، كما فتحت باب تكريم أدباء اللاذقية الذين أصبحوا نسياً منسياً.

الراهب وجائزة نوبل

عندما سئل الراهب ذات يوم عن مغازلته جائزة نوبل وموقفه منها أجاب: «بالنسبة لجائزة نوبل، أنا لست مرشحاً لها والذي كتبته حتى الآن هو ثماني روايات اثنتان منها فقط جديرتان بالقراءة، والست الأخريات لا بأس بهن، ولدي كذلك مجموعتان قصصيتان، وهذه الجائزة إذا استثنينا منها الجانب المالي، وهو جانب لعله الشيء الإيجابي الوحيد فيها، جائزة سيئة السمعة جداً نظراً لتدخل السياسة فيها بعيداً عن الاعتبارات الثقافية، ومن ذلك بشكل خاص ترويجها قيماً إمبريالية ورأسمالية لا تناسبني أنا العربي الذي أعتز بتراثي وحضارتي».

هاني الراهب

الخاتمة

أقام بيننا هاني الراهب ليرحل، حاملاً بخفّة خيمته، بحثاً عن ماء بهي، يكون جديراً بعطشه، تاركاً آثار خطواته تغوص في ثلج الحقيقة، ممتثلاً لأوامر الرّيح، تحمله إلى أماكن بعيدة، واسمه ما يزال على طرف ألسنتنا، نريد أن نناديه، نودّعه، لنقول له: هاني الرّاهب، شكراً لقلمك، الذي بعث الشباب في وجه الرواية المعاصرة في سورية، موقظاً إيّاها من سباتها العميق، معيداً الألق والشّعلة لنظراتها، مطالباً بالديمقراطية والأمل على التغيير.
ارتاح هاني الراهب في السادس من شباط عام 2000 من صخب الحياة وهمومها، ونام بجانب تلك الصّومعة التي كانت مصدر إلهامه، في لحدٍ نديّ التّربة، طاهر الجنبات، يحرسه ضريح رخامي أنيق التّكوين، يرتفع فوق تلةٍ عالية، قريباً من مزار قبر جدّ أبيه الشّيخ سليمان الراهب، ليطلّ إلى الأبد، على بحيرات، غابات وجبال قرية مشقيتا، الممتدّة حتّى الحدود التركيّة.‏

أعماله

– المهزومون، رواية، بيروت، 1961.
– بلد واحد هو العالم، رواية، دمشق، 1965.
– المدينة الفاضلة، قصص، دمشق، 1969.
– شرخ في تاريخ طويل، رواية، 1970.
– ألف ليلة وليلتان، رواية، 1977.
– جرائم دون كيشوت، قصص، 1978.
– الوباء، رواية، 1981.
– التلال، رواية، بيروت، 1989.
– خضراء كالمستنقعات، رواية.
– خضراء كالحقول، رواية.
– رسمت خطاً في الرمال، بيروت، 1999.
– خضراء كالعلقم، قصص، بيروت، (نشرت بعد وفاته).

Related imageRelated imageRelated image