حوار مع الذّات.. ألف سؤال وسؤال..الجزء الأول – السؤال من 11- إلى 20 –

للأديب و التشكيلي السوري#صبري_ يوسف Sabri YOUSEF ..

11. متى ارتديتَ بنطلوناً وقميصاً أوَّل مرّة؟

ارتديت أوَّل بنطلون عندما تمَّ قبولي في الصَّف الأوَّل الابتدائي، عندها اشتريتُ قميصاً مقلّمة، ومريولة خاكي موحّدة كسائر التَّلاميذ، وعندما التحقت في المرّة الأولى بمدرسة ناظم الطَّبقجلي، أتذكَّر لم يتم قبولي في المدرسة؛ لأنَّ عمري كان أقل من ست سنوات، لهذا قال المدير لأمّي: لا نقبله هذه السّنة، لكنَّنا سنقبله في العام القادم، وفرحتُ جدَّاً آنذاك لعدم قبولي في الصَّف الأوَّل؛ لأنَّني سألعب عاماً آخر، دون أن ألتزم بدوام المدرسة، وما كانت المدرسة تجذبني كما كانت تجذبني الألعاب في الحارة، وهكذا تسنّى لي أن أمرح وألعب مع أصدقائي عاماً آخر قبل أن ألتحق بالمدرسة وألتزم بالدّوام والوظائف المدرسيّة، عدتُ وعلامات البشرى والفرح مرتسمة على وجهي!
استقبلني أصدقاء الحارة وهم في أوج فرحهم أيضا؛ً لأنّ قسماً منهم لم يقبلوهم في المدرسة؛ بسبب صغر سنّهم، وهكذا بدأنا نعدُّ العدّة للعب ونحن في حالة فرح؛ لأنَّ شهوراً عديدة ستستقبل ألعابنا ومباهجنا، كانت “مزاعيرنا وكللنا وباقوشنا” والكثير من الألعاب في انتظارنا بحسب مواسم كل لعبة، كم أشعر بالحنين إلى تلك الألعاب والذّكريات الطَّيبة الّتي قضيناها في كنف الطَّبيعة والأزقّة والشَّوارع العريضة، ترتسمُ الألعاب والمواقف الطَّريفة في ذاكرتي وخيالي، وكأنّها حدثت منذ شهور وسنين قريبة، تدهشني ذاكرتي الّتي نقشتُ في رحابها أدقِّ تفاصيل أيام الطّفولة، حتّى أنّه أحياناً تتراءى لي في الحلم الكثير من المواقف، فيخيَّل إليّ حلميّاً أنّني سأتوجّه نحو “مزعاري” حالما أنهض من نومي، كما أن داليات العنب لا تفارق ذاكرتي ومخيّلتي، مراراً تراءت لي في أحلامي، وأنا أقطف عناقيد العنب، كم كانت لذيذة عناقيد عنب “البحدو والمسبّق والدّار كڤنار”. لم آكل عنباً في السُّويد على مدى سنين عمري هنا، أكثر من ربع قرن، بنفس نكهة ومذاق عنبنا بكلِّ أصنافه اللَّذيذة، تعالي يا طفولتي أفترشْكِ بين واحات القصائد وفي فضاءات قصصي ومتاهات حرفي وهو يهفو إلى ذكريات غافية بين مروج الرُّوح والقلب، وإلى ليالي ديريك القمراء، شوقاً إلى تلألؤات نُجيمات الصَّباح.

 

12. ألعاب الطّفولة، “البرّي، التُّوش، المختبوية، الكيلاڤرّي، الدّار پولكة والپرو پرڤانوپري وا چاوايا.. إلخ” ماذا قدّمَتْ لك هذه الألعاب عبر مسارات فضاء الإبداع من خلال الحنين إلى مرابع الطُّفولة؟!

أجل، لقد تركَتْ ألعاب الطّفولة الكثير من توهّجات الإبداع في فضاءات حرفي ولوني، وإن أجمل ما في عوالم طفولتي هي ألعاب الطُّفولة بكلِّ حبورها، وعلى مدى فصول السّنة، حيث لكلِّ فصل من فصول السَّنة، ألعابه وبهائه وجماله، فلا تفارق ذاكرتي لعبة “البرّي والتُّوش والپيپة/المختبوية والدَّار پولكة والصّنم والصّلّابة والقتيلة والطَّفش”، والپرو پرڤانو پري وا چاوايا “، والعديد من الألعاب الأخرى، كما كنَّا نلعب لعبة الخوصة في أيّام الشِّتاء، وبيت لبيت، والحزازير .. ويروي لنا الآباء والأهل القصص، وكم كان عمِّي يوسف شلو باهراً في سرد قصصه المتسلسة على مدى ليالٍ عديدة من أيَّام الشّتاء، وكانت له طريقة مدهشة ومشوّقة في سرد أحداث قصصه، كقصّة “رسمتي ظال خُيي شوري كران”، أي رستم البطل صاحب السَّيف الثّقيل، وفيلزور وفيروشاه، وهاديكو صاحب البستان، وكُلي وچوكو والأربعين حرامي، وقصص أخرى طريفة، بينما والدي كان معروفاً بسرد قصّتين فقط “الكُمْكُمُوك والنّرْنر”، وعندما أصبح شيخاً كبيراً، كنتُ أسأله أن يحكي لنا قصّة “الكمكموك أو النّرنر” الَّتي كان يحكيها لنا أيام زمان! والطَّريف بالأمر كان يجيبني: أي كمكموك وأي نرنر، هل كنتُ فعلاً أحكي لكم هاتين القصّتين؟!
أجل يا بابا، كنتَ تحكيها لنا، هل نسيت كيف كنتَ تحكي لنا قصة “الكمكموك” ونضحك بكلِّ سرور على طريقة سردها؟ ثمَّ كنتُ أستعرض له مقتطفات من القصّة، فكان يضحك هو الآخر قائلاً:فعلاً كنت أحكي لكم هذه القصة، لكنّي نسيتُ الكثير من تفاصيلها وأنتَ تتذكَّرها أكثر ممَّا أتذكَّرها أنا يا ابني!
العمر له حقّه يا بابا، كان يضحك وبكلِّ ببشاشة يجيبني: فعلاً العمر له حقّه. وهكذا يرحل الآباء والأحبّة وتبقى قصصهم محفورة في ذاكرتنا، كما تبقى ألعاب الطُّفولة متراقصة في مروج الذّاكرة إلى أمدٍ بعيد، ونستوحي منها الكثير من القصص والحكايات والقصائد وتدفُّقات مجنّحة نحو حفاوةِ الحوار!

13. تحدَّث عن أصدقاء الطُّفولة وما هي أبرز محطَّات الطُّفولة والصَّداقات؟

لأصدقاء الطّفولة مكانة مهمّة وكبيرة في استلهام الكثير من عوالم إبداعي وتشكيل شغفي العميق في حبِّ الموسيقى ووهج الحرف واللّون، وأعتبر أصدقاء الطُّفولة وألعاب تلك العوالم الرَّحبة، فضاءً مفتوحاً لتجلِّيات الخيال وصفوة ينابيع الإبداع، ولولا الطُّفولة بكلِّ حبورها ومعالمها وألعابها ورحابها الفسيحة، لما تبرعم في شهيقي مذاق أبجديات الحرف، فأنا مَدين كوني كاتباً وشاعراً وفنّاناً؛ لمحطّات الطُّفولة وما رافقها من صداقات مبلَّلة بذكريات شاهقة في انبعاث الحرف واللَّون، وتبدو لي واحات الطُّفولة كأنّها أحلام مفتوحة على فراديس النَّعيم، من حيث احتباكها مع شهوة الكتابة، فلولا معالم الطُّفولة المعرّشة في سهول القمح واخضرار الكروم وأزقّة مسقط الرَّأس بكلِّ مباهجها وألعابها وغناها؛ لما ظلَّ خيالي هائماً ومفتوحاً على طموحاتٍ متجدّدة نحو المزيد من العطاء والتَّحصيل الدِّراسي، وأجدني متشرِّباً من هذا الماء الزّلال الَّذي ظلَّ مرافقاً لكلِّ محطّات العمر، ويبدو أنَّ يفاعتي وشبابي وطموحاتي المتعاقبة بما يتعلّق بدراساتي، ثمَّ انكبابي على الكتابة نجمَ من ينابيع طفولتي البكر، وحملت الطُّفولة فوقَ أجنحتها اخضرار الحياة، وفضاءات مفتوحة على ضياءِ الأحلام، كأنّها نعمة متهاطلة من زرقة السَّماء فوق رهافة بوح الخيال!
تأثَّرتُ موسيقيّاً بجورج ابن خالي، حيث كان موهوباً في العزف على الطَّمبورة سماعيّاً، وأدهشني خياله الموسيقي وشغفه العميق للحصول على جمبش، ففيما كنّا نتحدّث عن الموسيقى وهو يعزف على طمبورته الَّتي صمّمها وصنعها بنفسه، وإذ به ينظر إلى تنجرتهم، قائلاً:لقد وجدتها وهو يضحكُ!
ماذا وجدتَ؟
وجدت التَّنجرة الَّتي ستحقِّق لي طموحي؛ لأنّني سأحوِّلها إلى جمبش.
ضحكتُ قائلاً: كيف ستحوِّل هذه التَّنجرة إلى جمبش؟
هذه التَّنجرة تحتاج إلى الجزء الرَّقيق من الكونتبلاك لواجهة التّنجرة، وإلى زند ومفاتيح، وبعدها نحتاج فقط إلى أوتار وممكن أن نشتريها من قريبك إيليا، وبعدها سيكون الجمبش جاهزاً.
معقول أن تحوِّل هذه التَّنجرة إلى جمبش بهذه السُّهولة؟
معقول جدّاً، لكنِّي أحتاج إلى تنجرة أخرى بدلاً عنها.
أجبته: يوجد تنجرتان عندنا، سآخذ التَّنجرة الصَّغيرة، وهي أصغر بقليل من تنجرتكم، سيبقى عندنا تنجرة وعندكم تنجرة، إلى أن ندبّر أمورنا ونشتري تناجر أخرى بدلاً عن التَّناجر الَّتي سطونا عليها!
ضحك جورج وقال: لو جبتَ تنجرتكم الصَّغيرة ستنقذنا ولو بشكل مؤقّت، ريثما نحل مشكلتنا الجمبشيّة.
ولا يهمّك، سأذهب حالاً. كانت زوجة خالي أم جورج خارج المنزل، وفيما كنت في طريقي للبيت ويبعد حوالي (10)دقائق ذهاباً وإياباً، وإذ بجورج ينقضُّ على تنجرتهم، ويقصّ حوافها من الأعلى، ثمَّ بدأ بترقيق نهاياتها ويشكّلها على نمط الجمبش، وصمَّم التَّنجرة فعلاً على شاكلة جمبش تماماً، استقبلني وهو يضحك: تفضَّل هذه تنجرتنا تمكَّنت أن آخذها دون علم أمِّي، ضحك جورج قائلاً:لا تقلق سنشتري قريباً جدّاً تنجرة أحسن منها لكم، وتنجرة أخرى لنا في أوّل حفلة موسيقية نقدّمها على أنغام الجمبش!
ضحكنا، وقلت: يارب ما تجي والدتك إلّا بعد أن تخفي معالم التّنجرة وتحوِّلها إلى جمبش.
قال جورج: لا تقلق، راحت أمِّي إلى بيت خالها ولن تعود إلّا بعد العصر، وسنكون على وشك الانتهاء من إعداد الجمبش، وبدأ جورج يحضّر الزّند وربطه بالتَّنجرة، بعد أن استعار جمبش عبدو علانة، وأخذ قياسات الجمبش والزّند، ثمَّ أعاد إليه جمبشه، وبدأ يصمِّم جمبشه الجديد، وخلال ساعات تمكّن أن يعدَّ الجمبش، وجربّ الوتر الأول مستخدماً أوتار الطَّمبورة، وكان يستخدمها من أسلاك الكهرباء الرَّفيعة، وبعد أن ركّب وترين بنفس النَّغمة، عزف على الوترين أغنية “روشي روشي روشني” على طريقة العزف على الطّمبورة، فأعطت النّغمة صحيحة، فقال: رائع، نجحت الفكرة، ولا ينقصنا سوى أوتار الجمبش!
وجَّهنا أنظارنا نحو محل قريبي إيليا وكان معي نصف ليرة، وجورج كان معه ربع ليرة، واستدنّا ما كان ينقصنا من بعض الأصدقاء واشترينا الأوتار، وبفرحٍ كبير عدنا إلى المنزل قبل قدوم زوجة خالي، وبدأ يركّب الأوتار، ويدوزن الجمبش على نغمة “شامومر”، الوتر الأول والثَّاني، والثَّالث يدوزنه على الثَّاني شامومر، وهكذا إلى أن يصل الوتر الأخير!
وبعد أن دوزنه، بدأ يعزف عليه. حقيقة اندهشت لبراعته في تصنيع الجمبش، وبراعته في العزف أيضاً، وفتح فتحات صغيرة عند نهايات التَّنجرة مثل فتحات الجمبش الأصلي؛ كي يصدر الصَّوت برنين جمبش، وبدأ يعزف الأغاني الَّتي كان يجيدها على الطّمبورة، مع أن مبدأ العزف على الجمبش يختلف جذرياً عن الطَّمبورة، مع هذا تمكّن أن يجد مكان النّغمات الموزّعة على الأوتار، ثمّ طلبت منه أن أجرّب العزف قليلاً، فعزفت على وترين بطريقة العزف على الطّمبورة، وتمكَّنتُ أن أعزف بعض الأغاني الَّتي كنت أجيدها على الطَّمبورة، وأعطاني فكرة عن توزيع النَّغمات على أوتار الجمبش، وشيئا فشيئاً بدأت أنا أيضاً بعد أيام قليلة أعزف بعض الأغاني السّهلة، مهارة بديعة كان لدى جورج، وقد قدّم بعد شهور حفلة خطبة حنّا ابن جارتهم صارة، وشاركته على الإيقاع وقبضنا آنذاك (25) ليرة سورية، اشترينا تنجرتين أفضل من تناجرنا بكثير، وأعطاني (5) ليرات سوريّة، كم شعر بالزّهو وهو يقبض (25) ليرة ثمرة إنتاج آلة موسيقيّة صنعها بيده، كانت منذ شهور تنجرة لا غير، .. لكن وللأسف الشَّديد وافته المنيّة في مقتبل العمر، وودّعته بحزن عميق، وأتذكّر جيداً أنني ألقيت عليه النّظرة الأخيرة، وقبّلته في تابوته، ووضعت ريشة الجمبش في يده وأنا أبكي بمرارة، … ولو ظلَّ حيّاً لكان من كبار العازفين الآن، الرّحمة لروحه، وكم من الأصدقاء تتلمذوا على يده وهم الآن من العازفين المهرة .. وتبقى الطّفولة منبعاً خصباً للذكريات بكلِّ أفراحها وأتراحها وتلاوينها، ستبقى على مدى الأيام منبعاً طافحاً بكلِّ أنواع العطاء!

14. كان الوالدان وإخوتك الكبار يبنون العرزيلة من القرّام والقصب والكرسبان والأعشاب البرّية كالسَّيّل والكاروش والحمحم والخطميّة، وتنامون عليها في صيف ديريك الجميل، ماذا بقي من عوالم العرزيلة؟

بقي من عوالم العرزيلة والعرازيل الكثير الكثير؛ لأنَّ النّوم على عرازيلنا، كان أجمل نومٍ نمته في الهواء الطَّلق على مدى سنين عمري. تسربلني نسائم اللَّيل الهفهافة.
يا إلهي، كم كنتُ أفرح في الأيام الأولى من بناء وتجهيز العرزيلة، حيث كنتُ بعد أن تفرش أمّي الفرشة أنطُّ عالياً وأدحرج نفسي وأقلب “عِنْطرُوس”، أي أضع رأسي على الفراش وأقلب على ظهري، كان يجنُّ جنوني من شدّة فرحي خلال الأيام الأولى من نومنا على العرزيلة. وكم كان طيّباً النَّوم على هفهفات هبوب نسيم الصَّيف من الغرب، وأجمل ما في العرزيلة أنّها كانت تتألّف من الأعشاب البرِّيّة حيث كان إخوتي وأخواتي يلمُّون القرّام والقصب من “چم” ديريك، نهر صغير ينبع من قرية عين العريضة “كاني پحني” ويسير من جهة غرب ديريك إلى أن يصل إلى أطراف شرق ديريك، متوجِّهاً نحو الشِّمال ثمَّ يصبُّ في سفان من جهة شمال ديريك، كما كنّا نلمُّ السّيِّل والكاروش والحمحم والخطميّة والخُشِّيلة وغيرها من الأعشاب والنَّباتات البرّيّة، وأحياناً كنّا نستخدم الكرسبان/ أغصان الدّاليات المجفَّفَة لأرضيّة العرزيلة، وكانت رائحة الأعشاب والنَّباتات تملأ الحوش برائحة اخضرار الطَّبيعة، كنت أشعر وكأنَّني أنام بين أحضان الطّبيعة، كان يغمرني فرحٌ عميق في اللَّيالي القمراء وأنا أنام فوق كل هذا البهاء الطَّبيعي، سارحاً في أحلامي، وأنا أسترخي على ظهري، وأغطِّي نفسي حتّى أكتافي، وأنظر إلى السَّماء المتلألئة بالنُّجوم. كم كانت النُّجوم بديعة وقريبة إلي، وكم كنت أفرح عندما أجد نجمةً تخرُّ، وأحياناً أرى طائرة تسير في الفضاء، بوميضها المتلألئ، سماء ديريك كانت أجمل بكثير في ليالي الصَّيف من سماء السُّويد، هناك كانت النّجوم قريبة إلينا، تناجينا، تهدهد أرواحنا. هنا لا نرى النُّجوم متلألئة بتلك الكثافة الَّتي كنَّا نراها هناك، وكم كنت أفرح وأنا في قمة انتعاشي أسمع نقرات “عبدو علانة” وهو يعزف على جمبشه ويغنِّي أجمل الأغاني الكرديّة في ليالي حفلات الزّفاف في أوَّل المساء، ويغنّي بصوته الرّخيم: “ورا ورا أسمر خان ورا ورا ستو مرجان، وازي بتارَڤينِم ببم آشي علي خان”! ثم يصدح صوته يغنِّي: “ناريني هاي ناري هاي ناري هاي ناري، عوليا باڤو بليندا دالالي”! .. ويقدِّم على دندنات هدوء اللَّيل مجموعة من الأغاني المحبّبة إلي قلبي، وسرعان ما كنت أنهض من فراشي وأرتدي لباسي متوجِّهاً نحو جهةِ الصَّوتِ، وأشاهد حفلات الزّفاف بمتعة غامرة، يرقص الشّبان والصَّبايا دبكات خانمان وهلاية ودبكة هزّ الكتف/ العادي وغيرها من الدَّبكات الجميلة، شغفٌ عميق كان يجذبني إلى الرّقص منذ الطُّفولة، فتعلّمته عندما كنت في أوَّل يفاعتي، كم كنّا نتمتّع في مشاهدة حفلات الزّفاف ونسمع أغاني “عبدو علانة” و”كمچاية أكرمو وحسينو”، ثمَّ لاحقاً بدأنا نسمع كمان إيليا وعود موسى إيليا، ثمَّ برز عازف العود والجمبش جوزيف إيليا، نسمع أغاني ماردلِّية وسريانيّة للعديد من المطربين السّريان، إضافة للأغاني الكرديّة الّتي كانت تملأ أرواحنا بهجةً وحبوراً، حنانٌ عميق يجرفني إلى تلك اللَّيالي القمراء وأنا أسمع أجمل أغاني حفلات الزَّفاف البديعة، مسترخياً فوق عرزيلتنا ونسيم اللَّيل ينعش قلبي، ويهدهدُ أحلامي الغافية بين أحضان الفرح!

15. كيف كنتَ تتواصل مع تلألؤات النّجوم على هفهفات نسيم اللَّيل وأنت مسترخٍ فوق العرازيل في اللَّيالي القمراء؟

كنتُ أتواصل مع النّجوم بكلِّ بهائها وتلألؤاتها، كأنَّ النّجوم أصدقائي وصديقاتي وأسرتي الكبيرة منذ زمنٍ بعيد، جمالٌ مبهج للقلب يوشّح مساءاتي، كلّما غفا اللِّيل بين سطوع أحضانِ النّجوم، حالة رهيفة ربطتني في فضاء النُّجوم المعرّشة في مآقي السّماء، ما هذه العلاقة الدَّافئة الَّتي توّجتني مع نور الأعالي؟ أشبه ما تكون علاقة ابتهاليّة مبهجة للروح والقلب، حيث كان ضياء النّجوم يقدّم لي راحة وفرحاً عميقاً، كم كانت النّجوم تبهجني، كأنّها تناجيني وتتحدّث معي، تبتسم لي، تهمس لي عن أسرارِ تجلِّيات سموِّ السّماء، وتبثُّ لي عن عوالمها الشَّفيفة من خلالِ ضيائها المنساب على وجه الدّنيا، تبوح عن أشواقها لمَن يفتح لها صدره بحميميّة شاهقة، وكأنّنا في حالة عشقيّة منذ أن تشكّلنا فوق طينِ الحياة.
كم مرّة سهرتُ بكلِّ ارتياحٍ معَ تلألؤات النّجوم، والرّوح في أبهى تجلِّياتها وهي تناغي روعة النّجوم وهي تتراقص ألقاً في قبّة السّماء، حفظتُ مواضع النّجوم وكأنّ للنجوم بيوتاً ومنازل وساحات وحقولاً وبساتين مكلَّلة بالضّياء والنُّور في أسمى تيجانِ البهاء، تطلُّ علينا من أعلى الأعالي، أبتسم للنجوم كما أبتسم للأصدقاء والصّديقات، عالم فريد وبهي وساطع بالنّور والبركات، أحياناً كنتُ أتمعّن في نجمة مضيئة ساطعة بهيّة رهيفة، فينبلج أمامي وجه صبيّة في غاية الجمال. أجل، كنت أشعر في قرارة نفسي وكأنّي أرى وجه صبية من أجمل جميلات الكون، أليست الصَّبية الجميلة الرَّهيفة البهيّة هي تلك الفتاة الّتي يشعُّ من وجهها نورٌ ساطعٌ من خلال طلّتها المصونة المبهجة للقلب، النُّجوم كائنات متوّجة بنور الحياة، انبثقت من شهقات السّماء في ليلةٍ مبلَّلة بحبور النَّعيم، لأنّها حالة انبعاثٌ من هلالات النّعيم!

16. كيف تقارن ليالي صيف ديريك، وأنت تنام على سطوح المنازل أو فوق العرازيل وتتواصل مع تلألؤات النّجوم وسطوع القمر مقارنة بصيف السُّويد وأنت تنام داخل المنزل على مرِّ كل الفصول؟

لا يوجد أي وجه للمقارنة، كمَن يقارن في هذا السِّياق ما بين الأرض والسَّماء. كم من الأشياء والمرامي الجميلة نمتلكها ولا نعرف قيمتها، كم من الأصدقاء والصَّديقات والأهل والمعارف لا نعرف قيمتهم إلّا بعد رحيلهم، كم من الذّكريات والمواقف والمنعطفات البديعة في حياتنا لا نعرف أهمِّيتها إلّا بعد أن تبقى في تجاويف الذَّاكرة، كم من الهدوء والسَّكينة والخيال والفكر والشِّعر والحفاوة والخبرة والتَّجلِّيات الرَّهيفة نعيشها ونعايشها ولا نعرف أهمِّيتها إلَّا بعد رحيلها أو زوالها، أو بعد أن تقبع في جعبة النّسيان، أو في منعرجات الذّاكرة البعيدة، كم من التَّساؤلات تخطر على بالي؛ كي أصيغ منها ألفَ سؤالٍ وسؤالاً؟!
لا مقارنة على الإطلاق؛ لأنَّ لا نجوم هنا ساطعة ومتلألئة كما كانت نجوم الشَّرق وديريك تتلألأ في قبّة السَّماء، كأنّها تعايش ليلنا وأحلامنا، حتّى ولو نمنا هنا في ليالي الصّيف في العراء، لا أرى نجوماً باسمة هنا في أحضان الأعالي، ولكن استعاضت لنا السّماء بنجوم بشرية جميلة يخفق لها القلب، كم من البهاء والجمال وألق الحياة، ينبعث من نجيماتٍ من نكهة الحلم الغافي بين تلافيف خيوط الحنين، كأنّهنَّ محبوكات من تلألؤات نجوم السَّماء؟!
يوماً بعد يوم أكتشف أنَّنا نحن البشر نمتلك أغلب الأحيان ما هو أغلى من ذهب العالم، وياقوت وألماس العالم ولا ندري. ديريك آهٍ يا ديريك، كم أراك بسمةَ وردة مبرعمة باخضرار دائم فوق خميلة الرُّوح، في اللَّيالي القمراء، وفي قيظ الظَّهيرة من أيّام الصَّيف، وفي عزِّ الشِّتاء، وفي صباحات الخريف والأوراق تداعبها نسائم الصَّباح، وفي أوائل الرَّبيع والطَّبيعة تلبس حللها؛ كي تستقبل الكائنات بأجمل ما منحته السَّماء لبني البشر، مع هذا عبرنا البحار؛ بحثاً عن الإبداع أو الخبز المقمّر، وهل هناك خبزٌ مقمّرٌ يضاهي خبز أمّي الَّذي كانت تقمّره على جمرات تنّورنا في البيت العتيق؟ وهل عثرتُ بعد عقودٍ من الزّمان على أبجديات الإبداع في سماء غربةٍ مفتوحة على متاهات الحياة؟ أليس جلَّ إبداعي مستوحى من معالم الشّرق، من نجيمات الصَّباح في ليالي ديريك القمراء، من أحداث وبهاء الشَّرق؟ أليست قصصي وأشعاري وحفاوة حواري وبهاء لوني وحرفي مستوحى من رحاب الذَّاكرة البعيدة، المبرعمة في روحي وكياني منذ أن تشكَّلتُ في أحشاء أمِّي، ثمَّ ترعرتُ قامةً مفهرسةً بشهقات البكاء؟ أليست تجلّيات حرفي مسكونة ومنبعثة من دفء الشَّرق ومعالم ديريك وأحضان البيادر وسهول القمح وعناقيد العنب واخضرار الدَّاليات؟ أليست روحي منبعثة من لجين بوح القصائد قبل أن أعبر وجه الدُّنيا، منذ أن كانت شهقةً مندلقةً من مآقي السَّماء؟ هل أنا أنا، أم أنّاتٌ أخرى مسربلة بأنين الحياة المتفاقمة هناك منذ أن زرعنا الدَّاليات في طور عبدين، وحصدنا الحنطة على أنغام تراتيل منبعثة من رنين النَّواقيس، ثمَّ تهنا على وجه الدّنيا كأسراب الطُّيورِ؛ بحثاً عن أغصانٍ عالية كي نبني أعشاشنا بعيداً عن تربُّصات قنّاصي هذا الزَّمان، وفراراً مريراً ممَّا أنهكتنا سهام القنص على امتدادِ كلّ الأزمنة الغابرة، الملفَّحة بكلِّ أنواعِ الشّقاء؟!
سأبقى أحلم وأنسج وأرسم نجيمات الصَّباح المتلألئة هناك، طالما لا تبدو النّجوم ساطعةً هنا بالبهاء نفسه، مستمدّاً من تلألؤاتها ضياء حرفي ولوني، حتّى ولو نمتُ في أعماقِ كهوفٍ وأقبيةٍ منسيّة، طالما أحملُ فوقَ أجنحتي من ضياءِ ونورِ الشَّرقِ خميرةً تبلسمُ شموخَ حرفي ولوني وأنا في أوجِ تجلِّياتِ حنينِ الاشتعال!

17. كيف كنتَ تستقبل أغاني عبدو علانة الشَّجيّة في حفلات الزَّفاف وهو يغنّي ويعزف على جمبشه؟

الفنّان عبدو علانة من الفنّانين الكرد الَّذين كان لهم الأثر الكبير في زرع بهاء وحميميّة الأغنية الكرديّة في عوالمي، خاصّة؛ لأنّني أجيد الكرديّة الكرمانجيّة بطلاقة، وهذا ساعدني على تعميق تلقِّي روعة الأغاني وألحانها ومعانيها، وبالتّالي قادني إلى عزفها وأدائها، حيث أنّني تمكّنت في بداية صباي ويفاعتي أن أعزف على الطّمبورة قليلاً وسرعان ما استهواني العزف على العود والجمبش وقطعت شوطاً طيّباً في تعلّم الكثير من الأغاني الكرديّة بشكلٍ سماعي، بعيداً عن عوالم النّوطة والصُّولفيج الغنائي، وقد كانت الموسيقى والأغاني الكرديّة هي الدَّارجة أكثر من بقيّة أنواع الموسيقى والغناء في بداية السّتِّينيّات والسَّبعينيّات، جنباً إلى جنب مع ظهور الأغنية الماردلّيّة والسّريانيّة، وقد وصلتنا الأغاني الماردلّيّة من ربوع القامشلي، وغنّاها المطربون السّريان، لكن ما جذبني في البداية لأغاني الفنّان عبدو علانة هو إيقاعها الرّاقص ومضامينها، وقدرتي على استيعابها وفهمها وعزفها وغنائها، كلّ هذا جعلني أتواصل مع أغانيه خلال حفلات الزّفاف والمناسبات، وقد كان لابن خالي الرّاحل جورج يعقوب الرَّديف الفضل الأكبر في تعلُّم العزف على كل الآلات؛ ابتداءً من الطّمبورة/البزق والعود والجمبش كما أشرت في جواب سابق، وبعد أن قطعتُ شوطاً في الاستماع إلى الأغنية الكرديّة، والماردلِّيّة والسّريانيّة، توقّفت مليّاً عند تجربة الفنَّان المبدع حبيب موسى، ملك الأغنية السِّريانيّة في العالم، ولنا عودة عبر فضاءات الحوار للحديث عن تجربة هذا المبدع الرّاقي على مدى عطاءاته الفنِّيّة وألحانه المدهشة ابتداءً من شامومر ومروراً بكلِّ أغانيه الّتي حقَّقتْ نجاحاً باهراً لم يقدّمها مطربٌ سريانيٌّعلى امتداد عقود من الزِّمان!
ومع مرور الوقت، توقّفتُ، بالنّسبة للأغنية الكرديّة، عند تجربة الفنّان المبدع الرّاحل محمّد شيخو الَّذي امتلكَ صوتاً حنوناً عميقاً شجيّاً رخيماً، وأحببتُ أغانيه حبّاً عميقاً، وظلَّ عبدو علّانة رغم حبِّي العميق لأغانيه، في مرتبة ثانية أو ثالثة فيما يخصُّ مكانة محمَّد شيخو، وكم كنت مغرماً في أغنيته: “هيلا كُلي كُلا مني، شيرينة لبر دلي مني، كلي مني نادم دني، أز سر كلي تيم كشتني، …” وقدّ عزفت هذه الأغنية وأغنية “آي كوري” مراراً أمام الكثير من الفنّانين والمطربين الكرد وغير الكرد، وكانوا مندهشين من الإحساس العميق الَّذي أؤدِّيه عزفاً وغناءً من دون استخدام مايكروفونات أو أجهزة تجميل وتنقية الصّوت، وقد عزفتها مع مجموعة أغاني أخرى لمحمّد شيخو في عيد نيروز في صالة “سولنا هالّن” إحدى ضواحي ستوكهولم، أمام أكثر من ألفيّ مشاهد وأمام عدسة “ميد تيفي” في عام (1998) في ستوكهولم، ولهذه المشاركة قصّة طريفة ألخّصها بأنّي كنتُ مدعواً كضيف شرف لتقديم أغنية أو أغنيتين لمحمّد شيخو عبر الاستراحة بين فقرة شيڤان بيرور وفنّان آخر، لكنّ شيڤان ظلّ في ألمانيا، وقدَّمَ برنامجه في عيد نيروز هناك، واتّصل مع عريف الحفل في ستوكهولم وبلّغه بأنّني سأحضر الحفل كضيف شرف بدعوة منه ــ أي من شيڤان ــ فلا بأس أن يسندوا إليّ الوقت المخصّص لشيڤان، إضافة إلى بضع دقائق من وقتي المخصّص كضيف شرف، وهكذا صعدت إلى المسرح برفقتي ضابط الإيقاع البرازيلي الفنّان “نينو”، وقدّمت خلال الوقت المخصّص لشيڤان مقتطفات من أغاني محمّد شيخو وبعض الأغاني الفولكلوريّة الكرديّة على مدى (40) دقيقة، والطَّريف بالأمر أنَّ عريف الحفل قدّمني مطرباً كرديّاً، فضحكتُ في عبّي بكلِّ براءتي وعفويّتي، ها هو صبري يوسف الأديب السُّوري السّرياني، يقدّمه عريف الحفل مطرباً كرديَّاً!، .. ومع أنّني كنت قد قطعت شوطاً في هذا المسار الفنّي، لكن الموسيقى والغناء ما كانا هدفي على الإطلاق، ومنذ البداية طرحت نفسي هاوياً، في مجال الغناء والموسيقى، وماأزال هاوياً من العيار الخفيف؛ لأنَّني أجد نفسي مجنّحاً في مجال الحرف، في مجال الكتابة فلا شيء على وجه الدُّنيا يشفي غليلي لا الموسيقى والغناء ولا حتّى الرّسم بقدر ما تشفي الكتابة عوالمي وطموحي وشغفي في الإبداع؛ لأنّ الكتابة وحدَها قادرة على ترجمة مكنونات مشاعري وما يعتريني من تجلّيات، واللُّغة هي الوحيدة القادرة على ترجمة الكثير من هواجسي وتطلُّعاتي وأحلامي وأهدافي وآفاق فكري في الحياة، وأما ما تبقّى من اهتمامات إبداعيّة وفنِّيّة فتأتي بعد الكتابة، وقد جاءت الموسيقى والغناء بعد الرّسم بكثير، ونظراً لأنّني أحبُّ الموسيقى وأستمع إلى الموسيقى بإحساس غامر وبرهافةٍ وشغفٍ عميق؛ لهذا استوحيت من خلال استماعي لأغاني فيروز على مدى عقودٍ من الزّمان نصاً شعرياً حمل عنوان: “فيروز صديقة براري الرُّوح”، وهو الجزء الثَّامن من أنشودة الحياة، وتمَّت ترجمته ضمن المجلّد الأوَّل بأجزائه العشرة إلى اللّغة الإنكليزيّة عبر دار نشر صافي للترجمة والنَّشر والتَّوزيع في واشنطن (2016)، ترجمة الهندوراسي سلمان كُريمون، كما أنّني كتبت الكثير من النُّصوص من وحي استماعي لموسيقى الفنّانين: منير، وجميل بشر، وعمر بشير، ومن وحي استماعي إلى أغاني الفنّانة المبدعة جاهدة وهبة، وموسيقى وعزف الفنّان نصير شمّة، وهناك الكثير من المشاريع الّتي أدرجتها في جدول أعمالي فيما يخص استلهام نصوص إبداعيّة من وحي الاستماع للموسيقى، وأخطّط لها بهدوء للمرحلة القادمة، وهكذا كان للفنّان عبدو علانة تأثير بديع على تشكيلي الموسيقى وشغفي للموسيقى والغناء، إضافة للفنّان محمّد شيخو، ومحمّد عارف جزراوي، وعيسى برواري، وتحسين طه، ورفعت داري، وشيڤان بيرور، وجوان حاجو، والعديد من الفنّانين الكرد والقائمة طويلة من الفنَّانين السّريان والعرب والفرس والغربيِّين، إلى أن أصبحت الموسيقى إحدى الرَّوافد الشّاهقة الَّتي أستلهم من فضاءاتها نصوصاً من أشهى تجلِّيات الإبداع!

18. كيف كانت موسيقى آل إيليا وأغاني المطربين الماردلِّيّة والسِّريانيّة تنساب إلى مسامعك؟

كانت موسيقى آل إيليّا وتحديداً كمان العازف المبدع الرّاحل إيليّا إيليّا أنغاماً شهيّة، تنساب إلى معالمي بفرحٍ وبهجةٍ عميقة، حيث تشكّلت فرقة إيليّا وانضمَّ إليها الفنّان عازف العود والجمبش موسى إيليا وعازف الكمان والعود فريد إيليا، ومنير معجون، ثمّ برز بشكل مدهش جوزيف إيليّا بريشته اليسراويّة، يمسك العود والجمبش بأوتار مقلوبة، مع هذا يعزف بطريقة مبهرة، تدهشكَ ريشته المتألِّقة، فقد امتلك ريشةً تأخذك رهافة عزفه إلى مطارح شاهقة، وكأنّه في حالة تجلِّيات موصولة عبر إنسيابيّة ريشته معتمداً على أذنه الموسيقيّة ليس إلَّا، حيث ما كان يعتمد على النّوطة نهائيّاً، فكانت نوطته أذنه الرَّهيفة، لِمَ لا؟ أنّه سليلة الفنِّ والفنّانين، ابن ايليا عازف الكمان الأوَّل في ديريك ومؤسّس الموسيقى في زمنٍ ما كنّا في حينها قد شاهدنا آلة الكمان، معتمداً على أذنه الموسيقيّة أيضاً، ثمَّ ظهر الكثير من العازفين في تلك المرحلة أمثال: عازف الكمان عيسى شني، وعازف الأوكورديون والأورغ بهيج استيفو، ثم تخصَّص كابي ايليّا إيليّا في الموسيقى وأصبح عازفاً على الأوكورديون والعود يعزف على النُّوطة، ويدرّس النُّوطة، ويلحّن أجمل الألحان، وهكذا تطوَّرت الموسيقى رويداً رويداً، وظهر فنَّانون جدد ومطربون، وحقَّقوا حضوراً متميّزاً يعزفون الأغاني الماردليّة والسّريانيّة والأغاني السّورية الشّعبيّة المنتشرة على السَّاحة السُّوريّة وبعض الأغاني اللّبنانيّة، وغيرها من الأغاني، إلى أن أصبحت الفرق الموسيقيّة السِّريانيّة والماردليّة والكرديّة في ديريك تحقِّق حضوراً متميّزاً، حيث شاركَ الفنّان موسى إيليا عازف العود والجمبش في الفرقة الّتي سجّلت أوَّل أغنية سريانيّة شامومر الّتي غنّاها الفنّان المبدع حبيب موسى، ملك الأغنية السِّريانيّة ومؤسّس انطلاقتها وتوالت الأغاني الّتي قدّمها الفنّان حبيب موسى، وحقَّقَ حضوراً غير مسبوق في الأغنية السِّريانيّة عبر رحلته الفسيحة في التَّلحين والغناء، وقد حضرت له الكثير من الكونسيرتات والحفلات، وفيما كنت أستمع إلى كونسيرت للفنّان حبيب موسى عبر فضائية (صورويو تي في)، وُلِدَت تدفُّقات النّص التّالي:
“جاءني الصَّوت رخيماً عبر الهاتف، حبيب موسى ونغم موسى على فضائيّة (صورويو تي في) بعد قليل، كونسيرت هولندة. أجبتُ شكراً، وأغلقتُ الهاتف لتهيئة نفسي لمشاهدة الكونسيرت!
تربَّع الفنَّان حبيب موسى ملك الأغنية السّريانيّة في العالم على خشبة مسرح كنيسة هولنديّة (خروتي كيرك) أي الكنيسة الكبيرة عبر المهرجان السَّنوي لموسيقى الشَّرق الأوسط، لتقديم كونسيرت رائع، تشاركه الفنّانة نغم موسى، بإشراف وإعداد كورال مار أفرام التّابع لنادي بيت نهرين الآثوري في مدينة انشخيده، والَّذي أسَّسه وأشرف على تدريبه الموسيقار الكبير ألياس موساكي.
يبدو مسرح الكنيسة للمشاهد كأنّه معبَّقٌ ببخور الأزمنة الغابرة، وكأنَّ ألحان مار أفرام السّرياني كانت منبعثة من تجلِّيات وشموخ كنائس كهذه، ضاربة جذورها في أعماق التّاريخ. كم كانوا على صواب أصحاب الدَّعوة الّذين دعوا حبيب موسى إلى مكان يشمخ هدوءاً وشموخاً؛ كي يصدح الفنَّان في قداسة المكان، ويطلق العنان لصوته الشَّجيِّ المتعطِّش لهياكل ومسارح الأديرة القديمة، وقد بدا لي حبيب موسى كأنَّه يحلِّق عالياً كنسرٍ جامح فوق مرتفعات جبل جودي، متوجّهاً نحو قمَّة آرارات، وكأنّه في سفينة مماثلة لسفينة نوح في انتظار حمامة السَّلام، بعد أن تفاقمَ في كنفِ الأوطانِ هدير الطَّوفان!
تألَّقَ الفنَّان وتوهَّجَ ابتهالاً، كأنَّه يرتِّل تراتيل كنسيَّة في مزارِ مار كبرئيل، أو دير الزَّعفران، أو كنيسة راسخة فوق مرتفعات صخور معلولا المعرّشة في أجنحة التَّاريخ في أوجِ العصور الذَّهبية للسريان.
أيُّها السّريان، هل ترونَ ما أراه الآن، هل تسمعون تجلِّيات صديق الأصدقاء الملفونو حبيب موسى، وخلفه يشمخ تمثالان لقدِّيسين كأنَّهما يشهدان على بلوغ أحفاد جلجامش إلى مسارح الخلود؟!
ارتعش جسمي من وهجِ التَّواصل مع حفاوةِ أصالةِ الصَّوتِ والمكان، وخرّت من عيني دمعتان: دمعةُ فرحٍ، ودمعة تساؤلٍ على خلخلاتِ أجنحةِ أوَّل حضارة انبلجت على وجه الدُّنيا، تتهاوى في وادي الرَّافدين، في سهول بيت نهرين بين أنياب مجانين وحيتان هذا الزَّمان، وتتالت التَّساؤلات في أعماقِ الجراح الغائرة وصوت حبيب موسى يمسح الأسى المرسوم على شفير الحزن المتفاقم على مسارات غربتي وغربة ملايين الأحبّة التَّائهين في انشطارات مسارات غربة الرُّوح اللَّاهثة في سماءٍ من بكاء. آهٍ يا بكاء وألف آهٍ يا سماء!
ما كان يبدو الفنَّان حبيب موسى أحياناً مرتاحاً للموسيقى الَّتي كانت ترافقه، ومع هذا حلّق عالياً رغم بعض هفوات الموسيقى المرافقة، فانطلقَ بأصالته الغنائيّة البديعة، وكأنّه في نزهة دافئة في حدائق بابل المعلَّقة في شموخِ السَّماء، هل كانت الموسيقى حزينة لما آلَتْ إليه الأمور أم أنَّها كانت تعكس انتشار شراسة الطُّغيان، طغيان الأسى على مساحات حنين القلوب إلى صباحاتٍ تموجُ برنين النَّواقيس في بدايات نيسان؟!
حضر الكونسيرت رئيس بلدية أنشخيده، وأعضاء مجلس المدينة وعددٌ من أعضاء البرلمان الهولندي، وجمهور غفير من جالياتنا السّريانيّة الآشوريّة الكلدانيّة، كان الجمهور يصغي بفرحٍ عميق إلى روحانيّة الغناء، ويستمتع بروعةِ تجلِّياتِ الأداء والجوّ المهيب لهذا الصَّرح الرُّوحي الَّذي حلَّق فيه النَّورسُ عالياً، كأنّه في مواسم الحصاد الأخيرة يقطف الغلال الوفيرة، ثمّ قدَّم الموسيقي جوزيف جاجان رويداً رويداً أبهى ما لديه. فغنَّى حبيب موسى بطريقةٍ منعشة للقلب، كأنّه شهقة نيزكٍ مندلقٍ من بسمةِ السَّماء، رقصَتْ قلوب المشاهدين جذلى مع بهجةِ الألحان النَّابعة من ينابيع هياكل الأديرة القديمة.
نضحَ وجه الفنَّانة نغم موسى فرحاً وهي تغنِّي على أنغام الموسيقار ألياس موساكي ألحاناً عذبة، مدخلٌ يبهج القلب، رغم أنّي شعرت إيقاعاً أوبرالياً غريباً عن عوالم كنائسنا العامرة بألحانٍ لا تحصى، ومع هذا أطربني الأداء الذي سمعته، حيث غنَّت أغنية (لليانا) وأغنية (آنين شاميرام) الَّتي لحّنها والدها الموسيقار أدوار موسى، وكانت الأغنية موجّهة للبيت الأبيض، ولا أعلم كيف ستصل وكيف سيسمعها أعضاء البيت الأبيض، أم أنها مجرَّد رسالة على الهواء مباشرةً؟ وأطربني أداؤها أكثر عندما غنَّتِ الدويتو بمهارة طيّبة مع حبيب موسى، فجاءت انسيابيّة الألحان أكثر؛ لأنّها كانت من صميم موسيقانا السّريانيّة الأصيلة.
انطلاقة فرقة كورال مار أفرام كانت جميلة، وقد غنّى عارف يعقوب وجورج عبدو وأحلام بهنان وصلات رائعة من الألحان السّريانيّة الكنسيّة. أداء منسجم مع روعةِ المكان، ومرافقات نغم موسى في الآهات الأوبراليّة بين الحين والآخر، كانت موفَّقة وأعطاها مساحة مريحة في عفوّيةِ الانطلاق. وتدفَّقَ حبيب موسى مُحلِّقاً بصوته الأوبرالي في سماءِ الإبداع، وحاولت نغم بأقصى ما لديها أن تجاريه فانطلقا وكأنّهما في خضمِّ بوحِ الفرح.
لفتَ انتباهي المايسترو القدير ألياس موساكي وهو يتماوجُ متراقصاً مع الألحان الّتي كان يلملمها بإيقاع بديع وهو في قمّةِ الانسجام مع عوالم الغناء والأداء الأصيل؛ ممَّا ترك بسمات فرحيّة على محيّا نغم موسى وهو يتراقص بابتهاج عميق. كان حبيب موسى يتجّنبُ النَّظر إلى حفاوةِ الرّقصِ؛ لئلا ينخرط بعفويّة فرحيّة هو الآخر مع إيقاع رقص المايسترو، فنظر إلى الطَّرف الآخر؛ تفادياً من مجاراته في الرّقص، ولكن عزيزنا الموسيقار لم يكترث لما كان يجول في خاطر حبيب موسى، بل ازدادَ(استهاجاً) ورقصاً، وكأنّه في إيقاع سيمفوني فريد، فلِمَ لا يتراقص بجنونٍ فرحي، شأنّه شأن مايستروات السِّيمفونيَّات العالميّة، فهل سيمفونيّات العالم أكثر بهجة وانتعاشاً ممَّا نراه؟!
انتعشتُ فرحاً وأسدلتُ ستائري، عفواً ستائري دائماً منسدلة وجاهزٌ للرقص عندما يحين الأوان، وحان الأوان فنهضتُ أرقصُ بفرحٍ كبير، وكأنّي في منافسة عارمة مع عزيزنا موساكي، موسيقى راقية وغناء أصيل ينعش القلب، رقصتُ بطريقةٍ فرحيّة باذخة، حفاظاً على رشاقتي في جموحاتي الرّقصية المعهودة!
رنَّ جرس الهاتف فلم أردّ؛ أنني كنتُ غائصاُ في عوالمي مع شاشة (صورويو تي في) الصَّغيرة، الَّتي أنعشت ليلتي، هذه الشَّاشة الَّتي نادراً ما تحرِّضني على الرّقص مثلما حرَّضتني هذا المساء، إلى مَن سنرفع شكوانا في إدارة (صورويو تي في)، إلى الملفونو العزيز يوسف بيت طورو؛ كي يطوّر قليلاً أو كثيراً البرامج الغنائيّة، بالتَّركيز على بثِّ المزيد من أغاني حبيب موسى ومايستروات على إيقاع موساكي ومَنْ ينحو منحاهما، لعلَّ وعسى نستطيع بين الحين والآخر أن نرقص بانتعاشٍ على إيقاع موسيقى وأغانٍ مبلَّلة بالفرح ومنسابة مثل مياه دجلة في أوج عناقها مع شهوةِ الغيوم؟!
أجاد عازف الأورغ جورج موساكي، وغطّى العثرات الَّتي رافقت أحياناً سير أداء الموسيقى. حبذا لو كانت الفرقة أكثر عدداً وأكثر مهارةً؛ كي تكون بمقام طاقات الملك المبرعمة بشموخ على خشبة المسرح، ومع هذا غمرني فرحٌ حقيقي وأنا أشاهدُ هذا الكونسيرت البديع، وأرَّقني السُّؤال، كيف فات ويفوت على بيت طورو ومَن تعاقبوا على إدارة فضائيَّاتنا على إغفال طاقات فنِّيّة أصيلة كهذه، تضاهي جموحات الأحصنة المندفعة نحو مروج بيت نهرين المعرّشة في عرين الإبداع، كيف فاتهم أن يحرموا الأحبّة المشاهدين بين حينٍ وآخر من متعة تألّقِ ملكِ الطَّربِ والأصالة والغناء؟ تساؤلات مفتوحة لمَنْ يهمّه الأمر.
كم يدهشني ويؤلمني أن لا أرى في عالمنا السّرياني فرقة سيمفونيّة خاصّة بأصالة باهرة كهذه الأصالة؛ كي نقدِّم ما لدينا من موسيقى وغناء سرياني طربي أصيل على أرقى مسارح العالم؛ وكي تتماوج فرحاً قلوب مايستروات العالم على إيقاع موسيقانا؛ وكي نؤكِّد للعالم أجمع أنَّنا أحفاد أولى أرقى الحضارات على وجهِ الدُّنيا، وورثة موسيقى مار أفرام السّرياني (البيت كازْ)، نعزفها ونغنِّي على إيقاعِ ألحانها بمهارات فائقة، هذه الموسيقى المنبعثة من بخور الأديرة المقمَّطة بأجنحةِ المحبَّة وأزاهيرِ السَّلامِ وأصالةِ إبداعِ السِّريان على مدى الأزمان!”.

19. هل تَعتَبِر الطُّفولة خزيناً غنيّاً حميميَّاً، تسهم في تعميق تجلِّيات الكتابة؟

بكلِّ تأكيد، الطُّفولة هي معين إبداعي زاخر بالعطاء لكلِّ مبدع حقيقي، هي صديقتي الأعمق في الحياة، أعتبرنفسي بمثابة طفلٍ يرفرف فوقَ فضاءات حرفي أينما حللتُ ورحلتُ، لا أستطيع الفكاك من طفولتي؛ لأنّها منبع رهافتي وإبداعي، منها أنهل أبهى تجلِّياتي، هي خصوبة خيالي المحبوك في آفاقِ الذّكريات، معرّشة في فضاء لوني وهدهدات مذاق انبعاث الحرف، لا يمكن أبداً لو حذفتُ طفولتي من عالمي، أن أتمكّنَ من كتابة نصوصي بهذه الرّحابة والفضاءات المتدفِّقة، لأنَّ الطّفولة تزوِّدني بينابيع رهيفة في صنوفِ الإبداع، فهي ينبوع ثرّ في العطاءات المتواصلة، تسهم كثيراً في تعميق وتجديد فضاءات الكتابة؛ لما في عوالمها من فسحات رحبة مكتنزة في تجاويف الذَّاكرة البعيدة، أستوحي منها وعبرها قصصي وأشعاري وتنبعثُ من ظلالها الدّافئة الكثير من رؤاي وأفكاري، وأنسج من خلالها وميض انبعاث الحرفِ، متوّجاً تفاصيل شهقات الإبداع من جموحاتِ الخيال، فالطُّفولة ومتاهات بوح الخيال يتعاضدان وينسابان معاً، وتولد النُّصوص من رحم الطُّفولة، وتترعرع في آفاق الخيال من خلال الاشتغال على معانقة ومواءَمة حيثيات الذّكريات المنبعثة من فضاءاتِ الذّاكرة البعيدة، أراني الطُّفولة والطُّفولة أنا، صنوان متجاذبان ومتعانقان في دقائق مسارات الحياة، أيُّ نصّ لا يحتبكُ في معالم الطُّفولة، يولد كأنّه من دون روح أو أجنحة محلّقة عالياً، وحدَها الطُّفولة تمنح نصوصي تحليقات مجنَّحة إلى أقصى رحاب الخيال، كأنّ الطُّفولة هي حالات انبعاث لتجلّيات الخيال في أوج تدفّقه وانبعاثه، يبدو أن الكاتب ينمو وتبقى الطُّفولة مرافقة لكلِّ محطَّات العمر، فهو كالطّفل الّذي لا يكبر كسائر الأطفال، ويبدو أيضاً أنَّ الكتابة تقتضي البراءة والصَّفاء والمحبّة والحنان والعفويّة وكل ما له علاقة بتدفُّقات الماء الزُّلال، لهذا تشترك معالم الكتابة بمعالم الطُّفولة، سواء انبثقت معالم الكتابة من الطُّفولة أو من محطَّات الطّفولة، حيث تولد بكلِّ عفويَّتها وانسيابيَّتها، كأنّها متهاطلة على الكاتب من شواطئ الطّفولة البكر، وكلّ هذا يقودنا إلى أنَّ الإبداع حالة إنسانيّة شفيفة شاهقة كشهقات صفاء الأطفال بكلِّ ما تعني كلمة الطّفولة من معنى، حتّى ولو كانت المشاعر الَّتي يترجمها الكاتب متأتِّية من طفولته وشبابه وكهولته وشيخوخته؛ أنَّ روحه طفوليّة ممتدّة رحيقها على كافّة مساحات ومراحل عمره، تبلسم فضاءَه الإبداعي وتنعش حرفه المندّى بألقِ الحياة، وتضيء ألوانه المتناثرة فوقَ أغصان الحنين، كأنّها بسمة منبعثة من خياله كإشراقة حبورِ الصَّباح!

20. كنت تهوى مع أصدقاء الطُّفولة عبور البراري، الكروم، بهاء الطَّبيعة، تلملمون “الحرشف والحمحم والشُّوقلّة وعين البقرة والپيژّكات والتُّولكة/الخبَّازة،” .. والكثير من الحشيشيَّات، تحدَّث عن هذه العوالم؟

هذه العوالم ظلَّت تحافظ على اخضرار مخيّلتي على مدى عقود من الزّمان، ترتسم أمامي براري ديريك بكلِّ روعتها وجمالها الخلّاب أيّام كنّا أطفالاً نجوب البراري الفسيحة، ونلملمُ الشّوقلّة من بين سهول القمح، وتكبر باقاتنا ونأكل حبيباتها الصَّغيرة بلذّة عميقة، تهبُّ علينا نسائم الرّبيع بكل هفهفاتها المنعشة، ونتمتّع بمشاهدة الكائنات الصَّغيرة: كالفراشات، و”الجرقز ومرقز”، والجراد بكلِّ أنواعه، كم كنت أحبُّ مشاهدة فراخ العصافير، والجراد الأخضر الكبير، وفرس الأمير وهي تسير بكلِّ بهائها وشموخها، عالم مليء بالجمال وأريج الأزاهير والأعشاب البرّيّة برائحتها الطّيّبة، وكم كنتُ أحبُّ الحرشف وخاصة الزّيغلانة، أي الحرشفة الصّغيرة فقد كانت لذيذة، وعندما كنتُ أشاهد مجموعة شيقان من “شوقلّة الشَّايك”، سرعان ما كنت ألملمها بفرحٍ طفولي، ثمَّ آكل حبيباتها الشَّهيّة، كأنّها نبتة الحياة الّتي تناولها جلجامش في رحلة بحثه عن الخلود.
أتذكَّر كيف كنَّا نعبر البراري بكلِّ حبورٍ وابتهاجٍ، كأنَّنا نملك بهاء الطّبيعة، وأصبحت الطَّبيعة صديقتنا الحميمة، وكأنّنا جزء متطاير منها، عالم مدهش بالجمال والرّوعة، لا نشبع من اللَّعب في أحضان الطّبيعة، وأحياناً كنّا على مساحة معيّنة من الأرض فيها الكثير من شيقان الپيژّكات، فكنّا نتسابق في لملمة الپيژّكات، ونعدّها ثمَّ نفتح وريقاتها الطَّريّة ونتناول طراوة ما في أوراقها، تذوب في أفواهنا ثمَّ نُيمِّم وجوهنا نحو “كڤري حارّو” بحثاً عن أرضٍ فسيحة من النّرجس البرِّي، وكان أريجها يفوح من بعيدٍ، ندخل الأرض الخضراء وهي مكلَّلة ببياض واصفرار النّرجس مع نضارة أغصانها وسيقانها الخضراء ممتدّة على مدى ابتهالِ البصر. جمالٌ خلَّاب يتعانق مع طفولة معبّقة بالمرح بين خدود الطّبيعة، ومكتنزة بأشهى أنواع الحشيشيّات: كالخبّازة، والنّعناع، والرّشّادة، والپيرقلّاچك، والــپـرپــارة والبقوليّات، وعين البقرة، وبطاطا الأرض. عالم زاخر بالعطاء والخيرات والفرح، كأنَّنا في فراديس حقول النَّعيم، تنفرش طفولتي بكلِّ رحابها البهيجة أمامي، فتطفح دموعي ألقاً وشوقاً إلى تلك الأيام البهيجة، وكم تراءت لي هذه الذّكريات في متاهات الأحلام وظلَّت محفورة ومنقوشة في ظلال الذَّاكرة، إلى أن جسّدتُ الكثير من معالمها فوق نصاعة الورق، تناغي أشعاري ونصوصي وقصصي وفصول عديدة من رواياتي المفعمة بحنين الرّوح إلى أشهى انبعاث الخيال في مسار ذكريات معرّشة في ظلال أرخبيلات القلب منذ أن تبرعمنا هناك بين نسيمات حبور الطَّبيعة وهي في أوجِ عطائها وتألّقها على مدى فصول الاخضرار ومناغاة فصول البركات على إيقاعِ رنينِ أجراسِالحنين.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.