المخرج أندريه كونتشالوفسكي خلال الحفل الختامي لمهرجان البندقية السينمائي الـ 77 في البندقية بإيطاليا (غيتي)
السينما الروسية والتاريخ: قراءة الحاضر بوقائع الماضي
كونتشالوفسكي يستدعي عصر خروشوف و”رفاقي الأعزاء” شارك في تصوير كثير من مشاهده جماهير نوفوتشيركاسك

سامي عمارة كاتب وصحافي 
الخميس 12 نوفمبر 2020م

يقيناً، ليست القصة مجرد سرد لأحداث فيلم روائي حاز العديد من الجوائز المحلية والعالمية وحسب، وقولاً واحداً ليست أيضاً استعراضاً لقدرات مخرج روسي عالمي ذي شهرة طاغية تعود كثير من جوانبها إلى نشأته وأخيه نيكيتا ميخالكوف في أسرة فنية ذات تاريخ يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الفني والثقافي للإمبراطورية الروسية، كما أنها ليست مجرد تسجيل لظاهرة يذيع انتشارها في روسيا اليوم، من خلال تكريس الأفلام الروائية وتقريب تناولها على النحو الذي يجعلها أقرب إلى الأفلام التسجيلية، وإنما هي كل ما تقدم ذكره مجتمعاً في فيلم “رفاقي الأعزاء” الذي نقف منه على مقربة، لنتلمّس بين ثناياه وأحداثه ومصائر أبطاله، تاريخ حقبة بالغة الأهمية في تاريخ الدولة السوفياتية.

بعض ملامح هذه الفترة وردت في حديث مخرج الفيلم وكاتب السيناريو أندريه أو أندرون كونتشالوفسكي – ميخالكوف، الحائز على العديد من الجوائز السينمائية العالمية، ومنها “السعفة الذهبية” لمهرجان كان، و”الأسد الذهبي” لمهرجان البندقية، وغيرهما الكثير من المهرجانات والجوائز.

“رفاقي الأعزاء”

كشف كونتشالوفسكي عن أن الكثير من أحداث فيلمه الجديد “رفاقي الأعزاء”، يعود إلى ما احتفظت به الذاكرة من أحداث خمسينيات القرن الماضي وستينياته، وهي التي ظلت قيد الكتمان والسرية عشرات السنين. قال إنه تذكر زيارة خاطفة لأحد أصدقائه الذي دعاه للخروج إلى الشارع ليسرّ إليه بخبر قال إنه “قنبلة”، وكان ذلك الخبر هو ما أعلنه نيكيتا خروشوف الزعيم السوفياتي حول أن “ستالين وغد”! هكذا مرة واحدة، وذلك ما شهد العالم تبعاته التي كشف عنها خروشوف في تقريره أمام المؤتمر الـ 20 للحزب الشيوعي، ودان فيه عبادة الفرد، وفضح كل ممارسات ستالين “الدموية”.

ومضى كونتشالوفسكي ليحكي ما احتفظت به الذاكرة من أحداث، ومنها انتفاضة بودابست وأحداث برلين، وبدء هجوم الإذاعات ومنها “صوت أميركا” و”الحرية”، وظهور التيارات التجديدية الحديثة، وما أسفرت عنه من تطورات، وما شهدته تلك الفترة من أحداث جسام، أنتقي واحداً منها وقعت تطوراته في مدينة نوفوتشيركاسوفسك جنوب روسيا، أحد معاقل عشائر القوزاق.

وكانت الفترة هي عهد خروشوف الذي اعتبره كثيرون آنذاك رمزاً للحرية والإصلاحات والتحرير، وعلى الرغم من عدم صحة المقارنة بين الحركة الإصلاحية التي بدأها خروشوف، وما أعلنه ميخائيل غورباتشوف من تغييرات وتحولات تحت شعار الـ “بيريسترويكا” والـ “غلاسنوست”، فإن هناك ما يجمع بين العهدين ويتمثل في الصحوة الفنية والإبداعية التي عصفت بمجتمع ذلك الزمان، وحرّكت كثيراً من مياهه الراكدة.

وبغض النظر عن عدم منطقية الحكم على الماضي بمعايير الحاضر، فإن ما أقدم عليه أندرون كونتشالوفسكي من استدعاء أحداث الماضي متمثلة في انتفاضة الخبز احتجاجاً على ارتفاع الأسعار وتدني الأجور في نوفوتشيركاسوفسك، خطوة بالغة الأهمية صوب تفهم وتدارك أخطاء الحاضر، وليس في روسيا وحدها. ولعل المشاهد وما إن تصافح عيناه أول مشاهد “رفاقي الأعزاء” إلا ويدرك كثيراً من التشابه بين أحداث نوفوتشيركاسك، وما شهده ميدان تيانانمن في الصين عام 1989، وما كادت تتحول إليه أحداث انتفاضة الخبز في يناير (كانون الثاني) عام 1977 في القاهرة ومختلف المدن المصرية.

والقصة هنا ليست في مجرد تشابه بين هذه الأحداث التي كثيراً ما تقع في أنحاء متباينة في مختلف بلدان العالم، سواء كان الأول أم الثالث، المتحضر منه أو المتخلف، كما أنها ليست في قرار إطلاق النار على المتظاهرين أو وقوع القتلى والمصابين، أو ما أعقب ويعقب ذلك عادة من حملات إعلامية سواء للتبرير أو الإدانة، بل هي أبعد من ذلك بكثير. ولعل مُشاهد الفيلم يدرك المغزى الحقيقي لما ورد فيه من أحداث، من منظور رؤية وتوجهات تلك الأسماء التي شاركت في الإخراج وكتابة السيناريو، والإنتاج عن مضمون توجهاتها وأصولها الطبقية، وإدراكها حقيقة أبعاد مثل تلك المآسي والكوارث التي عادة ما تعصف بأمن الوطن والمواطن في ذلك الحين وكل حين.

ولعله من الغريب في هذا الصدد أن يسقط المشاهد ومن دون أن يدري لدى متابعة أحداث “رفاقي الأعزاء” في شرك استدعاء ما يحدث اليوم في كثير من البلدان التي عاشت وعايشت أحداث ما يسمى بالثورات الملونة في الفضاء السوفياتي السابق، و”الربيع العربي” في بعض بلداننا العربية.

وما نقصده هنا يتلخص ليس فقط في الإسقاطات التي تشير إلى ضرورة التفكير في تحديد أسباب الانتفاضة أو الثورة أو الغضبة الجماهيرية، بغض النظر عن الاسم والمسميات، بل وأيضاً في إدراك وتدارك الأسباب التي تقف وراء مثل هذه التحركات، وفي مدى تفهم السلطة والحاكم مشروعية خروج الجماهير احتجاجاً أو إدانة أو سخطاً وغضباً، كما أنها أيضاً تتعلق باستيضاح مدى حصافة الحاكم وقدراته على قبول الاعتراف بأحقية الجماهير في التعبير عن غضبها، حتى وإن أخطأت تقدير اختيار الأسلوب المناسب، وما يجب أن يختاره من سبل وطرائق لاحتواء ومعالجة مثل هذه المواقف. ونذكر أن كونتشالوفسكي توقف في رائعته “رفاقي الاعزاء” عند مدى تباين الآراء في النسق الأعلى للسلطة تجاه أساليب معالجة مثل هذه المواقف، ومدى قدرات الحاكم على قبول الرأي الآخر، واختيار الأمثل لترجيحه وتبنيه لدى اتخاذ القرار.

ومن هذا المنظور نتحول إلى “رفاقي الأعزاء” لنقول إن فكرته التي طرحها كونتشالوفسكي على رجل الأعمال الملياردير علي شير عثمانوف الأوزبكي الأصل راقت قبوله، وهو الذي يدرك المعنى الحقيقي للدور الاجتماعي لرأس المال، ولسنا هنا بصدد الترويج لما يفعله مع اتحاد المبارزة الذي يموله ويترأسه، أو مع اتحاد الجمباز ومنتخب روسيا للسيدات الذي تدربه وتشرف عليه قرينته إيرينا فينر عثمانوفا، ولا مع فريق كرة القدم “أرسينال” البريطاني. ونكتفي فقط بالإشارة إلى تحمسه للفكرة بحسب اعتراف مخرج الفيلم.

أما عن أحداث هذا الفيلم فتعود إلى يونيو (حزيران) عام 1962، تاريخ اندلاع انتفاضة عمال مصانع مدينة نوفوتشيركاسك احتجاجاً على رفع أسعار الخبز والمواد الغذائية، في الوقت الذي تراجعت فيه أجور العمال، وهو ما رد عليه العمال بمجرد وقفات احتجاجية سرعان ما تحولت إلى إضراب خرج المشاركون فيه إلى الشارع يهتفون ضد السلطة، ويقتحمون مقر اللجنة المحلية للحزب الشيوعي، ويمزقون صور الزعيم السوفياتي خروشوف. أما عن رد الفعل، فقد تمثل وكعادة كثيرين من حكام ذلك الزمان، في مواجهة الانتفاضة بالقوة المسلحة وإطلاق الرصاص الحي الذي حصد أرواح العشرات، إلى جانب اعتقال عدد من قياداتها وإعدامهم رمياً بالرصاص من دون محاكمة أو تحقيق.

aaa.jpg

مشهد من فيلم “رفاقي الأعزاء” (من موقع الفيلم، الصورة خاضعة لحقوق الملكية الفكرية)

مؤيدة لإطلاق النار

وكان كونتشالوفسكي اختار لبطولة الفيلم امرأة في الأربعينات من العمر، سبق وشاركت في الحرب العالمية الثانية لتشغل بعد انتهاء الحرب واحداً من أهم المناصب الحزبية المحلية. كانت البطلة لودميلا سيومينا، التي لعبت دورها نجمة السينما الروسية الشهيرة يوليا فيسوتسكايا زوجة المخرج كونتشالوفسكي، المولودة في المدينة ذاتها التي وقعت بها أحداث الفيلم الروائي، شيوعية متعصبة، من عتاة المؤيدين لنظام ستالين، وممن أخلصوا له ولمبادئه حد الهوس والتطرف، مما دفعها إلى كراهية الحملات التي أطاحت ذكراه وشوهت إنجازاته ودوره في تطوير الدولة وبناء الحزب، وذلك كان في صدارة أسباب كراهيتها لخروشوف ورفاقه ممن وقفوا وراء الحملة المضادة لستالين، من دون النظر إلى أية إصلاحات أو تغييرات قام بها، وصارت عنواناً لستينيات القرن الماضي.

وانطلاقاً من صلابة شخصيتها وتصلبها حد التطرف، كانت بطلة الفيلم مؤيدة لإطلاق النار ضد المتظاهرين اعتقاداً من جانبها أنهم من الخارجين على القانون والمناوئين للسلطة والنظام.

لكن جوهر المأساة يتمثل في أن ابنتها البالغة من العمر 17 سنة كانت من بين هؤلاء المتظاهرين ممن حصدتهم نيران السلطة، وجرى نقلهم على عجل تحت جنح الظلام لدفنهم في مقابر جماعية جرى طمس معالمها، في أطراف المدينة من دون استيضاح لشخصية أو هوية، وفي ظل قيود أمنية حرمت أية إشارة إلى التظاهرات أو إعلان سبل التصدي لها.

وما بين أحداث ذلك العصر وأسباب الانتفاضة، وما تلا ذلك من أحداث دموية، ورحلة بحث بطلة الفيلم عن ابنتها بين أشلاء الضحايا، وما اعتصرها من مشاعر وعصف بها من ذكريات، تدور أحداث هذه القصة -المأساة، بوصفها ذروة التناقضات والمتناقضات التي تمثلت في أن “سلطة العمال هي التي تقوم بإزهاق أرواح العمال”.

مغزى ودلالات

ومن الطريف أن الفيلم استهل مشاهده باستيقاظ بطلة الفيلم، ومغادرتها فراش عشيقها، أمين أول اللجنة الحزبية، في إشارة ذات مغزى ودلالات غير أخلاقية، من جانب من يدعون إلى الصواب والاستقامة، في توقيت مواكب لاستيقاظ آلاف العمال وخروجهم إلى العمل على وقع أصداء النشيد الوطني للاتحاد السوفياتي السابق، أما الأكثر طرافة فيتلخص في أن كاتب كلمات هذا النشيد هو والد المخرج، الشاعر الراحل سيرجي ميخالكوف الذي اضطر، ونزولاً عند إرادة السلطة لاحقاً، إلى تغيير كلماته ثلاث مرات، الأولى لحذف اسم ستالين من النسخة الأولى، ثم اسم لينين من النسخة الثانية، وقام بتغيير كل كلمات النشيد مع الإبقاء على موسيقاه في المرة الثالثة!

وحول القصة وتفاصيلها يقول كونتشالوفسكي إنه اعتمد فيها على ما احتواه الأرشيف من مخطوطات وتسجيلات اجتماعات اللجنة الحزبية، فضلاً عن معايشة شهود عيان تلك الحقبة الذي كان شخصياً واحداً من معاصريها، وهو الذي ولد عام 1937. كما كشف المخرج والسيناريست والموسيقي عن أن الحنين يظل يراوده تجاه كثير من أحداث ذلك الماضي، وأن مسالة العلاقة بين الشعب والسلطة تظل تؤرقه بحثاً عن الحلول المثلى من وجهة نظره المفعمة بكثير من الحنين إلى أطياف ذلك الزمان.

كثير من الأسى

وبينما يتصور كثير من المراقبين والنقاد ظهور مثل هذا الفيلم عملاً معادياً للاتحاد السوفياتي السابق، واستدعاء لأكثر صفحات تاريخه دموية وإرهاباً، أعرب كونتشالوفسكي عن كثير من الأسى تجاه ضياع الاتحاد السوفياتي السابق، وهو ما سبق وأعرب عن مثيله الرئيس فلاديمير بوتين حين قال، “من لا يشعر بالأسف تجاه انهيار الاتحاد السوفياتي إنسان بلا قلب”، لكنه سرعان ما أعقب ذلك بقوله، “لكن من يريد استعادة ذلك الاتحاد السوفياتي، إنسان بلا عقل”.

وذلك ما أودع أندرون كونتشالوفسكي كثيراً من جوانبه وأطيافه رائعته “رفاقي الأعزاء”، التي جاء ظهورها مواكباً لأحداث مماثلة جرت وتجري في روسيا وفي غيرها من مختلف بلدان العالم، وإن اختلفت حدة المواجهة وأساليب السلطات في كل من هذه البلدان. ولعل ما شهدته بعض المدن الروسية من احتجاجات ومواجهات، وما جرى ويجري في بيلاروس وقيرغيزيا وأوكرانيا من أحداث يقول إن “رفاقي الأعزاء” ليس فيلماً روائياً وحسب، بل ويرقي حد الفيلم التسجيلي، وهو الذي شارك في تصوير كثير من مشاهده جماهير نوفوتشيركاسك مسقط رأس بطلة هذا الفيلم، حيث لا يزال يعيش هناك ليس فقط العديد من الأقارب والأصدقاء، بل وشهود عيان من معاصري أحداث تلك الحقبة الزمنية شديدة الأهمية وبالغة الدلالات.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.