واقعية بلا ضفاف: قراءة في كتاب قيس الزبيدي - eye on cinema

قراءة في كتاب: الثقافة السينمائية -مونوغرافيات- للسينمائي والباحث قيس الزبيدي

عصام الياسري

2-2

ويتابع أندريه فايدا في كتابه “الرؤية المزدوجة“ المراحل الأساس في عملية إنتاج الفيلم من ولادة الفكرة إلى السيناريو مروراً بالتصوير والمونتاج وحتى ليلة افتتاح، يجدها طقساً حزيناً، لأن الفيلم إذا نجح فسيأتيه بالمشكلات مع زملائه، وإذا لم ينجح فستنهال عليه أيضاً المشكلات. في حفل كهذا يتوقع المخرج حدوث كارثة.

وعبر ذات المظهر السياسي الصريح، سعى أنجيلوبولوس وتحت تأثير ماركس وفرويد أيضاً، إلى سبر الأوضاع الاجتماعية والسياسية، عبر تناوله لتلك الفترات التاريخية الهامة التي مرّت بها بلاده اليونان. ففي فيلم “الإسكندر الأعظم” وهو تأمل فلسفي- سياسي في مسألة السلطة ومعضلاتها يقول : “حاولت أن أصور مناضلاً من أجل الحرية ما إن يصل إلى السلطة حتى يتحول إلى طاغية مستبد! لم أكن أشير إلى مثال أو نموذج محدد، بل إلى خطر الفساد الذي يواجه كل شخص في السلطة”.

أما بالنسبة إلى تأثير الــ“ميزان سين” في السينما الذي أبتكر مكانه الخاص في لقطات كانت غالباً تستغرق عشر دقائق تقريباً، فيعترف ثيو أنجيلوبولوس بأنه مستنبط من أفلام أرسون ويلز، وبالتحديد من استخدامه اللقطة الطويلة وعمق المجال البؤري والمونتاج الداخلي ومن توظيف تلك العلاقة المتزامنة بين الزمان والمكان.

كان وسيط المخرج الشعري- حسب الناقد وولفرام شوت هو الزمن، الذي يتيح للمتفرج أن يخلق صوره الخاصة مما يعرض على الشاشة وحول هذا يقول أنجيلوبولوس “أريد من أفلامي أن تعطي المتفرج الإحساس بأنه ذكي ومتقّد الذهن، أن تساعده على فهم وجوده الخاص، أن تمنحه الأمل بمستقبل أفضل، أن تعلّمه كيف يحلم ثانيةً”.ويدعونا المخرج اليوناني أخيراً أن لا ننسى أن بعض الأفلام، التي تنجح تجارياً نجاحاً ساحقاً، سرعان ما تتعرّض للنسيان. بينما تترك أفلام أخرى، لا يشاهدها إلا جمهور قليل، بصمتها على تاريخ السينما. ولعل كتاب شابرول المترجم إلى الألمانية „كيف يصنع المرء فيلماً“، هو من أطرف ما يمكن أن يُقرأ، لأن آراءه مملوءة بالمعرفة والسخرية في آن: “يستطيع المرء أن يتعلم من أفلام الماضي ويشرحها انطلاقاً من العواطف وصولاً إلى التحليل، لكن من دون أن يقول: هكذا فقط تُصنع الأفلام، فلكل مخرج طريقة خاصة في التصوير، تختلف عن غيرها، والطريقة الصحيحة عند هذا المخرج، تكون خاطئة عند مخرج آخر، بالتالي لا يحق لنا أن نتحدث عن مدارس سينمائية. ويؤكد شابرول: “ما أردت قوله في هذا الكتاب، لا يصح إلا على طريقتي الخاصة في الإخراج”.الطريف ايضا أن يجد شابرول نوعان من المخرجين: الحكواتي والشاعري، الحكواتي يحكي حكاية، لا تعبر عن رؤية خاصة للعالم، ولا يريد أن يوصل خطاباً معيناً إلى المشاهد، إنه يريد فقط أن يجد الشكل السينمائي الجذاب للحكاية التي اختلقها غيره. أما الشاعري فعنده رؤية للعالم، وهاجسه أن يعبر عنها ويوصلها إلى المشاهد.

يتساءل الزبيدي في “مونوغرافيات”ـ كيف تصبح مخرجاً عظيماً؟ وضع أندرو ساريس في كتابه “السينما الأميركية” هرماً صنف فيه المخرجين الأميركيين إلى طبقات، وأطلق على الطبقة العليا “مجمع الآلهة“، وهي الطبقة التي انتمى إليها مخرجون عظام كغرفث وشابلن وأرسون ويلز وجون فورد و… والآن يأتي كين داسنغر بتصنيف مشابه للمخرجين، يضم مستويات ثلاثة: الأول: مخرج حرفي، متمكن من أدواته التقنية، يحقق نص الفيلم دون أية قراءة للمعاني المتضمنة فيه، وبالتالي لا يضيف عمقاً إلى معانيه أو مضمونه. والثاني: مخرج جيد يستخدم تفسيره للنص، ويضيف إلى معانيه معان، ليجعلها أكثر عمقاً، ويضفي على سرده تعقيده الواعي. والثالث: مخرج عظيم، يبحث عن معنى عميق متضمن في النص، يفسره بجرأة مدهشة، ويحقق تصوراً سينمائياً ، غير مألوف، يردفه بصوت بصري قوي ورؤية خاصة للعالم. 

يستكشف المؤلف ، بشكل مفصل ، أدوات الإخراج المهنية عند 14 من المخرجين المهمين ، ويبحث، بوضوح ، في كيفية استخدامها، وهدفه تقديم العون لمن هو محترف ليصبح مخرجاً جيداً ، ولمن هو جيد ليصبح مخرجاً عظيماً. ولا يستثني المؤلف الموهوبين الشباب ، بل يقدم ، أكثر ، لهم العون اللازم في تعلّم حرفة الإخراج.

تعرف الموسوعة الروسية المخرج أنه من يترأس المجموعة الفنية ويدرس المواد التاريخية أو المعاصرة ويوحِّد الجهود الإبداعية للفنيين، وينظم كل الأعمال. تبقى مسألة أنه “يَترأس” تَكمن في درجة المسؤولية والمواظبة والصحة والوضوح، وأنه “يَدرس” كيف تَكمن في كشف ما هو جديد في المادة ، وأنه “يُوحِّد” كيف يظهر الصدام بين المادة والحياة الخاصة وأنه “يُنظِم” كيف يتم صهر أفكار ومشاعر الناس غير المتشابهين في نوعياتهم النفسية. ويحاول كوزينتسيف أن يتعرف إلى رأي أربعة مخرجين حول جوهر فن السينما:

رأي الأول، إنه المونتاج إذ ينكشف العالم من خلال حدة نظر العدسة ويتفكك إلى صور منفردة “لقطات” ليَتحد منْ جديد على طاولة المونتاج. ورأي الثاني، إنه شاعرية التصوير الدينامي والشعور بالزمن والتيار الذي يمر عبر الصور. ورأي الثالث، إنه عالم الإنسان الروحي الذي تكشفه الشاشة وتجعل ما يحيط به مرئياً. أما رأي الرابع فإنه التغلب على تسطيح التصوير وتجاوز تسطيح الشاشة وإيجاد „الشاشة العميقة“. الطريف أن الأربعة هم شخص واحد هو المخرج السوفيتي غريغوري كوزينتسيف مؤلف كتاب „الشاشة العميقة“ الذي هو واحد من أفضل المخرجين الذين قدموا هاملت شكسبير في السينما، إلى جانب عمالقة آخرين، بلغت السينما معهم سن الرشد، أولهم، طبعاً، الإنجليزي لورانس أوليفييه.

في كتاب كاتانيان “ثمن العيد الخالد- نقرأ سيرة باراجانوف وحياته الخاصة: مذكرات عن أعماله، أحاديثه ونزواته، غرابة أطواره، إضافة إلى رسائله من السجن. في الرابعة والستين، سمح له، أول مرة، بالسفر إلى روتردام، كواحد من أفضل عشرين مخرجاً في العالم، للمشاركة في احتفال 1988 “أمل القرن الحادي والعشرين”. وبدأ بعدئذٍ ينتقل من بلد إلى آخر، يتلقى الجوائز وتنهال عليه عروض العمل في أوربا وهوليوود (إنهم يجعلونني قرداً مروّضاً، لا أحب هذه الفنادق الضخمة ولا أعرف أن أقوم بفتح العدد الذي لا ينتهي من صنابير المياه في الحمامات، ولا أن أنام في أسرّة تجعلني أزحف على أربع، لأصل إلى الوسادة.. جذوري ومشاعري وآلامي في بيتي، ولا أريد أن أصور في بلد آخر). وكتبت عنه “ليبراسيون”: “المايسترو الوحيد، بعد رحيل بازوليني، الذي يجعلنا نصدق الأساطير. محت السلطة من حياته خمسة عشر عاماً، وحرمته من إنجاز أفلامه، ولا تُوجد عقوبة جنائية، لم تُسجل ضده، ولا توجد خطيئة لم تُلصق به“

والطريف أن نذكر الآن أن للزبيدي كتاباً اخر صدر في سوريا عن المؤسسة العامة للسينما في سلسلة تحت عنوان “مونوغرافيات في تاريخ ونظرية صورة الفيلم” وكان الفنان التشكيلي والكاتب منير العبيدي قد كتب دراسة عنه، أشار في خلاصة ما كتب : ” بما أن السينما هي أكثر الفنون جماهيرية وأكثرها انتشارا على الإطلاق، حيث يشاهد الأفلامَ السينمائية مئاتُ الملايين من الناس على كوكبنا كل يوم، فإن هذا الكتاب لن يكون موضع اهتمام دارسي الفن السابع، ممن سيشكل هذا الإصدار بالنسبة لهم حدثاً مهماً مكثفاً ويغطي فترة زمنية طويلة، بل سيكون كذلك موضعَ اهتمام القراء الذي يشكل الفيلم جزءاً من حياتهم اليومية، خصوصا أولئك الذين لا يرغبون في أن يشاهدوا الفيلم مشاهدة عابرة فقط، إنما يتطلعون إلى التمتع بكامل أبعاده الإبداعية وجوانبه الريادية، فالكتاب يسلط الضوء على ما يمكن اعتباره طرق تذوق العمل السينمائي وإدراك الخفايا الفنية في صناعة الفيلم ضمن فترة إنجازه ودرجة تطور صناعته.

وكتب لاوين ميرخان بتاريخ 24 كانون الأول,2019 في مدونته مسودة سينمائية وهو يحمل غلاف الكتاب بيده: 

يقدم لنا الكاتب السينمائي القدير قيس الزبيدي في كتابة الموسوم: مونوغرافيات، في تاريخ ونظرية الصورة في الفيلم، يجعلك تفهم المفهوم السينمائي الخالص، مجموعة من المقالات ذات كثافة عالية جداً، وأنا أقول كثافة النص ولا أقول قدم لنا نص مختزل، لأن الكثافة تعتبر ضرباً من ضروب البلاغة، الرجل قدم لنا عبارات كثيفة وراقية جداً عن فن الصورة في السينما، ولم يقدم لنا عملاً اختزالياً يحتوي على الكثير من جماليات هذا الفن المحدث والقصير نسبياً بالسن. كتاب انصح بشدة بقراءته لأنه يستحق التبجيل، ولكن مشكلة تبقى هي هي، عدد النسخ قليل، لا أرغب في نشره بالانترنت على صورة اكروبات أو بشكل كتاب الكتروني، سوف أنشر مقالة واحدة فقط من هذا الكتاب المهم على مسودتي السينمائية في قسم جديد بعنوان (مقالات سينمائية مختارة)، حيث اتبع مقولة كارل ماركس: كل حسب قدرته.. وهو أيضاً ما نفعله ونحن نعيد نشر المقالة من جديد لينهل المتلقي والسينمائي الحرفي منها حاجته!

قراءة في كتاب: الثقافة السينمائية -مونوغرافيات- للسينمائي والباحث

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.