‏‎Abdul-Rasool Aljaberi‎‏ و‏‎George Ashy‎‏

هذه مقدمة كتاب التصوير الضوئي كنت اود لو اكملت تحقيقه

الذاكرة البصرية

الحقيقة الرائعة التي تتجلى أمام أعيننا هي تلون الطبيعة كل لحظة بلون وكل ثانية بظلال رغم أنه بالبحث في التفاصيل المدرجة من خلال هذه الطبيعة يمكن أن تتراءى لنا مئات الكوادر المتقنة التناغم اللوني والحركي والإيقاعي . من هنا كان لا بد للبعض منا أن يسجل هذه المترادفات ليضيف إلى الإبداعات الإنسانية رؤية ورؤيا جديدة تتناسب مع واقع بيئته كما تتناغم مع أسلوبه في طرح مقولاته الإبداعية .
ولدت في قرية صغيرة (1) بيوتها من الحجر البركاني الأسود وسماؤها زرقاء وتتوزع بين بيوتها الأشجار المثمرة الخضراء التي تتلون ربيعا بالأحمر والبرتقالي والبنفسجي والمشمشي والرماني والأصفر ، وكانت الحمير هي الوسيلة الوحيدة للتنقل والنقل وجلب الماء من العين (2) وكانت بوسطه وحيدة تغادر القرية صباحا وتعود في أول المساء.
هذه القرية مازالت حتى اليوم محافظة على طابعها إذ أنها ترفض التوسع لكونها تقع على تل ضيق المساحة تأخذ شكل قوس يرتمي على ارتفاع 300 مترا عن سطح البحر وبعد أفقي يبلغ ثلاث’ كيلومترات عن ساحل الأبيض المتوسط وتحيط بها الوديان من كل جانب .
لست أذكر إطلاقا أن أحدا ما كان يحذرني أو يمنعني من الانفلات في دروب ضيعتنا الضيقة أو النزول إلى عين شاما أو إلى البحر عند بيت خالي في قرية (الخراب)(3) .
تعلمت السباحة في وقت مبكر جدا وأعتقد أنه في عمر الثلاث سنوات كما تعلمت صيد السمك بصلي الصنارة تحت الصخور وتعلمت أيضا الاستفادة من لاطات الخشب التي يجرفها الموج إلى الشاطئ للإبحار عميقا في البحر والعودة طبعا.
كانت هناك لفترة ما عائلة قرباطية تخيم قريبا من بيت خالي وصادقت من بينها طفلا يبدو أنه بعمري أسمه بطرس وكان بطرس هذا يقوم بصناعة الطبول الصغيرة لي وأقايضه بالبيض المسروق من قن الدجاج العائد لبيت خالي وكنت أدفع ثمن هذا البيض المسروق بضعة عصي من جدتي سيدة (أخت الرجال)التي كانت قد هاجرت لأميركا وعادت منذ وقت غير بعيد تحمل ليرات ذهبية لا يعلم ألا الله أين كانت تخبؤها ، هكذا كانوا يقولون في ضهر صفرا وفي الضيع المجاورة .
هذا الجو العام أغنى مخيلتي البصرية بكل ما هو رائع وجميل وزاد من تعلقي بقريتي التي خلقت فيها ، وكنت دائما أبحث في طرطوس ثم بعد في اللاذقية عن التفاصيل التي ترتبط فيها مع ضهر صفرا، إلى أن فقدت الكثير منها في حلب ثم في دمشق .
مع هذا لم تغب عن مخيلتي أبدا الغيوم الرصاصية والبيضاء التي كانت تتحرك بسرعة وحرية .
في اللاذقية كانت هناك المدرسة والرفقة والراهبات والمدير الصارم الأب أصطفان سالم والفرير برنار والأستاذ ديكران الرياضي وعازف الترومبيت معا وأبي أستاذ الأدب العربي في كلية الأرض المقدسة المعلم يوسف عشي وبعض الرفقة كسمير عشي ونجيب عشي وعدنان وخالد طربيه وأبن عمتي الياس عشي وجورج سليم عشي وأخي في الرضاعة جورج قيصر الذي كان بنظري – ولم يعرف ذلك مني أبدا حتى هذه اللحظة – من أشد الأصدقاء نكرانا للذات ووفاء للغير ومازال حتى اليوم بهذه
الصفات التي أحترمها وأجلها فيه . ومن الأصدقاء أيضا نيكولا كريستوفيدس اليوناني الأصل والسوري المولد والتربية وكثير غيرهم لا يتسع الظرف لذكرهم جميعا .
بالمقابل كانت هناك عائلة مؤلفة من رجل وامرأة لم يرزقهما الله بأطفال كانا يمضيان أيام العطل على شاطئ البحر ويصطحباني معهما وقدما لي قصبة صيد سمك من النوع الغالي جدا حينذاك وعاملاني معاملة ولدهما لو رزقهما الله بولد .
أهم ما في الحديث أنه كان بجانب بيتنا أيضا المصور الأرمني الأصل أبراهام وزوجته الذي ألححت عليه أن يدخلني الغرفة المعتمة معه لأكتشف الخيوط الأولى للتعامل الكيميائي مع المستحلبات الحساسة وكنت من باب المجاملة أقوم بتنشيف وتلميع الصور له، و بدأت أول قراءة لي للصورة الفوتوغرافية .
هنا بدأت قصتي مع التصوير وكنت بسن التاسعة حينها ولم يخطر ببالي إطلاقا أنني قد أكون في يوم من الأيام مصورا فوتوغرافيا معروفا على المستوى العربي من خلال تأسيسي لنادي التصوير الضوئي في سورية ، وعالميا من خلال عملي كمصور لوكالة الأسوشيتدبرس في دمشق ، كان اللعب مع آلة التصوير والأفلام والورق الحساس مجرد استمتاع مؤقت فقط .كذلك كان الرسم بعد ذلك على يدي إبراهيم هزيمة ورمزي كيلو من طرف ووالدي من طرف آخر الذي كان يهمه أن أصبح خطيبا مفوها بالدرجة الأولى . وكذلك العزف على الكمان الكلاسيكي على يد الأستاذ ميشيل كوستانتنيدس .
كانت علاقات عابرة حقيقة في مجمل تطوراتها لا تمت إلى الجدية بصلة ولا إلى الهوس والهاجس من جهة أخرى.ولكنها بدأت في وقت متأخر جدا تأخذ منحى معقولا له علاقة بنفسيتي التي تميل إلى العزلة أحيانا والتأمل حينا آخر وخاصة بعد وفاة والدي وانتقالنا إلى حلب حيث كانت النشاطات الفنية هناك بمداها الواسع تشدني إلى رفقة أفراد فرقة موسيقى الحجرة التي أسسها يروانت جبجيان وكنت أحد أعضائها كعازف كمان ثاني . وكان الأرمن السوريون مشهورون بمهن معينة منها التصوير الفوتوغرافي والموسيقى وأغلب أصحاب استوديوهات التصوير كانوا منهم .
في دمشق اقتنيت أول آلة تصوير من النوع المتميز آنذاك وبدأت أصور وأصور إلى أن اقتنعت أخيرا بأن التصوير لا يكفي بل يجب أن تكون العملية متكاملة بأن أظهر الفيلم وأطبع الصورة أيضا كي أتمكن من التحكم بكافة مراحل إبداع وصناعة الصورة الضوئية .
سألت كثيرا وكان هذا الكثير لا يرضي الذين أسألهم فكانت إجاباتهم في أغلبها بيعي أفلاما ومحاليل غير صالحة ،وأحيانا تجهيزات مستهلكة على أساس أنها جديد ة ، كانت لعبة لا أخلاقية القصد منها حصر هذه المعرفة بهم ودفعي إلى الملل من هذه الهواية المتعاظمة عندي وكادوا أن ينجحوا في ذلك لولا أن وقعت في مكتبة النوري بدمشق على كتاب المعلم الكبير الدكتور عبد الفتاح رياض ( التحميض والطبع والتكبير) وهنا وجدت ضالتي ووجدت الأستاذ الصادق والمعطاء .
بدأت فعلا بتجهيز الغرفة المعتمة بكل ما يلزم وبدأت المتعة الحقيقية والفائدة المتوخاة من كل الهدف المطلوب وأنا أدين للدكتور عبد الفتاح رياض بكل معرفة وخبرة في العمل بالغرفة المعتمة وبالمحاليل المظهرة والطرق السليمة لتركيبها وأطرق معالجة السلبيات والأوراق الحساسة .
ثم بدأت أقتني مؤلفات الدكتور رياض حتى أني طلبتها بواسطة صديق مصري من مكتبة الأنجلو المصرية في القاهرة . وأدركت مقدار عطاء هذا الباحث المصري العظيم .
قد تلاحظ في كتابي هذا أني استندت كثيرا إلى أراء وأفكار الدكتور عبد الفتاح رياض الذي هو بدوره استقاها من شركات صنع الأفلام والمحاليل الكيميائية المظهرة والمثبتة ومحاليل الإيقاف والتقوية الخ .لم يكن بإمكان أي مؤلف آخر أن يتجاهل عطاء الدكتور عبد الفتاح رياض أو ألا يتأثر بمنهجه في البحث والتبويب .كذلك تأثرت بكتاب التصوير الضوئي للمصور العامي جون هيدجكو الذي كان لي شرف إخراجه بالعربية لدار نشر طلاس .
جورج عشي

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.