أثر موليير على بدايات المسرح العربي

(1)
حين ننظر لبدايات المسرح العربي نرى أثر موليير واضحًا في تلك البدايات، فنرى أن أول مسرحية وضعها مارون النقاش – وهي مسرحية “البخيل” سنة 1847 – هي اقتباس من مسرحية “البخيل” لموليير ، أو هي ترجمة لمسرحية “البخيل” لموليير مع وجود تصرف كبير من مارون النقاش في تلك الترجمة، وقد رأى بعض النقاد أن مسرحية “البخيل” لمارون النقاش تأليف من مارون النقاش، وأنها تختلف عن مسرحية “البخيل” لموليير، وإن كان قد تأثر بها تأثرًا محدودًا
في مسرحيته تلك، والمسرحية الثالثة التي وضعها مارون النقاش سنة 1853 كانت بعنوان “الحسود السليط”، وذُكِرَ أن مارون النقاش عَرَّبَ فيها مسرحية “طرطيف” لموليير.
وتبقى لمارون النقاش مسرحية ثالثة هي مسرحية “أبو الحسن المغفل
أو هارون الرشيد” وقد استوحى أحداثها من إحدى قصص كتاب “ألف ليلة وليلة”، وعرضها مع بعض أفراد من أسرته سنة 1850، ولا شك أنها هي أيضًا مسرحية كوميدية، وقد كتب بديع خيري ونجيب الريحاني مسرحية “ياسمينة” الكوميدية عن نفس هذه الحكاية التي اعتمد عليها مارون النقاش في مسرحيته
“أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد”.
وأغلب الظن عندي أن مارون النقاش قد تأثر ببعض أساليب موليير في الكوميديا في مسرحية “أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد”.

(2)
ونرى يعقوب صنوع – الذي يُنسب إليه أنه رائد المسرح المصري في العصر الحديث – شديد الإعجاب بموليير، حتى لقد لقبه الخديوي إسماعيل موليير مصر بعد أن شاهد عرضًا له مع فرقته البسيطة، ونرى ضمن عناوين مسرحيات يعقوب صنوع أسماء مسرحيات لموليير، ومنها مسرحية “البخيل”، ومسرحية “مدرسة النساء”، ومسرحية “مقالب سكابان”، ولم أعثر على هذه النصوص ليعقوب صنوع مطبوعة، وأغلب الظن أنه قام بعمل تمصير لهذه المسرحيات لموليير، وعرضها مع فرقته.
أما المسرحيات المنشورة ليعقوب صنوع فنرى في بعضها أثر مسرح موليير واضحًا، فمسرحيته الأهم – وهي مسرحية “موليير مصر وما يقاسيه” التي عرض فيها سيرة ذاتية له ولفرقته المسرحية خلال العامين اللذين قدم فيهما معها تلك العروض – هي معارضة من يعقوب صنوع لمسرحية “مرتجلة فرساي” لموليير، ففي هاتين المسرحيتين نرى مؤلفًا – وهو مخرج في الوقت نفسه – يشكو من فرقته التي لا تُقَدِّرُ قيمة المسرحيات التي يكتبها، كما أنه يشكو فيها من بعض الأشخاص في مجتمعه الذين يحاولون التقليل من مسرحياته التي يكتبها وتعرضها فرقته، وللحق فإن مسرحية “موليير مصر وما يقاسيه” لصنوع أشد تماسكًا من مسرحية “مرتجلة فرساي” لموليير.
ونرى بصمات موليير واضحة بشكل بارز في بعض مسرحيات يعقوب صنوع؛ مثل: مسرحية “الأميرة الإسكندرانية” التي يبدو تأثر يعقوب صنوع واضحًا فيها بمسرحية “النساء العالمات” لموليير.
وكذلك نرى بعض الأنماط الكوميدية التي عرضها موليير في بعض مسرحياته حاضرة في بعض مسرحيات يعقوب صنوع، كشخصية الخاطبة الظريفة التي عرضها موليير في مسرحية “البخيل”، فإننا نرى يعقوب صنوع يظهر مثيلًا
لها في مسرحية “أبو ريدة وكعب الخير”، وكذلك نرى نمط الخادم الظريف واسع الحيلة الذي وَظَّفَهُ موليير في بعض مسرحياته، مثل: مسرحية “طرطيف”، ومسرحية “مريض الوهم” – له حضور قوي في بعض مسرحيات يعقوب صنوع؛
مثل: مسرحية “العليل”، ومسرحية “أبو ريدة وكعب الخير”.
ويضاف لهذا أننا نرى يعقوب صنوع قد وظف في مسرحياته كثيرًا من عناصر الكوميديا التي وظفها موليير في مسرحياته، كالأنماط الكوميدية، والمواقف التي تقوم على سوء الفهم، والتنكر والتكرار، والحط من المقام،
وغير ذاك.
(3)
وفي الوقت نفسه نرى رائدًا آخر من رواد المسرح المصري هو محمد عثمان جلال يترجم أربع مسرحيات لموليير بتصرف واضح، خلال النصف
الثاني من القرن التاسع عشر، ويجمع هذه المسرحيات الأربع في كتاب
وينشره سنة 1890 بعنوان “الأربع روايات من نخب التياترات”، وهذه المسرحيات الأربع هي: مسرحية “الشيخ متلوف” – وهي ترجمة لمسرحية “طرطيف” لموليير – ومسرحية “مدرسة النساء”، ومسرحية “مدرسة الأزواج”، ومسرحية “النساء العالمات”.

(4)
وفي هذا الصدد أذكر أيضًا أن أول مسرحية تعرض في المملكة العربية السعودية خارج إطار المسرح المدرسي كانت مسرحية “طبيب بالمشعاب”،
وقد أعدها إبراهيم الحمدان عن مسرحية “الطبيب رغم أنفه” لموليير، وأخرجها إبراهيم الحمدان نفسه في الرياض سنة 1973 .
وأعتقد أننا لو تتبعنا بدايات المسرح العربي في بلاد عربية أخرى فسنجد لمسرحيات موليير الكوميدية حضورًا واضحًا فيها.
(5)
وأعتقد أن بدايات المسرح العربي قد ظهر فيها أثر بعض مسرحيات موليير وطريقته في الكوميديا للأسباب التالية:
أولًا: إن موليير هو أهم كاتب كوميديا، كما أن شكسبير هو أهم كاتب تراجيديا عبر عصور المسرح كلها منذ الإغريق حتى العصر الحديث، ومن ثم
فلا غرابة في أن تكون مسرحيات موليير وأساليبه الكوميدية في مسرحياته جاذبة لكل من يحاول كتابة الكوميديا، أو تقديم عروض كوميدية، لا سيما لمن يخطو الخطوات الأولى في المسرح الكوميدي.
ثانيًا: تتميز مسرحيات موليير الكوميدية بوجود الأنماط الكوميدية التي توجد في كل زمان ومكان، ومن ثم فهي عالمية يمكن عرضها مترجمة أو معربة أو بأي لهجة من اللهجات في أي بلد عربي.
ومن هذه الأنماط فيها البخيل، كما عرضه موليير في مسرحية “البخيل”، ورجل الدين المنافق، كما عرضه موليير في مسرحية “طرطيف”، والمتحذلق المدعي، كما عرضه موليير في عدة مسرحيات له؛ مثل: مسرحية “المتحذلقات”، ومسرحية “النساء العالمات”، ومدعي المرض، كما عرضه موليير في مسرحية “مريض الوهم”، وغير ذلك من الأنماط الكوميدية الكثيرة التي عرضها موليير
في مسرحياته، وكشف من خلالها بعض الأشخاص غير الأسوياء بسلوكياتهم
في مجتمعه وكل المجتمعات الأخرى.
ثالثًا: تتميز العقدة في مسرحيات موليير ببساطتها، وغالبًا لا نرى له في كل مسرحية سوى عقدة واحدة، ويتم التركيز فيها على شخصية متطرفة في سلوكها في صفة معينة بها، ونرى مواقف المسرحية تتعرض لهذه الشخصية.
وتكاد تكون العقدة متكررة في معظم مسرحيات موليير، وهي عن فتاة يرغب والدها النمط المتطرف في سلوك معين في تزويجها من شخص يناسب تطرفه في ذلك السلوك، وتحتال هذه الفتاة مع حبيبها ووصيفتها حتى تفسد مشروع والدها لتزويجها من ذلك الشخص الذي يرغب والدها في تزويجها منه، وتتزوج في النهاية من الشخص الذي تحبه ويحبها، كما نرى ذلك في مسرحية “مريض الوهم”، ومسرحية “طرطيف”، ومسرحية “النساء العالمات”، ومسرحيات أخرى لموليير.
ولم يكن غريبًا إذًا أن نرى رواد المسرح العربي في كثير من الدول العربية – خاصة في بلاد الشام ومصر – يلجئون لموليير ومسرحياته الكوميدية ذات العقدة البسيطة التي يمكن التواصل معها، كما أنها بأجوائها الكوميدية ستكون جاذبة للمتلقين الذين يتلقون هذه المسرحيات، وليس عندهم معرفة كبيرة بالمسرح، أو هم ليس عندهم أي معرفة به.

عن صفحة د. علي خليفة على الفيس بوك