“أنا الريح” ليون فوسه: رحلة في أعماق الذات والوجود
مقال من اعداد كادر صفحة مسرح العبث
يُعد الكاتب النرويجي يون فوسه، الحائز على جائزة نوبل في الأدب لعام (2023)، من الأصوات المسرحية الفريدة التي تتميز بلغتها الشعرية الصامتة وتناولها العميق للوجود الإنساني. مسرحيته “أنا الريح” (Jeg er vinden) ليست استثناءً، فهي عمل مسرحي تجريدي (1) ومكثف يأخذنا في رحلة بحرية وفي أعماق شخصين مضطربين.
التكوين البنيوي للمسرحية:
تتميز “أنا الريح” ببنيتها البسيطة والموحية. تدور الأحداث بشكل كامل على متن قارب صغير في البحر، حيث يلتقي رجلان تربطهما صداقة قديمة. المسرحية مقسمة إلى مشاهد قصيرة تتدفق بسلاسة، مع تركيز كبير على الحوارات المقتضبة والمتكررة أحياناً، والتي تخلق إيقاعاً خاصاً يشبه حركة الأمواج. لا يوجد صراعٌ خارجيٌّ تقليديّ، بل الصراعُ داخلي ونفسي، يتكشف تدريجياً من خلال تفاعلات الرجلين. الفضاء المسرحي محدود، مما يركز الانتباه على العلاقة بين الشخصيتين وعلى حالتهما الذهنية.
أبرز الأفكار في المسرحية:
تلامس “أنا الريح” العديد من الأفكار الوجودية والنفسية العميقة ومنها:
1. البحث عن الذات والهوية: أحد الرجلين يشعر بفقدان هويته ورغبة عميقة في التغيير أو حتى الاختفاء. البحر يصبح هنا رمزاً للرحلة الداخلية والبحث عن معنى أو مخرج.
2. الصداقة والوحدة: على الرغم من الاضطراب الداخلي لأحدهما، فإن وجود الآخر يمثل نوعاً من السند أو المرآة له. تستكشف المسرحية طبيعة العلاقة بينهما، بما في ذلك الصمت والفهم الضمني.
3. الموت والفناء: يلوح شبح الموت ضمنياً في الحوارات وفي الجو العام للمسرحية، خاصة مع رغبة أحد الرجلين في الابتعاد أو التلاشي.
4. الوقت والذاكرة: كما هو الحال في العديد من أعمال فوسه، يتسم الوقت في “أنا الريح” بالسيولة (2) وعدم الخطية (3). تظهر ومضات من الماضي وتتداخل مع الحاضر.
أهمية المسرحية:
حظيت مسرحيات يون فوسه “أنا الريح” بشكل خاص، باهتمام دولي واسع. عُرضت في العديد من المسارح حول العالم، وتميزت معظم هذه العروض بتركيزها على الأداء التمثيلي الحساس والإضاءة والصوت لخلق الجو المطلوب. بعض العروض ركزت على الجانب النفسي للشخصيتين، بينما أخرى أبرزت الطابع الشعري والتجريدي للنص.
اقتباسات من المسرحية ومؤداها:
1. “كل شيء يعود دائماً”.
هذا الاقتباس، يحمل دلالاتٍ عميقة حول طبيعة الوجود الدوري (4)، وتكرار الأنماط (5) في الحياة، واحتمالية عدم وجود نهاية حقيقية. يمكن فهمه على مستوى شخصي (تكرار المشاعر أو الأخطاء) وعلى مستوى كوني أوسع.
2. “لا أعرف ما الذي أبحث عنه”.
يعكس هذا الاقتباس حالة الضياع والبحث الغامض التي يعيشها أحد الرجلين. إنه تعبير عن القلق الوجودي (6) وعدم اليقين بشأن الهدف أو الاتجاه في الحياة.
3. (حوار متكرر): “هل أنت بخير؟” / “أجل، أنا بخير”.
هذا التبادل البسيط والمتكرر يكشف عن محاولة كل منهما طمأنة الآخر، ولكنه قد يخفي أيضاً حقيقةً أعمق من عدم الارتياح أو القلق الذي لا يتم التعبير عنه بشكل كامل. إنه يبرز أهمية ما لا يُقال في مسرحيات فوسه.
4. “البحر هادئ اليوم”. / “نعم، هادئ جداً”.
وصف حالة البحر غالباً ما يعكس الحالة الداخلية للشخصيتين. الهدوء الظاهري قد يخفي توتراً أو تفكيراً عميقاً يجول في خاطرهما.
“أنا الريح” ليون فوسه هي تجربة مسرحية فريدة تتجاوز السرد التقليدي لتركز على الحالة الداخلية والشعور.
ومن خلال بنيتها البسيطة وحواراتها المقتضبة، تدعونا المسرحية للتفكير في أسئلة الوجود والهوية والعلاقات الإنسانية بطريقة شعرية ومؤثرة. إنها عمل يترك للمشاهد مساحةً للتأمل وتفسير المعاني الكامنة بين الكلمات.
———–
(1) المسرح التجريدي هو شكل من أشكال المسرح، يبتعد عن الواقعية والتمثيل التقليدي. بدلاً من تقديم قصص ذات حبكة واضحة وشخصيات محددة في زمان ومكان معينين، يركز المسرح التجريدي على الأفكار والمشاعر والحالات الوجودية بطريقة غير مباشرة وغالباً ما تكون رمزية. مثاله، إضافة لمسرحية “أنا الريح” المذكورة أعلاه، مسرحية “في انتظار غودو” لصمويل بيكيت.
(2) يرتبط مفهوم الوقت السائل، او سيولة الزمن، بشكل وثيق بأعمال عالم الاجتماع البولندي “زيغمونت باومان”. يرى باومان أنّ الحداثة قد تحولت من مرحلة “صلبة” تتميز بمؤسساتٍ ثابتةٍ وهياكلٍ اجتماعيةٍ واضحةٍ إلى مرحلةٍ “سائلة” تتسمُ بالسّيولة والتغيّر المستمر وعدم اليقين.
(3) مصطلح “السرد اللاخطي” يشير إلى طريقة في سرد القصص لا يتم فيها تقديم الأحداث بالترتيب الزمني الذي وقعت فيه. بدلاً من ذلك، يمكن للقصة أن تقفز بين أوقاتٍ مختلفة، أو تقدم نهايتها قبل بدايتها، أو تستخدم تقنيات مثل الفلاش باك والفلاش فورورد لكسر التسلسل الزمني التقليدي. المفهوم نفسه موجود منذ القدم في أشكال مختلفة. على سبيل المثال، بدأت الحكايات غير الخطية في العصور القديمة، كما هو الحال في ملحمة هوميروس “الإلياذة” التي تبدأ في منتصف الأحداث. ويمكن القول إن الحداثيين في أوائل القرن العشرين، مثل جيمس جويس، وفرجينيا وولف، وويليام فوكنر، قاموا بتجربة السرد اللاخطي على نطاق واسع في أعمالهم، مما لفت الانتباه إلى هذه التقنية.
(4) الوجود الدوري (Cyclical Existence):
يشير إلى الاعتقاد بأن الكون، أو التاريخ، أو حتى الوجود الفردي يتبع دورات متكررة. ظهر المفهوم في فلسفة الرواقيين اليونان القديمة، وفي الاديان البوذية والهندوسية، بمفهوم عجلة الزمن (Kalachakra)، والتناسخ (Samsara)، ويمكن ربط مفهوم الوجود الدوري في الاقتباس بافكار نيتشه، في (العَود الأبديّ).
(5) تكرار الأنماط (Pattern Repetition):
يشير إلى ملاحظة أن هياكل أو سلوكيات أو أحداثًا معينة تميل إلى الظهور بشكل متكرر في مختلف السياقات. يمكن رؤية تكرار الأنماط في الطبيعة كتكرار الشكل الهندسي للبلورات، وتكرار انماط فصول السنة، كما يمكن رؤية ذلك بأشكال الانماط الرياضية، وردود الأفعال الاجتماعية في السلوكيات الانسانية، ويمكن اعتبار العلاقة بين الرجلين في مسرحية انا الريح، أو حتى حالة الضياع التي يعيشها أحدهما، كنمط يمكن أن يتكرر في حياة الإنسان.
(6) القلق الوجودي: هو نوع من القلق ينشأ من إدراك الإنسان لطبيعة وجوده وظروفه الأساسية. إنه ليس قلقاً مرضياً بالضرورة، بل هو استجابة طبيعية للتفكير في الحقائق الأساسية للحياة، كالموت، والحرية مع المسؤولية، ولا معنى الحياة، وغياب الأهداف من العيش.