هل سمعت من قبل بشاعر يسمى “دوقلة المنبجي”، وقصيدته اليتيمة؟
وراء هذا الشاعر و هذه القصيدة قصة عجيبة ومأساوية:
كان في نجد أميرة تُدعى دعد، عُرفت بجمالها وذكائها وحبها للأدب، وقد أعلنت أنها لن تتزوج إلا من شاعر يمدحها بأجمل قصيدة تُكتب في حق امرأة. شاع خبرها بين الشعراء، وتسابقوا لنيل رضاها والفوز بقلبها، لكنهم لم ينجحوا.
أما دوقلة المنبجي، فكتب قصيدة بديعة فيها وصف ومدح يفوق الوصف، ثم انطلق بها قاصدًا نجد للقاء الأميرة دعد. وفي طريقه، صادف أعرابيًا فتعارفا.
سأله الأعرابي: إلى أين يا أخا العرب؟
قال دوقلة: إلى ديار الأميرة دعد.
قال الأعرابي: يبدو أنك كتبت لها القصيدة؟
قال دوقلة: نعم.
طلب الأعرابي من دوقلة أن يسمعه القصيدة، فألقى عليه دوقلة أبياتها، وأُعجب بها الأعرابي، لكنه لم يحفظها من المرة الأولى، فطلب منه أن يعيدها مرارًا حتى تمكن من حفظها.
فلما حفظها، غدر به وقتله، ثم انطلق إلى دعد مدعيًا أنه هو من نظم القصيدة.
عندما وصل إلى بلاط الأميرة، قُدّم على أنه شاعر قادم من بلاد بعيدة جاء يطلب ودّها، فأمرته أن ينشد القصيدة، فأنشدها كما سمعها من دوقلة. ولكن دعد، وكانت فطنة ذكية، انتبهت لبيت في القصيدة يقول فيه:
“إن تَتَّهِمي فَتَهامةٌ وَطَني، أو تُنجدي يكن الهوى نجدُ”
فقالت: هذا الرجل كاذب! فهو ليس من تهامة، ولا يتحدث بلكنة أهل نجد، وقد أخبرهم سابقًا أنه من بلاد أخرى.
ثم قالت: اقتلوه، فإنه قاتل صاحب القصيدة الحقيقي!
لقد كان دوقلة أذكى منه، فاستشعر الخيانة وأدرك احتمال أن يُقتل وتُسرق قصيدته، فأضاف هذا البيت الذكي كدليل يكشف السارق:
“إن تتهمي فتهامةٌ وطني، أو تنجدي يكن الهوى نجدُ”
فكان هذا البيت المفتاح الذي فضح القاتل.
—
نص القصيدة:
> يَشفي الصبابةَ فليكنْ وعدُ
قد كان أورق وصلكم زمناً
فذوى الوصالُ وأورقَ الصدُّ
للهِ أشواقي إذا نزحت
دارٌ بنا ونوىً بكم تعدو
إن تتهمي فتهامةٌ وطني
أو تنجدي يكن الهوى نجدُ
وزعمتِ أنكِ تضمُرين لنا
وُدًّا، فهلّا ينفع الودُّ؟
وإذا المحبُّ شكا الصدودَ فلم
يُعطفْ عليه، فقتله عمدُ
تختصها بالحبِّ وهي على
ما لا نحبُّ، فهكذا الوجدُ
أو ما ترى طمريّ بينهما
رجلٌ ألحّ بهزله الجدُّ؟
فالسيف يقطعُ وهو ذو صدأٍ
والنصل يفري الهام لا الغمدُ
هل تنفعنَّ السيفَ حليتهُ
يومَ الجلادِ إذا نبا الحدُّ؟
ولقد علمتِ بأنني رجلٌ
في الصالحاتِ أروح أو أغدو
بردٌ على الأدنى ومرحمةٌ
وعلى الحوادثِ مارنٌ جلدُ
منعَ المطامعَ أن تثلّمني
أني لمعوَلِها صفاً صلدُ
فأظلّ حرًّا من مذلّتها
والحرُّ حين يطيعها عبدُ
آليت أمدح مقرفاً أبداً
يبقى المديح ويذهب الرفدُ
هيهاتَ يأبى ذاك لي سلفٌ
خمدوا ولم يخمد لهم مجدُ
والجدُّ حارثُ والبنون همُ
فزكا البنون وأنجب الجدُّ
ولئن قفوتُ حميدَ فعلهمُ
بذنيم فعلي إنني وغدُ
أجمل إذا طالبت في طلبٍ
فالجدُّ يغني عنك لا الجدُّ
وإذا صبرت لجهد نازلةٍ
فكأنّه ما مسّك الجهدُ
وطريدِ ليلٍ قاده سغبٌ
وهنًا إليَّ وساقه بردُ
أوسعتُ جهدَ بشاشةٍ وقرىً
وعلى الكريمِ لضيفه الجهدُ
فتصّرم المشتَي ومنزلُه
رحبٌ لديّ وعيشُه رغدُ
ثم انثنى ورضاوهُ نعمٌ
أسديتُها وردائي الحمدُ
ليكن لديك لسائلٍ فرجٌ
إن لم يكن، فليحسن الردُّ
يا ليت شعري بعد ذلكُمُ
ومَحارُ كلِّ مؤمّلٍ لحدُ
أصريعُ كلمٍ أم صريعُ ردى؟
أودى، فليس من الردى بُدُّ
القصيدة اليتيمة من أشهر القصائد في التراث العربي، وتنسب إلى الشاعر دوقلة المنبجي. سميت باليتيمة لأن صاحبها لم يُعرف له غيرها، وقيل إنها سُمِّيت كذلك لأنها لا نظير لها بين القصائد لما فيها من بلاغة وعذوبة وجمال في المعاني والتصوير.
المصدر: 📚
كتاب: الدرر الفريد وبيت القصيد. 📖