الرّجل والمعنى ومُستويات التشكيل الشعري
أتخيّلُ الشّاعرَ رسولاً بين الدّوال والمدلولات، غير أنه لا يتلقّى رسالة خطيّة ولا صوتيّة واضحة تماما لينقلها أو يوصّلها، بل إن ما يتلقاه الشّاعر هو رسالة مُشفّرة في مزيج من الرّمز والعلامات وغيرهما وعليه أن ينقلها- لا أن يُترجمها- من شفرة لشفرة أُخرى دون أن يتوه منه المعنى الذي وقع عليه.. إنّها مهمّة شاقّة شاقّة!
ومُصطلح “المعنى” ذو تاريخٍ طويلٍ في التّراث النّقدي العربي، يقول الدكتور سعيد شوقي في كِتابه “نسق إيقاع المعنى” : [ ثمّة مفهوم، أو تصوّر ذهني، مُعلّقٌ في الهواء، وثمّة شيءٌ يُرادُ أن يُعبّرَ عنه، وثمّةُ لفظٌ يبحث عنه ليربط بين المفهوم أو التصور الذهني والشيء، وعندما يتم تحقيق رغبات الثلاثة: مفهوم مُحلق وشيء مرتكن ولفظ مستعد، يتشكّل المعنى.]
ويرى سعيد بنكَراد في كتابه “مسالك المعنى” أنه : [ يجبُ التّعامُل مع المعنى في اللّغة والأشياء والمُمارسات باعتباره كيانا هاربا من حالات التّعيين المُباشر ليستوطن الظّل واللاشعور وبؤرة الفعل المنفلت من كل رقابة .. فالمعنى ليس كيانا جاهزا، وليس مُعطى مرئيا تُدركه الحواس دون وسائط]
اختارت الشّاعرة وربّما اختار الشّعر قصيدة النّثر مبنى لهذه المجموعة الشعريّة وتشكّلت القصيدة في عشرين مقطعا متفاوتة الطّول وهو ما حقق تشكيلا فنيا يدفع المعنى في صورة موجات مُتعاقبة، مدّا وجزرا فيقدّمُ خطابا شعريّا يتراوح بين الذّاتية والموضوعيّة في تشكيلٍ شعري للعنوان وللأنا وللأنثى وللإيقاع وللّغة.
أمّا العنوان فهو المدخل الذي يرتضيه الشّاعر للكِتاب الشّعري، يُعرّف لوي هوك العنوان بأنّه مجموعة من العلامات اللّسانية، من كلمات وجمل ونصوص قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتعيّنه، تُشير لمحتواه وتجذب جمهوره المستهدف. وهناك علاقة بين “العنوان” و”النص/العمل” باعتبار العنوان علامة من علامات العَمل، وبالتالي نستطيع أن نعتبر هذه العلاقة علاقة “سيميائيّة”، كما أن العنوان والنص يشتبكان على أساس بنائي في علاقة “بنائيّة”. وقد يُختزل العمل بناءً ودلالة في العنوان بشكل انعكاسي(4). وقد أشار جيرار جينيت إلى وظائف مُختلفة للعنوان حسبما أوردها كل من لوي هوك وشارل غريفل وهي تسمية النص/الكتاب، تعيين المضمون، وضع المضمون في القيمة أو الاعتبار. لكن هـ.ميتيرون جمع بين نظاميّة “هويك” ودقة “دوشي” ليحدد عددا من الوظائف للعنوان:
-الوظيفة التعينية /التسموية.
-الوظيفة الإغرائيّة أو التحريضيّة (وقد جمعها “هويك” في الوظيفة التداولية للعنوان).
-الوظيفة الأيديولوجيّة.
وقد أدّى عنوان المجموعة الشعريّة “فقط .. كعناقك الأخير” كُلّ الوظائف السابقة باستثناء الوظيفة الأيديولوجيّة، حيثُ بدا العنوان مُحرّضا على القراءة دون وضع توقّعات مُسبقة أو تأطير أيديولوجي ما. وإن كنتُ أرى أن الوظيفة التي أدّاها العنوان أكثر من سابقاتها هي وظيفة “التّحريض على القراءة”
فعنوان المجموعة “فقط .. كعناقك الأخير” استخدمت فيه الشّاعرة أسلوب قصر والقَصرُ أُسلوبٌ يُفيدُ التوكيدَ، ويُوجِزُ الكَلامَ، ويُمَكِّنُهُ مِنَ الذِهن، وينفي عنِ الفِكرِ كُلَّ إِنكارٍ وشَكّ. كما أنّها قدّمت “فقط” تعبير عن الاهتمام بالمُتقدّم وهو يؤدّي معنى النُّدرة ويؤكّد الوحشة التي تحسّها الذات الشّاعرة، وقد أكّدت على ذلك في المقطع الأوّل باستخدام التّقديم والتأخير والتّكرار لجُملة “عاديةٌ أنا” حيثُ وردت كالآتي :
السّطر رقم 1 : عاديـــة أنا ..
السّطر رقم 19 : عاديــة أنا ..
السطر رقم 46 : عاديـــة أنا ..
السّطر 62 : أنا عاديــــةٌ كأنت ..
لا شك أن دلالة هذا التّكرار دلالة إيقاعيّة ظاهريّة ولكّنّها تؤسّس لمعنى الإلحاح والحسرة داخل النّص، وقد استخدمت الشّاعرة هذه التقنية (تقنية التكرار) والتي عبر عنها الدكتور صميم إلياس كريم بقوله: “وتكمن شاعرية التكرار وقيمته الإيقاعية والدلالية بخاصة في أن مبدع النص/ الشاعر يحاول الاتكاء على تقنية التكرار أن يكشف لنا عن الأمور والأشياء والنوازع التي يعني بها أكثر من غيرها، فهي عباراته لأنه تشكل مرآة صادقة تعكس ما يخالج الشاعر ويعتري وجدانه”.
فالتّكرار هو صدى الحوار الدّاخلي للشّاعرة وهو يعمل على تنامي الإيقاع في القصيدة كما يجعل منها وحدة نفسية وموضوعية واحدة لا ينفلتُ منها المُتلقّي لأن التّكرار يعمل على تكثيف المعاني وتذكير القاريء بطبيعة المعنى الذي تطرحه الشّاعرة.
ومن ناحية أخرى، فقد كسرت الشّاعرة هذا التّكرار حتّى لا يعتاده القاريء لتُمارس لُعبة التّقديم والتأخيــر من جديد في السّطر 62 بقولها : ” أنا عاديــة كأنت ..” لتحدث مواجهة بين ضمير المُتكلّم “أنا” وضمير المُخاطب “أنت” .
ولم يكن التقديم والتأخير على مستوى اللفظ فقط، بل إن الشّاعرة استخدمت لُعبة التُقديم والتأخيــر في المعنى في المقطع الأول حيثُ تقول في بداية المقطع :
عاديةٌ أنا…
وأريد أن أكتب نصًا عاديًا
عن امرأةٍ أحبّت رجلاً
ثم تقول في جزء لاحق من المقطع الشعري المذكور :
عاديةٌ أنا..
وأريد أن أكتب نصًا عاديًا
عن رجلٍ أحَب امرأةً
وهو ما يكشفُ عن أحد اشتغالات تشكيل المعنى الشّعري في هذه المجموعة وهي صورةُ الرّجل الذي اعتبرته الشّاعرة في إهداء الكتاب (صيادا) يُطارد بنات حوّاء ونصحتهن بامتلاك أجنحةٍ تُجيدُ مُراوغة الصيّاد، تقول في الإهداء :
إلى حواءَ وبناتِها مُنذ بدْء الرحلة:
لا زادَ للوصول، سوى أجنحةٍ تجيد مراوغةَ الصياد.
لقد سعت الشّاعرة إلى تشكيل صورة الرّجل وهدمها وإعادة تشكيلها ثمّ إعادة هدمها في دوائر من الصّراع العاطفي والنّفسي الذي يضعُ الرّجل مُخلّصا أحيانا وجانيا أحيانا أُخرى، تقول :
6
هل تبكي يا ألله مِن أجلي؟
أمّي تَفعل ..
والأمّهات اللاتي يشاركنها
في جزءٍ واحدٍ من الرحمة قد يَفعلن
والدابّةُ التي طَمعتْ
في النصيب الأكبر مِن هذا الجزء
أيضًا تَفعل
تربّتُ على خدّي حين تَلمحُ دمعتي
بينما ترفع حافرَها عن ولدها
خشيةَ أن تصيبَه
احتفظتَ لذاتك بتسعةٍ وتسعين جزءًا
وتَركتَهم يا ألله ينهشونني
يلصقون بي ما يشاءون مِن تُهمٍ وافتراءات
منذ أن خُلقْتُ مِن ضلعِه الأعوج
ثم نضجتْ بويضةٌ
وبَزغ نهدٌ
وأطلّت مِن خدرها أنوثةٌ
وأنا أعاني..
منذ أن قالت امرأةٌ عَشقتْه:
لكِ سبعُ مراراتٍ، وله واحدةٌ،
ثم تحايلتْ على خشونة ركبتيها
واحتجاجِ عمودِها الفِقَري
بِمَرهمٍ مسكّنٍ
لتواصِلَ السيرَ
وأنا أعاني..
منذ أن أحللْتَ له أربعًا
ومَنحتَه قوامةً
ثم تَركتَ له حبلَ التأويل على الغارب
وأنا أعاني..
تسعةٌ وتسعون جزءًا من الرحمةِ يا ربي
هل يٌنقِصُ منها عناقٌ وحيدٌ
ونظرةٌ؟
عناقٌ وحيدٌ يا رب
ونظرةٌ
هذا كل ما تحتاج إليه
واحدةٌ مِن عيالِك البائسين
كلُّ ذنبِها
أن استقبلتْ بويضةُ أمِّها
حيوانًا منويًا ضعيفًا
فاقدَ اللمعانِ والسيطرة
فجاءت أنثى!
هذا مقطعٌ شعريٌ كادتْ أن تقتُله المُباشرة في قولها : (منذ أن خُلقْتُ مِن ضلعِه الأعوج) وقولها:
(منذ أن أحللْتَ له أربعًا
ومَنحتَه قوامةً
ثم تَركتَ له حبلَ التأويل على الغارب
وأنا أعاني..)
وهُنا يُطلّ علينا أحد مستويات التُشكيل الشّعري وهو “تشكيل الأنثى”.
تشكيل الأنثى :
ما يدفعُني لتناول هذا التّشكيل أسبابٌ فنيّة وأسبابٌ اجتماعيّة ثقافية، أمّا الأسباب الفنيّة سيردُ تفصيلها في دراستنا لهذا التّشكيل بعد قليل، لكنني أستطيعُ أن أحدّد سببا سوسيوثقافيا يدعوني لدراسة تشكيل الأنثى في هذه المجمعة الشعرية وهو قلّة، بل ندرة عدد الشّاعرات اللواتي يطرحن نتاجهن الإبداعي في مُحافظة قِنا وأستعيرُ هُنا كلام الشّاعر والنّاقد أشرف البولاقي في كتابه “قِنا بين الشّهد والدّموع”، حيث يقول: [.. وتظلّ الشّاعرة سناء مصطفى وحدَها مُضيئة ومشرقة على خارطة المشهد الشّعري في مُحافظة قنا وهو ما يعني إصرارها على الاستمرار والإخلاص الشّديد لفكرة الكتابة ومقاومة الظروف المُجتمعيّة والعادات والتّقاليد التي منعت غيرها من الاستمرار، كما أنّها تطوّر تجربتها من قصيدة الخليل إلى قصيدة التّفعيلة إلى قصيدة النّثر، الأمر الذي يؤكّد إخلاصها الحقيقي لفعل الكتابة..]
وأميلُ إلى أن قصيدة النّثر هي الأقرب لروح الأُنثى من حيثُ رصدها للإيقاع الدّاخلي الكامن أو المطمور عمدا خشية العادات والتّقاليد والسائد والمُستقرّ. لكن هل بالإمكان أن نقول أنا هناك قصيدة نثر نسويّة؟ يقول عبداللّه السمطي :
[ لقد أصبحت قصيدة النثر بخواصها السردية – الشعرية أكثر ملاءمة للكتابة النسوية، ويشير صلاح فضل إلى ذلك بقوله:” أول ما يتبادر إلى الذهن الآن أن هذا الجنس المهجن الجديد قد أصبح أكثر الأشكال الفنية تلاؤما واتساقا مع (صوت المرأة) الحاد الرفيع، الذي أخذ يشق فضاء الثقافتين العربية والعالمية، ويزاحم أصوات الرجال الجشة وإيقاعاتهم الخشنة المسرفة.”]
عن الأنثى في رغباتها الأولى وخصوصيّتها التي تبحثُ دائما عن الجدير باقتحامها ومشاركتها، تقول في المقطع الأوّل :
عاديةٌ أنا…
وأريد أن أكتب نصًا عاديًا
عن امرأةٍ أحبّت رجلاً
رغم أنه لم يمنحها جِلدًا رقيقًا
ولم يُهدِها وردةً
لم يكن يحِب التواريخَ
ولا الموسيقى التي تَهشّ بها كل ليلةٍ
غيماتِه الإلكترونية
كان يَنظر في ساعتِه
كلما أغمضت عينيها
واشتهتْ قُبلةً..
يتمايل دخانُ سيجارتِه على جسدها
ويشكّل مدنًا مسكونةً بالرغبات
ورُسلاً يَنفخون في المزامير:
“يا جسدها حَيّ على الحب”
فتسجد امرأةٌ تَعشق الصلصال
رغم أن رَجلاً تحِبه
يأسِر عينيه الضوء.
هذا خطابٌ شعري يتبنّى صورة المرأة الضّائعة في عالم قتلته الحاجات الماديّة ولم يعُد فيه إلا أضيق مساحة للعواطف والمشاعر الإنسانية. فيه تكونُ المرأة مُستعدّة لأن تُحبّ رجُلا لا يُقدّم لها شيئا سوى أن يُنصِتَ إليها.
ترتدي الشّاعرة قِناع السّاردة وكأنّها تتحدّث عن امرأة أخرى، وربّما هي فعلا تتحدّث عن امرأةٍ أخرى، لكنّ احتمال حديثها عن نفسها يظلُّ واردا بقوّة دائما حيثُ يردُ ضمير المُتكلّم “أنا” أربعَ مرّاتٍ بشكلٍ مُباشر في هذا المقطع مع تكرار جُملة “عادية أنا”.
وعن تمرُّد الأنثى على السّائدِ والمُستقرّ، تقولُ في نفس المقطع (الأول) :
عن العصفور الذي فَتحتْ له بابَ القفص
فاصطدم بقافيةٍ
هاربةٍ من بئرٍ قديمةٍ
ثم مات!
عن فستانها الشفّاف
الذي ضَبطته يدخّن التبغَ
عند الحائط الخلفي
حتى احترق.
فالعصفور هُنا هو رمز لوعي الذّات الشّاعرة ولثورتها على التنميط والتأطير، بينما (القافية الهاربة من بئر قديم) هي صوتُ الماضي الاجتماعي والماضي الشّعري الذي يُجاهدُ لطرد الحاضر الاجتماعي والشّعري من ساحة الحضور والفِعل الإبداعي والإنساني.
ولا يغيب تشكيل الأنثويّ هُنا من استحضار لمُفردات بامتداد هذا المقطع مثل (وردة، جسدها، امرأة، فستانها، غيمة، مظلة.. إلخ).
وما تزال صورة الأنثى تتشكّل في المقطع الرّابع من الكِتاب حيثُ الأنثى المقهورة الضّائعة التي لم تُحقّق من أحلامها شيئا لأنها عاشت واقعا فيه من كُل حلمٍ نُسختان، نُسخة حقيقيّة ونُسخة أُخرى مُزيّفة، فليس كل الحُب حُب، وليس كُل الإنجاب إنجاب في دوّماتٍ من الخيبات المُتلاحقة، تقول الشّاعرة :
هل تعرفون امرأةً
تضاجع كل خيبةٍ وافدًا جديدًا؟
الراغبون كثر
تنتقي منهم مَن يشبع شهوتَها:
أن تنجِب أبناءً كثيرين
لا يَجمع بينهم دمٌ
ولا يقرّبهم لونُ بشرةٍ
لا يَعرفون الجوعَ
ولا يقومون بثورات.
حين ضاجعتْ مرةً حقلَ قمحٍ
أنجبتْ أرغفةً صغيرةً
راحتْ تلقي مِن نافذة القطار
في كل محطةٍ
واحدًا واحدًا وتبكي
بينما تُمزّق الصغارَ أفواهُ الجياع.
حين مَدّ لها الفارسُ
ذراعين من ورقٍ
ألقت بنفسها في دواماتِه
لتنجب حمامةً وغصن زيتون
لكنّ المخاض لمّا جاءها
اصطاد الفارسُ أبناءها
بطلقة حنجرة.
كانت خيبتها الكبرى
حين تاقتْ لإنجاب حيتان كثيرةٍ
فنام في كهفها حوتٌ
لكنّ الأسماك في ثورةٍ مفاجئة
انقضّتْ على حيتانها فأكلتْها.
أيها الحالمون بالفضيلةِ
اقتلوا هذه المرأة
لأنها أنجبت أبناءً مختلطي الأنساب
أبناءً أكلهم الجوعُ
ووقعوا في فخ الحناجر
وقضت عليهم الثورات.
التّشكيل الإيقاعي :
لا تتوسّل قصيدة النّثر إلى الإيقاع الخارجي، لكنّها تتكيء على أشكالٍ إيقاعيّة داخليّة، فالموسيقى الداخلية لا تنبع من تناغم من أجزاء خارجية وإنما تنبع من التناغم الداخلي الذي يشكل جوهر الموسيقى في الشعر، فهي ضرورة من ضرورات الشعر ولا يمكن أبدا فصله عنها. ولكن مفهوم الموسيقى نفسه بقي محط جدل ونقاش بين الشعراء والنقاد وكما ألح رواد قصيدة النثر على قضية أخرى، وهي ضرورة الفصل بين العروض والإيقاع، فأعطوا الامتياز للإيقاع في بناء القصيدة، وكثيرا ما ردّدوا في المناسبات الشعريّة والتجمّعات “الشعر إيقاعٌ لا عروض”…
_ من قراءة مطوّلة في “فقط كعناقك الأخير”.
المصدر صفحة عبد الغني علادي