قراءة في كتاب «الميتا تياتر» لمانفريد شميلنغ الديالكتيك البريشتي بين المسرح داخل المسرح وكسر الوهم
د.محمد سيف

أظهرت العديد من الدراسات مسبقاً أن المجموعة الهائلة من الأعمال المسرحية، سواء كانت العالمية منها أو العربية، مليئة بالأمثلة على “الميتا تياتر”. ومن أجل وصفها، سيكون من المفيد استخدام معايير التصنيفات المختلفة التي اقترحها بعض النقاد بعد نجاح كتاب ليونيل أبل الصغير” الميتا تيار” الذي نُشر عام 1963، والذي أعطى زخماً لم ينكره أحد منذ ذلك الحين، لدراسة هذه الظاهرة: مسرحة استعارة الحياة كمسرح، أو ما يسمى بالتورط mise en abyme مسرحة المؤلف نفسه (أو إضفاء الطابع المسرحي) على إنتاجه الدرامي الخاص، وانعكاسية النص الذي يعطي صورة صادقة أحياناً ومشوهة أحياناً أخرى للظروف المادية لإنتاج المشهد المسرحي، وهي تشكل كوكبة من العمليات والموضوعات والبنى التي تصنف عادة من بين العلامات المؤكدة لجماليات الباروك.

منذ نشر كتاب ليونيل أبيل “الميتا تياتر”: رؤية جديدة للشكل الدرامي” (1963)، ولا ينفك النقاد من شحذ أدواتهم النظرية المتاحة لمواجهة اللعب الدراماتيكي ذات الشكل الانعكاسي” (مانفريد شميلنغ، 1982: صفحة 5)، للحكم على مختلف أشكال الوعي الذاتي المسرحي، ولكن من دون التوصل إلى اتفاق على مفهوم المسرح داخل المسرح، أو لنكون أكثر دقة، على حدود العملية التي يتم الخلط فيها أحيانًا، بشكل خاطئ، مع مفهوم ” ” الميتا تياتر””. ومع ذلك، لا تزال هناك اختلافات كبيرة في الرأي حول المفهوم نفسه، وبشكل أكثر تحديدًا، هناك بعض الخلط بين المسرح داخل المسرح، و” ” الميتا تياتر””، لا سيما أن هذا الأخير صار يُستخدم حاليًا لوصف مجموعة واسعة من الممارسات المسرحية: ليس فقط المسرح داخل المسرح، بل أيضًا كسر الوهم، أو التباعد البريختي، أو عرض المسرحية أو حتى المسرحية بالرمز – والقاسم المشترك بين هذه الممارسات هو “القول بأن هناك مسرحًا”. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من وجود عدد من الأعمال التي تحاول أن تأخذ في الحسبان العديد من التقاليد المسرحية، إلا أنه من الصعب فهم التطور الموازي للعملية في أوروبا. وباعتدال أكثر، دخلت المفاهيم التي طورها ليونيل أبل إلى “دائرة” الدراسات المسرحية في مجالات ثقافية أخرى؛ وقد تمت مناقشتها وتنظيمها بشكل أكبر، من قبل مانفريد شميلنغ، مؤلف هذا العمل الذي نعتبره مرجعياً. هذه العملية، التي غالباً ما يتم الخلط بينها وبين المسرح داخل المسرح، غالباً ما تكون مصحوبة دائماً بانعكاس على ” ” الميتا تياتر”” ككل، مما يؤدي إلى البحث عن معنى مرتبط بطريقة أو بأخرى باستعارة مسرح العالم الكبير theatrum mundi. وهاتان مسألتان -تعريف العملية والتحقيق في معناها- يلقي الضوء عليهما مانفريد شميلنغ، من خلال: الطرق المختلفة التي ظهرت بها في البلدان التي يتطرق إليها، أي حسب الترتيب التاريخي للظاهرة المسرحية التي جنبته، عبر مشاكل الأسبقية والتسلسل الزمني: المسرح داخل المسرح حتى القرن التاسع عشر، مسرح موندي theatrum mundi مسرح العالم العظيم (من عصر النهضة إلى العصر الكلاسيكي)، حروب المسرح: الهزلية، المحاكاة الساخرة، والمسرح داخل مسرح، هارلكين Harlekin أو شعرية المهرج : الأرلوكان في ألمانيا في القرن الثامن عشر، السخرية الرومانسية (الفصل الثاني). وقد تناول في الفصل الأول: المشاكل النظرية، التسميات، الأشكال غير المفكّر فيها أو الانعكاسية والتاريخ الأدبي، ثم ختمه بالمورفولوجيا، التي حاول من خلالها التمييز بين الأشكال الكاملة للمسرح داخل المسرح وما يسميه بالأشكال الطرفية أو المحيطة. أما الفصل الثالث، فقد كرسه للمسرح داخل المسرح تحت علامة الطليعية، مستعرضاً عدة وجهات نظر: لعبة الكينونة والظهور؛ الكوميديا العالمية: لدى آرثر شنيتزلر؛ الوضع البيرانديلي “المستحيل” ؛ جان جينيه: من المظهر المسرحي” إلى “المظهر الخالص”؛ المسرح الانعكاسي والالتزام أو المشاركة الاجتماعية: وضع الثورة موضع اللعب أو التنفيذ: بيتر فايس، و وضع المسرح السياسي: غونتر غراس. هذا بالإضافة إلى تناوله في الفصل الرابع، ألعاب التناص النصي، ومناقشة مركز الديالكتيك البريختي: غونتر غراس ودراماتورجيا الدائرة ونقد النقد: يوجين يونسكو، ثم ينتقل بعد ذلك إلى “الميتا تياتر” و” الشكسبيرية”: لدى توم ستوبارد. ثم يختم كتابه في الفصل الخامس، الذي كرسه إلى جدلية الحشو أو التوتولوجيا.

ولكن هل يمكننا ان نعد المسرح داخل مسرح هو تمثيل المتفرجين أنفسهم وهم يشاهدون مسرحية أو يشاركون في إنتاج عرض ما؟، والأمثلة على ذلك كثيرة، سواء في المسرح الغربي، “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” (1921)، لبيراندللو، على سبيل المثال وليس الحصر، أو في المسرح العربي ” حفلة سمر من أجل خمسة حزيران (1968) لسعد الله ونوس. ولكن إذا وسّعنا هذا المفهوم ليشمل أي مسرحية تحتوي على كوميديا صغيرة أو شكل صغير من أشكال الأداء التمثيلي الذي تحضره الشخصيات، كما في مسرحية هاملت مثلاً أو غيرها من الأعمال التي حاكت هذه الآلية المسرحية، فإن المفهوم يتسع إلى حد ما. أما إذا أدرجنا تحت هذا العنوان المسرحيات الكوميدية التي تتضمن إطارًا صغيرًا يكرس عملًا رئيسيًا تم تطويره وفقًا لمفهوم الحلم مثلاً، فإن الأمر يتسع أكثر. وقد ضرب ليونيل آبل مثالاً على ذلك بتخصيصه بضع فقرات من دراسته عن مسرحية “الحياة حلم”، وهي مسرحية اسبانية كتبها بيدرو كالديرون عام 1635، حيث يجتمع فيها استعارة الحياة كحلم وكمسرح، لا سيما أن هذه المسرحية تنتمي إلى المسرح الباروكي الإسباني، وتعكس الوهم، والواقع، واللعب، والحلم. “وتتوزع على ثلاثة أيام مع حبكتين متشابكتين. تدور الأحداث في بولندا الخيالية، بالقرب من قلعة، دون أي اهتمام بالواقعية “.

على الرغم من أن “الميتا تياتر”، وفقاً ليونيل أبل، هو رؤية جديدة لشكل درامي، وهذا يعني أنه اكتشف نوعاً درامياً جديداً هو ” ” الميتا تياتر””، وهي كلمة أو بالأحرى مصطلحاً “ربما يكون من الحكمة ترجمته إلى الميتا مسرحية” – وفقاً لخوان كارلوس غاروت زامبرانا، الذي يستطرد قائلاً: “على الرغم من أن المؤلف لا يعطي أهمية تذكر (في الواقع، على الإطلاق) للكوميديا – وذلك لتجنب الغموض الناجم عن استخدام مفهوم “الدراما”، الذي لم يكن موجودا في القرنين السادس عشر والسابع عشر”.

من حيث المبدأ، هناك فرق واضح بين “الميتا تياتر”، وهو فئة واسعة تشير إلى أي تعبير عن الوعي الذاتي، والأشكال التي يمكن أن يتخذها المسرح، بدءًا من بضع كلمات موجهة مباشرة إلى الجمهور أو تعليق بسيط على حقيقة أن موقفًا معينًا يشبه المسرح، إلى إدراج مسرحية – أو أي عرض آخر – ضمن عرض آخر يعمل كإطار. والنتيجة هو انعكاس متقدم بشكل أو بآخر على النص المسرحي. يصعب أحيانًا رؤية ما يفصل بين المسرح داخل المسرح، بالمعنى الدقيق للكلمة و”لعب الأدوار”. في الحالة الأولى، تتحول شخصيات مسرحية إلى متفرجين لمسرحية أخرى تؤدى أمامهم: هناك “تكرار لشكل فني بحد ذاته” (شميلنغ، 1982: صفحة 8). أما في الحالة الثانية، فلا يوجد “مشهد منفصل” بل “مشهد دسائس”، وهو تنكر شخصية تخدع طرفًا ثالثًا بفضل هذه الحيلة (فوريستيه، 1981: صفحة 12). هذه النوعية من “المشهدية المنفصلة” هي بالضبط ما يثير الإشكالية. يعتبر ريتشارد هورنبي أن الأغنية أو الرقصة هي مسرح داخل المسرح. وهو يقدم مثالاً مأخوذًا من مسرحية الليلة الثانية عشرة لشكسبير، الجزء الثاني، المشهد 3: فست، مهرج في خدمة أوفيليا والسير توبي، من أقارب أوليفيا، يغنيان (مع تدخلات من ملفوليو خازن قصر أوليفيا). سيكون هذا موقفًا مقحمًا (يسميه هورنبي أداءً) ويمكن التعرف عليه على هذا النحو في الوقت نفسه الذي يكون فيه جزءًا لا يتجزأ من العمل الرئيسي، لأنه مصمم للسخرية من شخصية ملفوليو. ويذهب آخرون إلى أبعد من ذلك. حيث يشير خوان كارلوس غاروت زامبرانا، في بحثه المعنون ( “الميتا تياتر”، المسرح داخل المسرح والجنون)، إلى ما يقوله هيرمينغيلدو: “إنه يوجد ضمن الوظيفة ” ” الميتا تياتر” الية احتمالان: المسرح داخل المسرح، والمسرح على أو عن المسرح. الأول يذهب إلى ما هو أبعد من وجود مسرحية مضمنة محددة على هذا النحو، إذ يكفي تغيير الوظيفة من جانب إحدى الشخصيات، أو الانتقال من وظيفة “المشاهد” إلى وظيفة “المُشاهد”، أو وجود مشهدية لأننا نتعامل مع أشكال من المسرحية التي يمكن ويجب دراستها باعتبارها تنويعات للمسرح داخل المسرح، أو اشتقاقات مباشرة للعملية المذكورة”. يستشهد هيرمينغيلدو بمسرحيتين للوبي دي فيجا: “فولاذ مدريد” و”فارس أولميدو” وهما مسرحيتان أقرب إلى الخدع ويمكن مناقشة طبيعتهما “الميتا تياتر”الية. ويفضل خوان كارلوس غاروت زامبرانا، الاحتفاظ بمفهوم المسرحية الداخلية لـ “التخييل أو الخيال” الحقيقي داخل الخيال، كما في حالة مسرحية هاملت المعروفة، التي درسها هورنبي نفسه (هورنبي، 1986: صفحة 33 وما يليها). وبالمثل، فإن باحثًا صارمًا مثل فوريستيه يميز بعناية بين المسرح داخل المسرح، ولعب الأدوار، و”المسرحية الداخلية” أو التورط، والتأملات ” ” الميتا تياتر””الية، وما إلى ذلك، بينما يدرج في مجموعته المسرحية أعمالًا لا يوجد فيها “مسرحية داخلية حقيقية” باعترافه هو نفسه، مثل مسرحية “مستشفى المجانين” لشارل دي بيز: “هناك العقلاء الذين يتحولون إلى متفرجين في كل مرة يصادفون فيها المجانين، والمجانين الذين لا يعرفون أنهم مراقبون أو أنهم مجانين أيضًا”. (فورستييه، 1981: صفحة 42). يبدو أن هذا النوع من المسرحيات، عرضة للالتباس بشكل خاص. وكما تشير هيلين تروبيه إلى نفس النقطة في مقالها عن مسرحية “قاطرات فالنسيا” للوب دي فيغا و”مستشفى المجانين” (تروبية، 2007: 116). يقول خوان كارلوس غاروت زامبرانا: يأخذ الخداع نفسه في بعض الأحيان مظهر الإنتاج المسرحي الحقيقي، دون المبالغة في الإخراج. ولنفكر في مسرحية ” Argel Fingido”، التي كتبها لوب دي فيغا أيضًا، أو مسرحية “الحياة حلم” لكالديرون، وهي من المعالم التي كثيرًا ما يُستشهد بها. باختصار، هنا، كما هو الحال في جميع مسرحيات “المجانين”، يجب توخي الحذر ويظل النقاش مفتوحًا. ومع ذلك، يجب أن نؤكد على الفرق بين “التظاهر” داخل خيال من ناحية، وبين التنكر في خيال ما، أو حتى تغيير جنسه لتحقيق أهدافه بشكل أفضل، أو بين نقل شخص من مكان إلى آخر للاستفادة من نومه ومحاولة تضليله بشأن هويته، من خلال إحاطته برفاق أقوياء يسايرونه في اللعب، ومن ناحية أخرى، إدخال مسرحية على هذا النحو، داخل مسرحية أخرى تأخذ بالتالي مظهر “الواقع”. في الحالة الأولى، تظل جميع الشخصيات على نفس المستوى من الخيال، وما يتغير هو مستوى معرفتهم بـ “الواقع” الذي يتشاركونه جميعًا. أما في الثاني، فهناك مستويان من الخيال، وتصبح الشخصيات في الأول متفرّجة في الثاني، والذي له صراحة حالة عرض يؤديه الممثلون. إن إحضار الأمير سيجسموند إلى القصر، وهو غير مدرك لهويته الحقيقية، من أجل اختباره، له عواقب مختلفة تمامًا عما لو كان الملك باسيل قد دعا فرقة لأداء كوميديا “الأمير الغاضب والمعاقب”، إن المقارنة مع هاملت وجريمة قتل غونزاغا التي أعدها للبلاط الدنماركي واضحة. كما أن المعنى، والقول يعود إلى خوان كارلوس غاروت زامبرانا، ليس هو نفسه، على الرغم من أن مسرحية “الحياة حلم”، تفسح المجال جيدا لاستغلال استعارة “الحياة تساوي المسرح” في جانبها الأخلاقي المسيحي، إذا صح التعبير، ولكن للسبب نفسه يُمنع كالديرون من الإشارة إلى المسرح الحقيقي، على عكس ما حدث في مسرحية هاملت أو مسرح العالم الكبير.

ومع كل ما حاولنا أن نقدمه من أمثلة وأطروحات وعرض للأفكار التي تتعلق في مفهوم “الميتا تياتر”، والتي أخذت، نوعاً ما شكل ومحتوى البحث، نسأل: ما الذي يميز جسد المسرحيات العربية مقارنةً بالإنتاجات المسرحية الغربية الأخرى التي كانت في الوقت نفسه مشبعة بالميتا تيار أيضاً؟ نحن لا ندعي الإجابة على هذا السؤال هنا، ولكننا، نقترح، وهذا ربما السبب من وراء قراءتنا الموجزة لهذا الكتاب، الذي في رأينا، يوفر متنه النصي فهماً أفضل لهذا المصطلح وتداعياته الغامضة تقريباً، فيما يتعلق بالتسميات المختلفة له في معظم اللغات وما يقابله من بلد إلى آخر، ومظاهر المسرح داخل المسرح، واللعب داخل اللعب، والأشكال الانعكاسية والتاريخ الأدبي، والمشاكل النظرية التي رافقت نشوءه وتطوره وتبلوره في هذا النوع أو ذاك، أو عند هذا الكاتب ومدى اختلافه عند ذاك. لكن، كما يقول المؤلف: “أياً كانت التسميات المستخدمة، يمكننا أن نرى أنها جميعاً تغطي عنصراً مشتركاً يمكن تسميته” اللعب الدرامي ذات الشكل الانعكاسي”، والذي يظهر طابعه الانعكاسي على مستويات مختلفة”، (صفحة 4). وربما ستساعد هذه الترجمة أيضاً، في دفع النقاش الدائر في أوساطنا المسرحية العربية حول هذا المصطلح، إلى الأمام. وبالتالي، يبقى الهدف من هذه الترجمة ليس إيجاد تعريف مشترك أو تركيبي للمفهوم، بل دراسة أشكاله المختلفة، دون تقييد بفترة زمنية أو مناطقة ثقافية، ومن أجل دراسة أيضاً وظيفة هذا “الميتا تياتر” وآثاره.

 

المصدر : صفحة المسرح العالمي