تحليل نقدي للمصير والهوية والشرط الإنساني
أوديب الملك
لسوفوكليس
♣︎♣︎ مقدمة.
الإطار التراجيدي وسياق الرواية.
تعتبر مسرحية “أوديب الملك” (Oedipus Rex) للكاتب الإغريقي سوفوكليس (Sophocles) واحدة من الأعمال المؤسسة للتراجيديا الكلاسيكية، لا بل للفكر الغربي نفسه. كتبت المسرحية في القرن الخامس قبل الميلاد، في ذروة الحضارة الأثينية، لكنها تتخطى حدود زمنها لتصير مرآةً تعكس تناقضات الوجود الإنساني: الصراع بين الإرادة الحرّة والقدر المُحتوم، والبحث عن الحقيقة وسط ظلام الجهل، والهشاشة الكامنة في ادعاءات البشر بالسيطرة على مصائرهم. هذه المقالة النقدية تسعى لتفكيك طبقات هذا العمل عبر تحليل بنيوي، فلسفي، ونفسي، مع التركيز على كيفية تشكيل سوفوكليس لشخصية أوديب كرمز للغواية المأساوية.
♣︎♣︎ تلخيص المسرحية
حبلٌ من نار يربط بين المجد والهاوية
في قلبِ مدينة طيبة المُنهَكة، حيث تُعلّق أكاليل الزيتون على أبواب المنازل كطلبٍ للرحمة، وتُرفع البخور في معابد الآلهة المُغضبة، تُنسج خيوطُ مأساةٍ ستُخلّدها القرون. تدور عجلةُ الأحداث حول رجلٍ يُدعى أوديب، ملكٌ مُهابٌ، بطلٌ محرّر، صاحبُ ذكاءٍ حادٍّ حلَّ لغزَ السفينكس وأزال لعنتَها عن المدينة. لكن هذا التاجَ الذهبيَّ الذي يلمع على جبينه سيُصبح قريباً طوقاً من شوك. فتحت أقدامِهِ، التي حملتْه ذاتَ يومٍ إلى عرشِ طيبة، جرحٌ غائرٌ في الكعبين، إرثٌ من مهدٍ أُقصيَ منه، ونبوءةٌ قديمةٌ تتربص به كذئبٍ في الظلام.
تبدأ الحكاية بصرخةٍ جماعيةٍ تخرج من حناجر أهالي طيبة، يستغيثون بملكهم: “أنقذنا يا أوديب! فالطاعون يفتك بنا، والأطفال يُولدون ميّتين، وآلهة الموت ترفرف على أسوار المدينة!”. يستجيب أوديب بجديّة القاضي العادل، فيعلن أن سببَ اللعنة هو وجودُ “دنسٍ” في المدينة: قاتلُ الملك السابق لايوس ما زال طليقاً. هنا، يبدأ التحقيق الذي يشبه سكّيناً يقطع طبقاتِ الزمن ليصل إلى لحمِ الحقيقة النازف. يُرسل أوديب إلى العرّاف الأعمى تيريسياس، الذي تخرج كلماته كالنار من فمِ جبلٍ بركاني: “أنت الدنس الذي تبحث عنه! أنت قاتلُ لايوس!”. لكن أوديب، الذي يعتقد أن السلطةَ تُحصّنه من الخطأ، يثور كأسدٍ جريح، ويتهم كريون (شقيق الملكة يوكاستا) بالتآمر مع العرّاف للاستيلاء على العرش.
في غمرة هذا الاتهام، تتدخّل يوكاستا، الملكة/الزوجة، محاولةً تهدئة زوجها/ابنها (دون أن تعرف). تُحكي له عن نبوءةٍ قديمةٍ تلقاها لايوس: “سيُقتل على يد ابنه”، وكيف تم التخلّص من الرضيع بربط قدميه وإلقائه في البرية. لكن أوديب، الذي يحملُ ندوباً في كعبيه، يشحبُ وجهه فجأة. ذكرياتٌ قديمة تعود إليه: نبوءةٌ سمعها في كورنثا (حيث نشأ) تقول إنه سيقتل أباه ويتزوّج أمه، فهربَ من المدينة خوفاً على والديه المُتبنَّيَين. في رحلته، التقى برجلٍ متكبّر عند مفترق طرق، اشتبك معه وقتله في نوبة غضب… ثم وصل إلى طيبة، حيث حلَّ لغز السفينكس وتزوّج الملكة الأرملة يوكاستا. الآن، تبدأ الشكوكُ تنسج خيوطها: مَن كان ذلك الرجل الذي قتله؟ أليس هو لايوس؟ ومَن هو أوديب حقاً؟
تتسارع الأحداث كقطارٍ يهوي منحدراً. يصل رسولٌ من كورنثا يُعلن وفاةَ الملك بوليبوس (الأب المُتبنى لأوديب)، ويكشف بالصدفة أن أوديب ليس ابنَه الحقيقي. ثم يُجلب الراعي العجوز الذي شهد جريمةَ قتل لايوس، والذي – تحت التهديد – يعترف بأنه هو مَن سلّم الرضيعَ المشوّه القدمين إلى مبعوثي كورنثا بدلاً من قتله. في هذه اللحظة، تنكسر أقنعةُ الواقع واحداً تلو الآخر: يوكاستا تدرك قبل الجميع أن زوجها هو ابنها اللقيط، فتفرُّ إلى القصر وتشنق نفسها بحبلٍ من حرير. بينما أوديب، الذي أصرَّ على مواصلة البحث حتى النهاية، يقتحم غرفة النوم ليجد جثتها الباردة، فينتزع دبابيسَ ذهبيةً من ثيابها ويفقأ عينيه بها صارخاً: “يا للظلام! الآن فقط أرى!”.
لكن القصة لا تنتهي عند هذا المشهد المُفزع. فبينما يُخرج كريون أوديبَ الأعمى من القصر، تُعلن الجوقةُ الحكمةَ الأبدية: “لا تُدعِ سعيداً أي إنسان قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة”. ومع ذلك، تظلُّ أسئلةٌ معلقةً في الهواء: ماذا لو تجاهل أوديب تحذيرات تيريسياس؟ ماذا لو كتم الراعيُ العجوز سرَّه؟ لكن سوفوكليس لا يترك مجالاً للهروب. فكل خطوةٍ يخطوها البطلُ “حراً” تقوده إلى مصيره المحتوم، وكل كلمةٍ تُقال تُزيح الستار عن كارثةٍ جديدة. حتى أن المشاهدَ الذي يعرفُ القصةَ عن ظهر قلبٍ يُمسك أنفاسَه عند وصول الرسول من كورنثا، أو عند تردد الراعي في الكلام، وكأنه يرى للمرة الأولى كيف تُحاك الأقدار بخيوطٍ لا تُرى.
في النهاية، تتحول طيبةُ من مدينةٍ مريضةٍ إلى جثةٍ رمزية، وأوديبُ من ملكٍ مُنقذٍ إلى عارٍ يُطرد خارج الأسوار. لكن في هذا السقوط، تكمنُ العظمةُ التي تتحدث عنها الجوقة: فالبطل التراجيدي لا يُقاس بمدى قوته، بل بمدى عمق هاويته. وهكذا، تبقى “أوديب الملك” مرآةً مكسورةً نرى فيها أشلاءَ أنفسنا: خوفنا من الحقيقة، وصراعنا مع القدر، وإصرارنا الغريزي على معرفةِ ما قد يقتلنا.
والى روايات وكتب أخرى قريبا ان شاء الله
الروائى خالد حســــــين
إلى هنا انتهى التلخيص…. شكرا جزيلا
لمن أراد الاستزادة . اليكم المزيد …
♣︎♣︎ السياق التاريخي للمسرحية.
أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد كمسرح للصراع الإنساني
♧ الزمن الذي أنتج الرواية
كُتبت مسرحية “أوديب الملك” لسوفوكليس حوالي عام 429 ق.م، في لحظةٍ حرجة من تاريخ أثينا، حيث كانت المدينة تُصارع وباءً مدمرًا (طاعون أثينا 430-426 ق.م) وحربًا طاحنة ضد إسبرطة (الحرب البيلوبونيسية 431-404 ق.م). هذه السياقات ليست مجرد خلفية، بل هي نسيجٌ عضوي يُفسر لماذا اخترق العملُ الزمنَ ليصير مرجعيةً لكل نقاشٍ عن السلطة، والمعرفة، والمصير. هنا، يصير التحليل التاريخي مفتاحًا لفكِّ شفرة العلاقة بين الفن والواقع، وبين الأسطورة والسياسة.
١. الحرب البيلوبونيسية: جذور التشاؤم الأثيني
اندلعت الحرب البيلوبونيسية بين أثينا (القوة البحرية الديمقراطية) وإسبرطة (القوة البرية الأوليغارشية) بسبب صراع النفوذ في اليونان. لكن بحلول عام 429 ق.م، كانت أثينا قد خسرت زعيمها بريكليس بسبب الطاعون، وبدأت ثقة الشعب في النظام الديمقراطي تهتز. هذا السياق التاريخي يتردد في المسرحية:
– طيبة المُحاصَرة بالوباء كمرآة لأثينا المُنهَكة.
– أوديب كتجسيد لمُثُل بريكليس: الحاكم العقلاني الذي يقود المدينة بقوة، لكنه يتحول إلى “دنس” يُهدد وجودها (كما اتُّهم بريكليس بإشعال الحرب).
– سقوط البطل يعكس مخاوف الأثينيين من تحوُّل الديمقراطية إلى طغيان، وهو ما حدث لاحقًا بانقلابي “الأربعمئة” (411 ق.م) و”الثلاثين طاغية” (404 ق.م).
٢. طاعون أثينا: الوباء كعقابٍ إلهي .
وصف المؤرخ ثيوسيديدس الطاعونَ بتفصيلٍ مروّع: “الجثث تتراكم في الشوارع، والناس يموتون بلا كرامة، والآلهة تُتهم بالقسوة”. هذه الصورة تتكرر في المسرحية:
– الوباء في طيبة يُنسب إلى غضب الآلهة لتدنيس قبر لايوس، تمامًا كما فسّر الأثينيون طاعونهم كعقابٍ لدعم روما.
– الدين العاملي: كانت الشعائر الدينية (مثل استشارة عرّاف دلفي) جزءًا من إدارة الأزمات. في المسرحية، يُرسل أوديب إلى تيريسياس، العرّاف الأعمى، تمامًا كما استشار الأثينيون كهنة أبولو.
– اللغة الطقسية: صرخات الجوقة (“يا زيوس، انقذنا!”) تُحاكي صلوات الأثينيين اليائسة.
٣. الديمقراطية الأثينية: بين العقل والتابوهات.
وُلدت المسرحية في عصر ازدهار النظام الديمقراطي (حكم بريكليس 461-429 ق.م)، لكنها تعكس تناقضاته:
– محاكمة أوديب الذاتية كاستعارةٍ لمحاكمات الأثينيين العلنية، حيث يُحاكم القادة أمام الجمهور (كما حدث لاحقًا مع سقراط).
– صراع العقل مع التابوهات: أوديب، بذكائه الذي حلَّ لغز السفينكس، يمثِّل العقلانية الأثينية الناشئة، لكن اكتشافه أنه “ابن العار” يذكّر بأن النظام الاجتماعي قائم على تابوهاتٍ دينية (الزواج من الأم، قتل الأب).
– دور الجوقة كتمثيلٍ لـ”ديموس” (الشعب الأثيني) الذي يتأرجح بين التأييد والنقد، مُجسدًا صراع الفرد مع المؤسسة.
٤. الدين والأساطير: الآلهة كقوى سياسية.
لم تكن الآلهة في المسرحية كياناتٍ مجردة، بل فواعلَ سياسيةً تُشبه الأحزاب:
– نبوءات أبولو كسلطةٍ عليا تُحاكم الحكام، تمامًا كما استخدم الأثينيون الدين لتبرير قراراتهم (مثل غزو صقلية 415 ق.م تحت ذريعة دعم معبد أبولو).
– المياسما (التدنيس الروحي): فكرة أن جريمةً واحدةً تُلوث المدينة كلها كانت ركنًا في القانون الأثيني. ففي 432 ق.م، نُفي القائد ألسيبايديس بتهمة تدنيس تماثيل هيرميس، تمامًا كما يُنفى أوديب.
– العرّاف تيريسياس كرمزٍ لصراع السلطات: الكهنة مقابل الملوك، الدين مقابل الدولة.
٥. الفلسفة والسياسة: صراع السفسطائيين مع التقليد.
تصادف المسرحية صعودَ حركة السفسطائيين، الذين شككوا في الثوابت:
– بروتاغوراس (“الإنسان مقياس كل شيء”) vs سوفوكليس: المسرحية تُظهر أن الإنسان ليس مقياسًا، بل أداةً في يد القدر.
– النقد الضمني للديمقراطية: عندما يتهم أوديب كريون بالتآمر، يعكس ذلك مخاوف الأثينيين من انقلاب الديمقراطية إلى فوضى (كما حدث في 411 ق.م).
– أوديب كنموذجٍ تراجيدي: سقوطه يُذكّر بأن “الفضيلة” (أرِتِه) وحدها لا تكفي لإنقاذ البطل في عالمٍ تسوده الفوضى الأخلاقية.
٦. الحرب كخلفيةٍ سايكولوجية: العنف المُكبَت .
لم تكن الحرب البيلوبونيسية صراعًا عسكريًا فحسب، بل حربًا نفسية:
– قتل الأب: قتل أوديب لايوس عند مفترق طرق يُحاكي الاشتباكات الحدودية بين أثينا وإسبرطة، حيث كانت المذابح العشوائية تُمارس كتكتيكٍ لإضعاف العدو.
– الاغتراب: أوديب الغريب عن أصوله يعكس أزمة الهوية الأثينية بعد توسع الإمبراطورية واختلاط الثقافات.
– الجنون الجماعي: انتحار يوكاستا وجنون أوديب يُجسدان الصدمة النفسية لشعبٍ عانى ويلات الحرب والطاعون.
★★★ لماذا يُعيد التاريخ إنتاج أوديب؟
لم تكن “أوديب الملك” مجرد تعبيرٍ عن عصرها، بل تشخيصًا لأزمةٍ إنسانيةٍ تتكرر عبر العصور: صراع الحضارة مع الهمجية الكامنة فيها، والثمن الذي يدفعه الفرد عندما تُكسر التابوهات. في أثينا القرن الخامس، حيث بدأت الإمبراطورية تتحول إلى غولٍ يلتهم أبناءها، صارت المسرحية نبوءةً عن انهيارٍ قادم. لكن بقاءها حتى اليوم يُثبت أن التاريخ ليس سلسلة أحداث، بل حوارٌ متواصل بين الماضي والمستقبل، حيث تظلُّ أسئلة أوديب — عن الهوية، والحرية، وثمن المعرفة — هي البوصلة التي نتحرى بها اتجاهَنا.
♣︎♣︎ ما بين السطور في “أوديب الملك”:
الهواجس الخفية لسوفوكليس.
المقدمة: المسكوت عنه كمرآة للقلق الجمعي
لا تكمن عبقرية سوفوكليس في ما قاله، بل في ما أخفاه بين طيات الحوار والرمز. فـ”أوديب الملك” ليست مجرد حكاية عن رجلٍ هزمته نبوءة، بل هي مرثيةٌ لفقدان اليقينيات في عصرٍ تتصادم فيه العقلانية مع الأسطورة، والسلطة مع الهشاشة. هنا، نحفر تحت سطح النص لاستخراج الهواجس التي لم يُصرح بها المؤلف، لكنها تُخترق كالرصاص من ثقوب الكلمات.
١. نقد السلطة: المُنقِذ الذي يتحول إلى طاعون
رغم أن سوفوكليس كان مقربًا من النخبة الأثينية (ككاهنٍ في عبادة أسكليبيوس)، فإن المسرحية تحمل نقدًا لاذعًا للسلطة المطلقة:
– أوديب، بادعائه امتلاك الحقيقة (“أنا أوديب الذي لا يُضاهى في الفطنة”)، يُجسِّد جنون العظمة الذي أصاب قادة أثينا خلال الحرب البيلوبونيسية، مثل كليون الذي أصرَّ على استمرار الحرب رغم الخسائر.
– تحوُّل البطل من “منقذ المدينة” إلى “مصدر دنسها” يُذكِّر الجمهور بأن الطغاة يولدون من رحم الأزمات نفسها التي يُقسمون على حلها.
– حرق أوديب لعينيه هو استعارةٌ صارخةٌ عن ضرورة “إعماء” الحكام الذين يُصابون بالعمى الأخلاقي.
٢. الأسطورة كأداة سيطرة: هل الآلهة أكذوبة ضرورية؟
العبقرية الكامنة في المسرحية هي تفكيكها للخطاب الديني السائد:
– النبوءات التي تتحقق رغْم محاولات تجنبها تُظهر أن “القدر الإلهي” قد يكون مجرد آليةٍ لشرعنة الفوضى. فحتى الكهنة (مثل تيريسياس) لا يملكون إجاباتٍ حقيقية، بل يلعبون دور الوسيط بين البشر والغموض.
– الجوقة التي تُردد: “الآلهة تعلم كل شيء” تُناقضها لاحقًا بصوتٍ مرتجف: “أين العدالة الإلهية؟”. هذا التناقض يعكس شكوكًا كانت تُهمس في أثينا مع صعود الفلسفة المادية.
– اختيار سوفوكليس لأسطورةٍ قديمة وإعادة صياغتها يشي برغبةٍ في تحرير المجتمع من سطوة الماضي، عبر جعله يُواجه تناقضاته.
٣. الأنوثة المكبوتة: يوكاستا كضحية صامتة
يوكاستا، التي تختفي من المشهد قبل النهاية، تحمل رسالةً مبطنةً عن دور المرأة كـ”أرضٍ تُحرث” في الصراعات الذكورية:
– انتحارها ليس فعل يأس، بل احتجاجٌ على نظامٍ يجعل جسد الأنثى ساحةً لحرب المصائر. فهي الضحية الوحيدة التي لم تُخطئ، لكنها تدفع ثمن خطيئة الرجال (لايوس الذي حاول قتل ابنه، وأوديب الذي قتل الأب وتزوج الأم).
– مشهد التلويح بجثتها (الذي لا يُعرض على المسرح) يُشير إلى أن جريمة الزواج من الأم ليست جنسية، بل سياسية: اغتصابٌ لسلطة الأمومة التي تُهدد النظام الأبوي.
٤. المعرفة كفعلٍ انتحاري: ثمن كسر التابوهات
سوفوكليس، الذي عاصر محاكمة سقراط (399 ق.م)، يُحذِّر من أن الحقيقة المطلقة قد تكون سمًّا:
– أوديب الذي يصرخ: “يجب أن أعرف!” يُشبه الفلاسفة الذين تحدوا التابوهات، فانتهوا منفيين أو مسمومين.
– اكتشاف الذات هنا ليس تحررًا، بل سقوطًا في الهاوية. كأن المؤلف يقول: “هناك أسئلةٌ يجب أن تبقى بلا إجابات، وحقائقُ تُدفن لتبقى المدينة قائمة”.
– عمى أوديب الاختياري بعد المعرفة هو اعترافٌ بأن البصر الحقيقي يُعمي، وأن الجهل قد يكون نعمة.
٥. الهوية الهشة: الوطن كمكانٍ مختلَق
أوديب الغريب عن أصوله، والذي يكتشف أنه “ابن الأرض” (كإشارةٍ إلى أسطورة الولادة من الأرض في الثقافة اليونانية)، يحمل رسالةً عن هشاشة الانتماء:
– هروبه من كورنثا (الوطن المزيف) إلى طيبة (الوطن القاتل) يُجسِّد أزمة المهاجرين الأثينيين الذين فقدوا جذورهم في زحمة التوسع الإمبراطوري.
– ندوب قدميه ليست دليلًا على جرحٍ جسدي، بل علامةٌ على أن الهوية تُولد من الألم.
– طرده من طيبة في النهاية يُذكِّر بأن الوطن قد يُنكر أبناءه حين يُكشف عواره.
★★★ المسرحية كجريمةٍ مثالية
ما لم يقله سوفوكليس صراحةً، لكنه زرعه كبذرةٍ في عقول الجمهور، هو أن “أوديب الملك” ليست عن لعنةٍ قديمة، بل عن جرائم الحاضر:
– جريمة السلطة التي تلبس قناع البطولة.
– جريمة الدين الذي يُخفي عجزه وراء غموض النبوءات.
– جريمة المعرفة التي تفتح أبواب الجحيم.
– جريمة الهوية التي تُشوِّه القدمين لتبني عرشًا.
هكذا، يصير العمل أشبه بمرآةٍ مُشَظَّاة، يُعيد كل عصرٍ تركيبها ليرى وجهه بين شظاياها.
https://www.facebook.com/NovelistKhaledHussein?mibextid=ZbWKwL
♣︎♣︎ نبذة عن سوفوكليس:
سيرة حياة أبو التراجيديا الإغريقية وتشكيل الوعي الإنساني.
♧ إرثٌ يُلامس الأبدية
سوفوكليس (496-406 ق.م) ليس مجرد كاتب مسرحي، بل هو مهندسٌ للروح الإغريقية. عاصر ازدهار أثينا الديمقراطية تحت حكم بريكليس، وشهد انهيارها في الحرب البيلوبونيسية. عبر 123 مسرحيةً (لم يبقَ منها سوى 7)، صاغ مفاهيمَ المصير، والحرية، والكبرياء الإنساني، التي لا تزل تُدرس كأسسٍ للفكر الغربي. هذه السيرة تغوص في حياة الرجل الذي حوَّل المأساة من طقسٍ ديني إلى فنٍّ فلسفي.
١. النشأة: بين عبقرية المكان وامتياز النسب
وُلد سوفوكليس في عام 496 ق.م ببلدة كولونوس القريبة من أثينا (التي جعلها لاحقًا مسرحًا لآخر أعماله: “أوديب في كولونوس”). كان ابنًا لصوفيلوس، صانع أسلحةٍ ثري، مما وفّر له تعليمًا نخبويًا:
– التدريب الجسدي: برع في الموسيقى والرياضة، وفاز عام 480 ق.م بقيادة جوقة النشيد الاحتفالي بانتصار اليونان على الفرس في سلاميس.
– التلمذة على يد إيسخيلوس: تأثر بمسرحياته، لكنه تمرد على أسلوبه المليء بالعنف المباشر والصراخ.
– البيئة الثقافية: نشأ في عصرٍ كان يتخلّى عن الأساطير البدائية نحو تفسيراتٍ عقلانية، وهو ما انعكس على أعماله التي حوّلت الآلهة من محركٍ رئيسي للأحداث إلى قوةٍ غامضة في الخلفية.
٢. التعليم والتحوُّل إلى مسرح الحياة
لم تكن المسرحيات مجرد فنٍّ لسوفوكليس، بل وسيلةً لاستكشاف الإنسان:
– فلسفة التربية الأثينية: درس الشعر والفلسفة، لكنه تجنب الانخراط في الجدالات السفسطائية، مكتفيًا بتسليط الضوء على التناقضات عبر الدراما.
– الانتماء الديني: ككاهنٍ في عبادة أسكليبيوس (إله الطب)، طوَّر فهمًا عميقًا لثنائية الجسد والروح، التي تجلّت في شخصياتٍ مثل أوديب المُدنَّس جسديًا.
– التأثر بهوميروس: أعاد صياغة ملاحم الإلياذة والأوديسة في قالبٍ درامي، كما في مسرحية “فيلوكيتيس” التي تستلهم رحلة أوديسيوس.
٣. المسيرة الفنية: من ديونيسيا إلى الخلود
في عام 468 ق.م، شارك سوفوكليس في مسابقة “ديونيسيا” المسرحية لأول مرة، وهزم أستاذه إيسخيلوس، لتبدأ مسيرةٌ حصد فيها 24 انتصارًا (رقم قياسي في عصره):
– الابتكارات الدرامية:
– إدخال الممثل الثالث، مما سمح بتعقيد الحوار وخلق صراعاتٍ ثلاثية الأبعاد.
– تقليل دور الجوقة، وتحويلها من راويةٍ إلى “ضمير الجمهور”.
– استخدام الديكور المسرحي (مثل الآلات التي تُظهر الجثث في “أنتيجون”).
– المنافسة مع يوريبيدس: بينما كان يوريبيدس يفضح زيف الآلهة، دافع سوفوكليس عن قدسية التقاليد، وإن بشكلٍ نقدي.
٤. الحياة السياسية: بين المسرح وساحة المعركة
لم يكن سوفوكليس منعزلًا في برجٍ فني، بل لاعبًا رئيسيًا في السياسة الأثينية:
– المناصب العامة:
– هيلينوتامياس (مدير الخزانة الأثينية 443-442 ق.م): أشرف على أموال الاتحاد الديلي، مما أثار جدلاً حول تعامله مع الأموال العامة.
– استراتيجوس (قائد عسكري 440 ق.م): قاد الحملة ضد ساموس المتمردة، وهو حدثٌ ساخرٌ إذا تذكرنا أن مسرحيته “أنتيجون” تدور حول تمرد الفرد ضد الدولة.
– الموقف من الديمقراطية: دعم النظام لكنه انتقد تطرفه، كما في تصويره لكريون (في “أنتيجون”) كطاغيةٍ متعطش للسلطة.
٥. التحديات: عصرٌ من الدم والطاعون
واجه سوفوكليس تحديين وجوديين طبعا أعماله:
1. الحرب البيلوبونيسية (431-404 ق.م):
– خسارة أثينا لزهرة شبابها في المعارك، وهو ما يُترجم في مسرحياته التي تكرس فكرة “الفرد المنكسر” مقابل المجتمع.
– تصاعد النزعة التشاؤمية، كما في جملة أوديب: “الإنسان ذرة لا تساوي شيئًا”.
2. طاعون أثينا (430-426 ق.م):
– موت ثلث السكان، بما فيهم أصدقاؤه وأبناء مسرحه.
– انعكاس الوباء في مسرحية “أوديب الملك” كعقابٍ إلهي، وكأنه يسائل: هل الأزمات صناعة بشرية؟
3. الصراع الأبدي مع الشيخوخة: كتب آخر أعماله (“أوديب في كولونوس”) في سن التسعين، مُتحديًا التقاليد التي تنظر للشيخوخة كعار، حيث يصير أوديب العجيزة الأعمى مصدرًا للبركة.
٦. الأعمال الرئيسية: بصماتٌ على جدار الزمن
من أصل 32 مسرحية وصلتنا 7، كلّ منها عالمٌ قائم بذاته:
1. “أوديب الملك” (429 ق.م): دراسةٌ عن العمى المعرفي، وحجر الزاوية في التحليل النفسي الفرويدي.
2. “أنتيجون” (441 ق.م): صراع القانون الإلهي مع البشري، وكارثة الطاعة العمياء للسلطة.
3. “إلكترا” (410 ق.م): إعادة اختراع أسطورة أوريستيا، مع تركيزٍ على ثأر الأنثى المقهورة.
4. “أوديب في كولونوس” (401 ق.م): تأملٌ في الغفران والموت، كتبه وهو على فراش الاحتضار.
5. “المرأة التراخينية” (450 ق.م): مأساة زوجةٍ تخونها الأقدار، وتفكيكٌ لأسطورة هرقل.
6. “فيلوكيتيس” (409 ق.م): استعارةٌ عن الخيانة السياسية واستغلال المعاناة الإنسانية.
7. “أياكس” (445 ق.م): تحليلٌ لجنون العظمة والانتحار كفعلٍ احتجاجي.
٧. الإرث: عندما يصير الكاتب أسطورةً
– التأثير على الفلسفة: اعتبره أرسطو في “فن الشعر” نموذجًا للتراجيديا الكاملة.
– الثالوث التراجيدي: يُذكر مع إيسخيلوس ويوريبيدس كأعمدة المسرح الإغريقي.
– الثقافة المعاصرة: من التحليل النفسي الفرويدي إلى مسرحية “الآلهة يسقطون” لجان أنوي، ظلَّت أعماله مرجعًا لكل نقاشٍ عن الهوية والمصير.
– اللغز الأكبر: لم يُعثر على قبره، وكأنه أراد أن يختفي كأبطاله، تاركًا أعماله تتحدث عنه.
★★★ الكاتب الذي صار مسرحًا
لم يكتب سوفوكليس عن أوديب، بل كان هو أوديب: الرجل الذي رأى بأعين أثينا العمياء، والذي دفع ثمن رؤيته بالعزلة. في آخر أيامه، حوكمَ بتهمةِ “جنون العظمة” لدفاعه عن ابنه المثقل بالديون، لكن التاريخ برَّأه، ليبقى شاهدًا على أن الفنَّ الحقيقي هو من يكتب حياته، لا مجرد حكايات.
بقلم
الكاتب والروائى خالد حسين
#