توظيف التراث الفرعوني في مسرح علي أحمد باكثير
د.علي خليفة
(1)
إنها لظاهرة جديرة بالدراسة في مسرح علي أحمد باكثير، وهي توظيفه التراث الفرعوني في بعض المسرحيات التي كتبها، وهي أربع مسرحيات؛
هي: مسرحية “أوزوريس”، ومسرحية “إخناتون ونفرتيتي”، ومسرحية “الفلاح الفصيح”، ومسرحية “الفرعون الموعود”، ويعد باكثير أكثر كاتب – في جيل رواد كتابة المسرحية المتقنة في المسرح المصري والعربي – اهتم بتوظيف التراث الفرعوني في مسرحه، وذلك رغم كونه يعود لأصول يمنية، واستقر في مصر في مطلع شبابه.
ولا شك أنه يحسب لباكثير اهتمامه بالتراث الفرعوني في مسرحه، فلا شك أنه قد أدرك أهمية هذا التراث الفرعوني بالتنوع الكبير فيه؛ ما بين قصص وأساطير وأحداث تاريخية، واستطاع أن يصوغ منه بعض مسرحياته التي عبرت عن بعض رؤاه وأفكاره، وكان لبعضها إسقاطات على الواقع.
(2)
وأول شكل من أشكال توظيف التراث في مسرح باكثير هو توظيفه الأساطير الفرعونية فيه، ونرى ذلك في مسرحية “أوزوريس” التي وظف فيها أسطورة إيزيس وأوزوريس، وقد اكتمل شكل هذه الأسطورة في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، وذكر هيرودوت في تاريخه أنه حين زار مصر رأى الكهنة يمثلون هذه الأسطورة، أمام جماهير الناس في مصر، وكانوا يقومون بتمثيل أجزاء منها بعيدًا عن الجمهور في غرفة الأسرار المقدسة.
ولم يستطع باكثير في معالجته هذه الأسطورة في مسرحية “أوزوريس”
أن يُخَلِّصَها من الجوانب الخارقة فيها التي لا يقبلها العقل؛ ولهذا رأينا إيزيس فيها تستطيع أن تشفي ابن حاكم جبيل من مرضه العضال عن طريق السحر،
كما أنها تعيد لأوزوريس الحياة بعد أن مكث في التابوت المغلق عليه عدة أيام
– أو عدة شهور – وذلك عن طريق السحر وقراءة بعض التعاويذ، والقيام ببعض الرقصات.
كما أن باكثير قد وافق هذه الأسطورة في جعل إيزيس وأوزوريس وست ونفتيس إخوة، ومع ذلك فقد تزوج أوزوريس من إيزيس، وتزوج ست من نفتيس، وهذا الزواج للمحارم كان معروفًا عند الفراعنة، ولكنه يخالف الذوق العام الحالي، كما أنه يتعارض مع الروح الإسلامية التي نراها في هذه المسرحية من خلال تضمين بعض الحوارات فيها لبعض معاني آيات من القرآن الكريم،
كما هو شأن باكثير في كثير من مسرحياته، وهذا التناص القرآني في مسرحياته ظاهرة تستحق الدراسة.
وإذا كان باكثير قد تفوق على توفيق الحكيم في معالجة أسطورة شهريار وشهرزاد في مسرحية “سر شهرزاد” لباكثير، فإن توفيق الحكيم قد تفوق على باكثير في معالجة أسطورة إيزيس وأوزوريس، فقد فَرَّغَ توفيق الحكيم هذه الأسطورة من كل الخوارق التي فيها في معالجته لها في مسرحية “إيزيس”، وهذا ما لم يستطع عمله باكثير في مسرحية “أوزوريس”.

(3)
ومن أشكال توظيف باكثير الأخرى للتراث الفرعوني في مسرحه توظيفه الحكايات والقصص الفرعونية الممتزجة بالأساطير فيه، كما نرى ذلك في مسرحية “الفرعون الموعود”، فقد اعتمد باكثير في هذه المسرحية على قصة الأخوين الفرعونية التي ذُكِرَتْ في إحدى البرديات، ومزجها ببعض الأساطير.
وفي هذه المسرحية نرى الأخ الأصغر باتا قد تضايق من زوجة أخيه الأكبر، وقد حاولت كثيرًا أن تغريه بنفسها، ولكنه كان يصدها، وظن أن كل النساء مثلها، فترك مصر، وعاش في أحد سفوح جبال لبنان بعيدًا عن صخب المدينة، ونصحه شخص حكيم بالزواج من الفتاة القروية سيرونا، وعَرَّفَه أنها ليست كبعض نساء المدن التي اشتكى منهن.
ويتزوج باتا من سيرونا، ويعود بها لمصر بناء على رغبتها، وتغريها زوجة أخيه الأكبر بالعيش مثل أهل المدن، وتصطحبها للفرعون في قصره، فيعجب بها، ويحثها على الطلاق من باتا ليتزوجها، فتوافقه على هذا، وتنقلب على باتا، وتُطلق منه، وفي الوقت نفسه تَدَّعي زوجة الأخ الأكبر له أن باتا راودها عن نفسها، فيأمر أخاه بترك البيت الذي كانوا يعيشون فيه.
وحتى قبيل المشهد الأخير في هذه المسرحية نرى الأجواء واقعية فيها، ولكننا نرى الأجواء الأسطورية في المشهد الأخير منها، فيأتي باتا إلى سيرونا في قصر الفرعون ومعه خنجر ليقتلها به، ولكنها تحتال عليه حتى تتمكن من أخذه منه بادعائها أنها ما زالت تحبه، ثم تغدر به وتقتله، وتنبت شجرة في المكان الذي قتلت فيه سيرونا باتا، وكانت دائمًا ترى فيها طيف باتا، وقبل أن تقتلع هذه الشجرة بأمر الفرعون تخرج منها فراشة، وتدخل في أنف سيرونا، وتحمل وتلد
في اللحظة نفسها، وقبل أن يقتل هذا الوليد بأمر الفرعون يهرب، ويكبر فجأة، ويكون صورة من باتا، وينتقم من هذا الفرعون الظالم مع بعض جموع الشعب، ويعفو عن أمه.
وهكذا رأينا أحداثًا عجيبة لا تتفق مع الواقع والمنطق في المشهد الأخير من هذه المسرحية، خلاف ما كان فيها قبله من أحداث واقعية استلهم المؤلف أكثرها من قصة الأخوين الفرعونية، ولا شك أن هذا المشهد الأخير في هذه المسرحية قد أضعفها، وجعلها هشة في بنائها.
(4)
ونرى أيضًا من صور توظيف باكثير للتراث في مسرحه توظيف بعض الحكايات والقصص الفرعونية فيه دون مزجها بالأساطير، كما نرى ذلك في مسرحية “الفلاح الفصيح” التي اعتمد في كتابته لها على قصة “الفلاح الفصيح” الفرعونية التي ذُكِرَتْ في إحدى أوراق البردي، وهي تحكي عن فلاح عاش في الأسرة التاسعة أو العاشرة حول إهناسيا، وكان معروفًا بشدة فصاحته التي أبهرت الفرعون نفسه.
ويحسب لباكثير في هذه المسرحية أنه لم يمزج بها أي أسطورة من الأساطير، بل جعلها تجري في أجواء واقعية، وجعل لها إسقاطات على واقعنا، فالفرعون فيها يرمز للملك فاروق الذي خضع لبعض بطانته الفاسدة، فأساءت له عند الشعب؛ مما عجل بسقوطه.
وكذلك يحسب لباكثير في هذه المسرحية أنه جعلها مسرحية كوميدية رغم استلهامه أحداثها من إحدى القصص الفرعونية.

(5)
والصورة الرابعة والأخيرة التي نراها في توظيف باكثير للتراث الفرعوني نراها في توظيفه بعض الأحداث التاريخية الفرعونية فيه، كما نرى ذلك في مسرحية “إخناتون ونفرتيتي” التي استوحى أحداثها من التاريخ الفرعوني من حياة الفرعون إخناتون أو أمنحتب الرابع المتوفى سنة 1336 ق. م ، وكان قد حكم مصر سبعة عشر عامًا، وأقام عاصمة لملكه هي أخيتاتون في مدينة المنيا.
ولعل باكثير هو أول كاتب مسرح عربي يستلهم جوانب من حياة إخناتون في مسرحه، وقد كثرت المسرحيات بعده التي استلهمت جوانب من حياته؛ لأنه كان أول من دعا للتوحيد في مصر، ودعا أيضًا لنبذ الحروب ولنشر السلام، ونتج عن دعوته هذه أن فقدت مصر بعض مستعمراتها في الشمال، وتَأَلَّبَ كهنة آمون وبعض قادة الجيوش في مصر ضده، فَقُتِلَ أو اختفى في أجواء غريبة.
وتعد مسرحية “إخنانون ونفرتيتي” من أوائل المسرحيات التي كتبها باكثير، كما أنها أول مسرحية تُكْتبُ في الأدب العربي بالشعر الحر.
ونرى في هذه المسرحية بعض العيوب، ومنها ضعف البناء الدرامي، وسطحية بناء الشخصيات، واستخدام كثير من الألفاظ الغريبة، وطول الحوارات.
ونرى في هذه المسرحية خطين دراميين؛ أولهما عن حزن إخناتون لوفاة زوجته الأولى تادو، ورغبة أمه في أن تنسيه هذا الحزن، بسعيها لتزويجه من زوجة أخرى هي نفرتيتي، والخط الدرامي الآخر في هذه المسرحية عن قرارات إخناتون الغريبة على مجتمعه التي اتخذها بعد أن صار حاكمًا على مصر، ومنها دعوته لعبادة إله واحد هو آتون، ورمز له بقرص الشمس، وأمره بإيقاف الحروب، وعودة الجنود المصريين من بعض المستعمرات في الشمال، ونتج عن ذلك ثورة كهنة آمون وبعض الجند وقادتهم عليه، وانتهى الأمر بقتله.

بقلم د. علي خليفة

المصدر: صفحة المسرح العالمي