الروائية لينا هويان الحسن لـ”الثورة”: خبأتُ صقراً في قلبي وفردتُ جناحي
الثورة – سعاد زاهر:
يُقاس حضور الكاتب بتفرّد مواضيعه وغزارة أعماله التي يُعاد طبعها، مما يعكس رضا القارئ والناشر معاً، أما وفرة الإنتاج، فهي العلامة الفارقة التي تجعل الكاتب حاضراً بقوة وثقة يتمناها كل كاتب..
وتُعدّ الروائية لينا هويان الحسن من أبرز الكاتبات في تجديد مواضيع قلمها وغزارة نتاجها، قدّمت خلال العام الفائت عملين أدبيين، أولهما: مجموعة قصصية بعنوان “أشباح الحبيبات”، تحمل في طياتها شذرات منتقاة من تاريخ قصور سوريا، اشتهرت بأنها مسكونة بالأشباح، أما النص المفاجأة، كما وصفه النقاد والقرّاء- ومنهم الكاتب السعودي هاشم الجحدلي، والكاتب الأردني جلال برجس- فهو “نجمك العاشق”.
– نجري اليوم حوارنا معكِ، وقد كنتِ يوماً ما زميلة لنا في صحيفة الثورة الرسمية، ومن بين الذين اختاروا الانشقاق ومغادرة سوريا في خريف 2012، كيف استقبلتِ صباح الثامن من كانون الأول؟.
كانت كأنها لحظة ضوء بعد سنين من العتمة، ضوء فقدنا الأمل بأن تمتد يد القدر الشجاع لتشعله، لم أبتعد كثيراً عن دمشق، اخترتُ بيروت لقربها الجغرافي، وللتشابه الكبير بينها وبين الشام، كان اختياري لها عاطفياً ووجدانياً، لم أسمح لليأس أن يبعدني أكثر، كما كنتُ أحمل يقيناً لا أعرف مصدره أن الشام ستتحرر وبالفعل، قبيل الثامن من ديسمبر/ كانون الأول، بدأت أخبر المقرّبين مني، ومنهم أهلي، أن التغيير الذي نحلم به قادم، يعلم من حولي أنّني “عرّافة” حين أريد.
– تبدو لينا في نصّها الجديد “نجمك العاشق” كمن حرّر جناحيه وفرد ريشه مع الكلمات، فكانت النتيجة عملاً ينتمي إلى ما يُعرف بالكتابة الحرّة في الغرب، وهو طراز أدبي غير شائع في سوق الكتاب العربي، ماذا تخبرينا عن كتابك…
“كتاب الحظ – نجمك العاشق” الصادر حديثاً عن دار “تنمية” في القاهرة، والذي وقّعتِه مؤخراً في معرض أبوظبي للكتاب؟.
“نجمك العاشق” هو خلاصة اطلاع طويل ومكثف على الثقافة، والفن، والميثولوجيا، والتاريخ، والأساطير، والسينما، والأدب، حتى الفلك كان حاضراً، إذ أغوتني فكرة إعادة قراءة الأبراج والنصوص الأصلية للفلك بعيداً عن الدجل المنتشر على وسائل التواصل، لا أزعم أنّني أحارب هذا الخراب، فهي حرب خاسرة، لكنني تبعت شغفي، وكتبت نصاً متحرراً من التصنيف الأدبي، وهذا في صالحه، فالحريّة تبدأ هنا، بأن تمنح القارئ نصاً جديداً بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى وأبعاد وأعماق.
– غزارة الإنتاج وتنوّعه من السمات الأبرز لك كروائيّة، ونراك حاضرة في عدة دور نشر ومدن عربية مثل بيروت، القاهرة، بغداد، الجزائر، طنجة، ما المسافة التي تحاولين ردمها عبر هذه الخريطة العربية التي تعيد طباعة أعمالك؟.
كتبنا تتحدث عن الطريقة التي ينبغي أن نكبر ونتطور بها، لينا التي وقّعت “سلطانات الرمل” في شتاء 2010 بالكويت، ليست هي ذاتها لينا التي وقّعت “ليست رصاصة طائشة…” في الدار البيضاء عام 2020، ولا هي لينا التي وقّعت “نجمك العاشق” في -أبوظبي-، في العام المقبل سأكون لينا جديدة أيضاً.
– كتاباتك تحيي أنفاس الأسطورة بلغة سردية، مما يُدرجها ضمن ما يتجاوز التقاليد الأدبية، و”نجمك العاشق” احتفال أدبي بسحر الأسطورة والفلك، ماذا عن ثيمة “الكتابة الصحراوية” التي شكّلت انطلاقتك الحقيقية في عالم الأدب، لا سيما أن روايتك “سلطانات الرمل” ما زالت تُعدّ علامة فارقة في أدب الصحراء؟.
رغم غزارة نتاجك، لم نقرأ لك روايات حديثة مستلهمة من عالم البادية السورية، ألم تعد تغريك البداوة؟.
نمتُ تحت سماء لا سقف لها سوى النجوم، ثم نمتُ تحت سقف من نجف وأضواء مزيفة، لكن رأسي لم يغادر السماء التي تسرح بها مجرّة درب التبانة.
حملتُ معي البساطة التي لا تُنسى، وحاربتُ بها تعقيد المدينة الذي لا يُحتمل، قلبي من الصحراء، واجهتُ به وحوش المدن التي لا قلوب لها، سأقول لك شيئاً: كلّ متوحش هو من فقد قلبه، وسيحارب من يملكه، لهذا انتصرتُ دائماً بفضل قلبي الصحراوي، خبأتُ صقراً في قلبي وفردتُ جناحي، ليكون قلبي طائراً جارحاً في سماء لا نهاية لها، نعم، كتبتُ عن الشام وحلب، لكن رأسي وقلبي ودمي هناك، حيث عدَت ذات يوم خيول أصيلة كان وزنها ذهباً.
– احتفلتِ مؤخراً بطبعة جديدة لروايتك “ألماس ونساء” التي احتفت بنساء الشام ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، لفتتني صورة السيدة على الغلاف، والتي تمسكتِ بها رغم توالي الطبعات؟.
أنحازُ للمرأة الفاتنة “الأنثى”، كانت بيوت الشام تحتفل بكلّ مولود بقطعة ألماس، وكان هذا تقليداً اندثر مع اختراع “إكسسوارات التنك”، لا أظن أن هناك مدينة تضاهي “الشام” بحريرها، وهذا ليس مجازاً، فالمرأة الشامية هي أكثر نساء الأرض احتفالاً بأنوثتها، أنوثة موروثة من التاريخ العريق.
اخترتُ صورة قديمة بالأبيض والأسود لسيدة شامية فائقة الجمال والثقة، بزينة أرستقراطية مقصودة، أنا مغرمة بكل ما هو أرستقراطي وملكي، لأنهما ذروة الحضارة والأناقة.
– صرّحتِ في أكثر من لقاء بأنكِ لستِ “نسوية”، بل منحازة لكتابة “الأنوثة”، ما الذي تقصدينه بذلك؟
هذا الموقف ليس مصادفة، كدارسة للفلسفة، تعرّفتُ إلى نشأة مصطلح “النسوية” وظروف ظهوره، وكان صوتاً شرعياً وضرورياً في زمنه، لكن كثيرات من الكاتبات اليوم يرددن المصطلح من باب العادة، دون معرفة خلفيته وسياقه، أنحازُ للأنوثة المتعالية والنقية من أمراض الاسترجال، يأتي هذا الانحياز بعد اطلاع كامل على الفلسفات والرؤى الفكرية التي أنتجت “النسوية”.
– بدأتِ موضوعات مختلفة منذ روايتك “حاكمة القلعتين” التي تناولت السحر وتقاليده، وهو ما اعتبره النقاد استكشافاً شجاعاً لتعقيدات الأسطورة، ما المفاجآت القادمة من قلم خرج مؤقتاً من “هستيريا الرواية” في الساحة العربية؟
اللعبة كلّها في مختبر الكتابة، فتنة الفرار من قوالب الرّواية الجاهزة، والذهاب إلى أماكن تتفاداها الكتابة الأخرى خوفاً أو جهلاً، ظلّت الكتابة لي إثارة خالصة، “نجمك العاشق” مثال على متعة تحويل موضوع حميم إلى سردية لا يقيّدها زمان أو موسم أو تصنيف، دعنا نقُل: نص حرّ وكفى.
– كتبتِ ثلاثة نصوص للأطفال وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد، وتُدرّس روايتك “البحث عن الصقر غنّام” في بعض المدارس العربية، لماذا لم نقرأ لك جديداً في هذا المجال؟
في البداية، دفعتني الجائزة إلى الكتابة للأطفال، لكن الفكرة ترسّخت لاحقاً في قلبي وذهني، وسيكون لدي أعمال قادمة في هذا المجال، سواء كانت هناك جائزة أم لا، أنا أكتب بدافع “الهوى”، حالما تأكلني حالة الشغف، أكتب، بلا مبرر سوى الكتابة ذاتها.
– وماذا عنكِ والشام من جديد؟ رأينا صوركِ في المكتبة الظاهرية تحتفلين بذكرى 8 ديسمبر بطريقتك؟
أحتفل مع التاريخ، مع الكتب، مع المكان الذي أحببته كثيراً، كنتُ من روّاد المكتبة في سنواتي الجامعية الأولى، قبل نقل معظم كتبها إلى المكتبة الوطنية، الحجارة هناك أقدم من النسيان، كنت أقرأ مخطوطات مهترئة عن أنساب الخيل، بجوار مرقد الظاهر بيبرس! حتى إن كنتُ بعيدة جغرافياً، فالوطن شعور قبل أن يكون وثيقة، كان أقصى حلمي أن أدخل دمشق دون “تفييش” اسمي، ظل اسمي على الحدود لسنوات كمطلوبة للعدالة، تلك العدالة التي رأى العالم أخيراً وحشيتها وسجونها. لم نعد بحاجة لتبرير خوفنا أو ترددنا في العودة، يكفيني الآن أنني أستطيع حزم حقيبتي متى شئت، وأزور وطني، من دون هاجس الاعتقال أو التصفية، كما حدث مع كثير من الزملاء والمعارف. لم تقتلنا الغربة، لكنها أعادت تشكيلنا، وكنتُ محظوظة بمدينة بيروت، التي فتحت لي قلبها عندما أُغلقت المنافذ حولي في خريف 2012.