كلمات رائعة
بقلم عبد الكريم البليخ
في حق رئيسة الاتحاد العربي للثقافة
الشاعرة المميزة عائشة الخضر لونا عامر
- أنثى الحرف المقاوم
في زوايا مدينة حلب القديمة، التي تفوح من حجارتها رائحة التاريخ وتصدح من نوافذها أهازيج الحياة، وُلدت عائشة الخضر، المعروفة أدبياً بـ لونا عامر. لم تكن المهد الأول لها مجرد مدينة، بل نغمة أولى في معزوفة قدر اختار أن تتقاطع على أرضه مفارقات الجغرافيا والهوية، وتتعانق فيه ظلال القسوة مع أشعة الحلم. هي ابنة الرّقة في انتمائها العميق، رغم أنّ ميلادها كان في حلب، المدينة التي لا تُهدي أبناءها شيئاً إلا بثمن التجربة.
ترعرعت في بيت تسكنه الحكايات، لا ترفرف على جدرانه سوى أوراق الكتب القديمة والمخطوطات التي خطّها الزمان بمداد الآباء. والدها، الشيخ ظاهر الخضر، لم يكن مجرد شيخ أو وجه من وجوه قبيلته، بل كان ذاكرةً تمشي، حافظاً للقرآن والسيرة، شاعراً يرتجل القوافي كما لو كانت أرغفة خبز يوزعها على الجياع في مساءات الشتاء. في بيته، كان الأدب ديناً، والسرد صلاة، والكلمة نافذة على العالم. من هناك خرجت الطفلة عائشة وهي تمسك بكتابٍ كمن يمسك بطوق نجاة في بحر عارم.
كانت تتدخر من مصروفها المدرسي القليل لتشتري الكتب، ولم يكن ذلك ترفاً، بل مقاومة داخلية لأقدار متقلّبة، وسلاحاً صغيراً في وجه حياة متغيرة. من مقاعد الابتدائية حتى أروقة الجامعات، كانت تتنقل بين المدن السورية، تبحث عن الذات، عن اللغة، عن حكاية تليق بها وتكتبها. الرّقة، ثم دمشق، ثم حلب مجدداً، لم تكن هذه التنقلات مجرد تحولات مكانية، بل كانت طقوس عبور نحو النضج، نحو التشكّل. لقد قررت أن تختص بالأدب الإنكليزي، وكأنها أرادت أن تحفر في اللغة جسراً إلى العالم.
غير أن الحرب السورية، بكل فواجعها ومآسيها، جاءت كريح عاتية لتختبر الهشاشة والصلابة معاً. أسرتها، كحال ملايين السوريين، واجهت ما لم يكن بالحسبان: تشتتٌ، تهجيرٌ، فَقْدٌ، وخوف. لكن عائشة، التي حملت الحلم منذ الطفولة كما تحمل الأم جنينها في مراحل الخطر، لم تتخلّ عنه. كانت تدرك أن المعرفة لا تحمي فقط من الجهل، بل تقي أيضاً من الانهيار الداخلي، من الغرق في وحل الفوضى.
من رحم هذا الألم وُلدت لونا عامر ـ ذلك الاسم الأدبي الذي اختارته ليكون قناعاً ناعماً في عالمٍ قاسٍ، ومرآةً لذاتٍ أرادت أن تكتب لا عن الحزن، بل من خلاله. كتبت القصة، المسرح، والشعر، فكانت الكلمات وسيلتها لترميم ما خربته الحرب في الروح والوعي. في أحد أيام الرّقة، قُدمت إحدى نصوصها المسرحية على خشبة المركز الثقافي، وكان ذلك أول نبض مسموع لحضورها في المشهد الثقافي السوري.
لاحقاً، في دمشق، حيث يختلط عبق الياسمين بأزيز الحروب الصامتة، تابعت تعليمها العالي ونالت الدكتوراه في الإعلام عام 2018. ومن هناك، انطلقت بخطا ثابتة لتصنع من حضورها الأدبي والثقافي جسداً متكاملاً، يحمل في طياته همّ الأمة، وحلم النهضة، ووجع المرأة. أدرج الباحث الصحفي هاني الخير سيرتها ضمن كتاب “شخصيات سورية في القرن العشرين”، لتصبح إحدى العلامات البارزة في سجل الإبداع النسوي السوري.
كان الشعر رفيقها الأوفى، لا يأتيها خجولاً بل متدفقاً مثل نهر خارج من أعماق جبلٍ صامت. صدر ديوانها الأول “تانغو” في 2015، ديوان يُشبهها: مزيج من رقّة الحركة وقسوة النغمات. ثم تلاه “وللعشق … موال أزرق” في 2017، حيث تحولت الكلمة إلى قارب تبحر به في محيط العاطفة الإنسانية. في 2020، عبرت البحر المتوسط شعرياً بكتابها “تمائم لفائف البردي” المترجم إلى الإسبانية، فكتبتها المغاربة وترجمها الإسبان وقرأها المشرق والمغرب، كأن صوتها أراد أن يتجاوز الضفاف ويخاطب الكينونة الإنسانية في لغاتها المتعددة.
وها هو الديوان الرابع “مطر .. بتلاوة أفقية”، الذي وصل إلى باريس ونيويورك والسنغال، يؤكد أنها لا تكتب من موقع الأنثى وحدها، بل من موقع الإنسان، الحالم، الثائر، العاشق. لقد تُرجمت قصائدها إلى تسع لغات، لتصبح لغتها الأصلية أشبه بشجرة ذات جذورٍ في الأرض وأغصانٍ تمتد إلى سموات الآخرين.
لكن من هي لونا عامر بعيداً عن الشعر؟ إنها سفيرة سلام دولي، ومؤسسة الاتحاد العربي للثقافة، المنظمة التي أسستها في 2017 لتكون منصةً ثقافيةً جامعة، ومسجلة لدى الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو، تضم أكثر من 19 ألف مثقف ومفكر، في مسعى لخلق فضاء ثقافي يتجاوز الخلافات ويحتفي بالتنوع.
عُينت سفيرة لحقوق الإنسان من قبل منظمات في ألمانيا وباكستان، ومديرة مكتب سوريا في اتحاد الجوائز العربية، والمنسق الإعلامي للبورد الألماني، ومستشارة للمنظمة العربية المتحدة للبحث العلمي في لندن، وعضو الهيئة الاستشارية لاتحاد المثقفين العرب في باريس، وغيرها من الأدوار التي تُثبت أنَّ لونا ليست فقط صوتاً شعرياً، بل قوة ناعمة في ميادين الفكر والسياسة والديبلوماسية الثقافية.
تقول: “لم أكن أؤمن بالمستحيل، كل عائق له عدّة حلول، وهذا ما فعلته”. في عبارتها هذه يتجلى ليس فقط عناد الناجين، بل إيمانٌ عميقٌ بالحياة، بفعل المقاومة اليومية، بحب العلم والتعلم كسلاح ضد كل أشكال العدم.
لقد كتبت في “المرأة الإلهية”، وفي “بكاء الجبل”، و”قطوف نسائية”، وساهمت في الموسوعات الأدبية للشاعرات العربيات، لكنها لم تكتب فقط عن المرأة، بل من داخلها. لم تكن قصائدها استغاثة ولا إعلان تمرد، بل إصرارٌ أنَّ الأنوثة لا تقف عند الحرف بل تتجاوزه، أنّ القوة ليست نقيض النعومة بل امتدادها.
في كل نص، وفي كل محفل دولي شاركت فيه، وفي كل لقاء تلفزيوني تحدّثت فيه عن سوريا، كانت تحمل بلدها كما تُحمل طفلة جريحة على ذراع أمها: بحنان ومرارة ومسؤولية. من دمشق إلى باريس، كان اسمها يتردد، لا كنجمة عابرة، بل كجذر يستقر في الأرض ويرتفع إلى الشمس.
حين تُسأل اليوم عن رسالتها، لا تتردد: الثقافة الهادفة، العميقة، هي قارب النجاة للمجتمعات. لا الخطب الجوفاء، ولا الشعارات الرنانة، بل الفعل الثقافي المُنظم، الذي يؤمن بالتراكم، بالحوار، بالتعدد. تسعى لونا إلى ترسيخ مفهوم السلام الثقافي، لأنه وحده القادر على رأب الصدع في النسيج الإنساني العربي الذي مزقته النزاعات والهويات القاتلة.
تحيي النساء في كل مكان، تقول لهن: “آمني بنفسكِ أولاً، ثم تحددي هدفك واسعي إليه بصبر وثبات”.
وتوجه التحية لكل رجل آمن بأن المرأة ليست تابعاً، بل ركيزة، ليست ظلاً، بل شمساً.
في النهاية، ليست الدكتورة عائشة الخضر مجرد شاعرة، ولا مجرد إعلامية أو أكاديمية، بل هي شهادة حيّة على أن الإنسان العربي، رغم كل الحروب، يمكنه أن يُقاوم لا بالسلاح فقط، بل بالحرف. وأن في داخل المرأة العربية، رغم كل ما عانته، بذرة نور لا تُطفأ، طالما وجدت تربةً من الحلم والمثابرة.
هي ابنة الماضي وراوية الحاضر، وسيدة الكلمة في زمنٍ تحتاج فيه الأوطان إلى من يعيد صياغتها لا بالسلاح، بل بالحكمة، وبنغم “موال أزرق” يوشوش في آذاننا: أن الحلم لا يموت.
عبد الكريم البليخ
2/5/2025