قليلا من الفلسفة…. دعونا نقرأ الكتاب بعيون راسل

تاريخ الفلسفة الغربية
لبرتراند راسل
رحلةٌ في قاربٍ من نارٍ وفكرٍ

تصوَّر نفسك على متن سفينةٍ عابرةٍ للمحيطات، سفينةٍ شيّدها قبطانٌ عبقريٌّ لكنه متمرّد، يحمل في صدره نارَ الشكِّ وحماسةَ العقل. قبطانٌ يرفع أشرعته في وجه رياح ألفَي عامٍ من التأمُّل البشريّ، مُمسكًا بدفّةٍ واحدةٍ بين يديه: العقل. هذه السفينة هي كتاب “تاريخ الفلسفة الغربية” (A History of Western Philosophy) لتلك العقلية الجبّارة، برتراند راسل (Bertrand Russell). هذا ليس مجرّد كتابٍ، أيّها القارئ الكريم، بل هو رحلةٌ مُحفوفةٌ بالمخاطر، رحلةٌ في أعماق النفس البشرية وهي تحاول فكَّ ألغاز الوجود، رحلةٌ يقودها فيلسوفٌ لا يخشى أن يُشعل النار في المقدّسات إذا ما اعترضت طريق الحقيقة. هل نغامر معًا؟

لم يكتب راسل هذا السِّفر الضخم ليكون موسوعةً جافّةً أو سجلاًّ محايدًا. كلا! إنه يكتب التاريخ بدم قلبه وعصارة فكره. إنه يُمسك بيد القارئ بقوةٍ – بل وبقسوةٍ أحيانًا – ويقوده عبر متاهات العقول الكبرى: من تيّار هيراقليطس المتدفّق إلى كهف أفلاطون المُظلم، من منطق أرسطو الصارم إلى إله القديس أوغسطين المتعالي، من شكّ ديكارت الهادئ إلى عقلانية سبينوزا المتّقدة، ومن أمل كانط المشرق إلى عبثية نيتشه الصارخة. راسل هنا ليس مُرشدًا سياحيًّا يُشير ببرودٍ إلى الآثار، بل هو ناقدٌ لاذع، صديقٌ حميمٌ أحيانًا، وخصمٌ عنيفٌ أحيانًا أخرى لكلّ فيلسوفٍ يعبر طريقه. يشعر المرء، وهو يقلّب الصفحات، بأن راسل يجلس مقابل كلّ هؤلاء العمالقة في حوارٍ ساخنٍ لا يهدأ، حوارٌ تتصادم فيه الأفكار كالسيوف تحت أضواء العقل الصارخة.

♣︎♣︎ المنهج: التاريخ الذي يكتبه الفيلسوف لا المؤرّخ

وهنا يكمن سرُّ إثارة هذا الكتاب وعظمته المُشكوك فيها أحيانًا! راسل لا يسعى للحياد. إنه يُخضع كلَّ نظامٍ فلسفيٍّ لاختبارٍ صارمٍ: هل هذا الفكر يتّسق مع المنطق؟ هل يخدم الحرّية الفردية؟ هل يقدّم تفسيرًا معقولًا للعالم كما يراه العلم الحديث؟ هل يرفع من شأن الإنسان أم يهينه؟ إنّ معياره الأساسي هو العقلانية الليبرالية المُطعّمة بنزعةٍ إنسانيةٍ علميةٍ. لذلك، تراه يُحاكم الماضي بمقاييس الحاضر، لا كخطأٍ منهجي، بل كموقفٍ فلسفيٍّ صريح. إنّه يكتب تاريخ الفلسفة بصفته فيلسوفًا، لا بصفته مؤرّخًا محايدًا. هذا هو قلب الإثارة والنقد معًا.

انظر إليه وهو يتعامل مع أفلاطون. يعترف راسل بعبقرية أفلاطون الأدبية وعمق تأثيره، لكنّه لا يتردّد في كشف النوايا الاستبدادية الكامنة وراء “جمهوريته” الفاضلة. يرى راسل في أفلاطون، بعينٍ لا تخطئ، نزعةً نحو إخضاع الفرد لتصوّرٍ مثاليٍّ جامدٍ، نزعةً ستُخلّف إرثًا ثقيلاً على الفكر السياسي الغربي. هل هذا تحامل؟ أم هو قراءةٌ جريئةٌ تُزيح الغبار عن تمثالٍ مقدّس؟

ثم يأتي دور أرسططاليس (أرسطو). يعجب راسل بمنطقه الدقيق، بتحليلاته الثاقبة في مجالاتٍ شتّى. لكنّ إعجابه لا يمنعه من رؤية الجانب المظلم: كيف تحوّل فكر أرسطو إلى قيدٍ على التقدّم العلمي لقرونٍ طويلةٍ عندما تحوّل إلى عقيدةٍ دينيةٍ جامدةٍ في يد المدرسيين. راسل يرى في عبادة السلطة في فكر أرسطو بذورًا للاستبداد. إنه يحفر تحت السطح الهادئ للتنظير ليكشف عن التوتّرات السياسية والاجتماعية التي غذّت الفكر.

♣︎♣︎ في دهاليز العصور الوسطى: العقل في مواجهة الإيمان

عندما يغوص راسل في مياه العصور الوسطى الكدرة، تزداد الرحلة إثارةً وخطرًا. هنا، حيث يمتزج الفلسفة باللاهوت امتزاجًا لا فكاك منه، يقف راسل بمنظوره العلمانيّ كمنارةٍ في ضبابٍ كثيف. تعامله مع شخصيةٍ مثل القديس توما الأكويني مثيرٌ للدهشة. يُظهر راسل إعجابًا لا يُخفي بمحاولة الأكويني الجبّارة لتأسيس اللاهوت المسيحي على قاعدةٍ عقلانيةٍ مستندةٍ إلى أرسطو. إنه يعترف بعبقرية الصرح الفكري الذي بناه. لكنّ هذا الإعجاب سرعان ما يتحوّل إلى نقدٍ قاسٍ: هل هذا الصرح قائمٌ على أسسٍ متينةٍ حقًا؟ أم أنّه يحاول تبرير الإيمان المسبق بعقلنةٍ بارعةٍ؟ راسل، العقلانيّ المتشكّك، يميل إلى الرأي الثاني. إنه يرى في فلسفة العصور الوسطى، على رغم عظمتها المنطقية أحيانًا، انحرافًا عن المسار الصحيح للفلسفة كبحثٍ حرٍّ غير مُقيّدٍ بالعقائد. هنا تظهر حساسية راسل الدينية جليّةً، وهي حساسيةٌ تشكّكيةٌ تثير حفيظة المؤمنين، لكنّها تُمثّل جوهر رؤيته الفلسفية.

♣︎♣︎ الانفجار الحديث: من ديكارت إلى هيوم، شكوكٌ تُزلزل اليقينيات

ثم نصل إلى نقطة التحوّل الكبرى، الانفجار الحديث الذي يُشكّكه راسل ببراعةٍ دراماتيكيةٍ. ها هو ديكارت يبدأ بالشكّ في كلّ شيءٍ بحثًا عن يقينٍ راسخٍ، ليصل إلى الكوجيتو الشهير: “أنا أفكّر، إذن أنا موجود”. راسل يُقدّر هذه الخطوة الجريئة، لكنّه لا يتوقّف عندها. إنه يتبع خيط الشكّ الذي نسجه ديكارت ليصل إلى ديفيد هيوم، ذلك المفكّر الذي مزّق بمنطقٍ لا يرحم أوهام اليقين الميتافيزيقي. هيوم، في نظر راسل، هو القمة التي توجّت الفلسفة التجريبية البريطانية، وهو الذي وضع تحدّياتٍ لا تزال الفلسفة تعاني منها حتى اليوم: مشكلة السببية، مشكلة الاستقراء، حدود المعرفة البشرية. راسل يعترف بأن هيوم أيقظه من “سُباته الدوغمائي”! هذه الفصول هي من أكثر أجزاء الكتاب إثارةً فكريًا، حيث يُظهر راسل قدرةً خارقةً على تبسيط أعقد الأفكار دون خيانتها، وربطها بسلسلةٍ منطقيةٍ متّقدةٍ تدفع القارئ دفعًا إلى مشاركته في دهشة الاكتشاف الفكري.

♣︎♣︎ العمالقة المُتناقضون: كانط، هيجل، وثوريون الفكر

ثم نرتطم بجبلين شامخين متناقضين: إيمانويل كانط و جورج فيلهلم فريدريش هيجل. كانط، الذي حاول إنقاذ المعرفة والأخلاق والدين من فوضى شكوك هيوم، ببناء صرحٍ نقديٍّ مهيبٍ. راسل، بكلّ صراحته، يعترف بعظمة المشروع الكانطي، لكنّه يرى فيه تعقيدًا مفرطًا ومحاولةً لإعادة بناء ما دمّره هيوم بموادٍّ مشكوكٍ في متانتها. إنّه يحترم كانط كفيلسوفٍ جادٍّ، لكنّه يجد صعوبةً في ابتلاع “الشيء في ذاته” (Noumenon) والواجب القطعيّ كأسسٍ نهائيةٍ.

أمّا هيجل، فها هنا تكمن النار! راسل لا يخفي احتقاره الشديد لهيجل، أو بالأحرى، لتأثيره. إنه يرى في ديالكتيك هيجل وعقيدته عن الدولة كتجسيدٍ للمطلق خطرًا داهمًا على العقل والحرّية. راسل يتّهم هيجل بتقديم تبريرٍ فلسفيٍّ للاستبداد، سواءً في شكله البروسي أو في أشكاله الشمولية اللاحقة في القرن العشرين. هذا النقد الحادّ، وإن كان مبالغًا فيه من وجهة نظر الكثير من المؤرّخين، هو جزءٌ لا يتجزّأ من رؤية راسل السياسية والفكرية. إنه يُحذّر من عبادة الدولة والجماعة على حساب الفرد، وهو يرى في هيجل أحد المُنظّرين الرئيسيين لهذه العبادة. هنا يتّضح بجلاء كيف أنّ تاريخ راسل الفلسفي هو أيضًا بيانٌ سياسيٌّ وأخلاقيٌّ.

♣︎♣︎ القرن التاسع عشر: براكين تحت السطح

القرن التاسع عشر، في رواية راسل، هو مسرحٌ لثوراتٍ فكريةٍ تهدّد أسس التقاليد. كارل ماركس يظهر ليس فقط كمنظّر اقتصادي، بل كفيلسوفٍ له رؤية شاملة للتاريخ والمجتمع، رؤية يقدّر راسل تحليلها الاجتماعي الحادّ، لكنّه يرفض نزعتها الحتمية وتطلّعاتها الثورية العنيفة. ثم يأتي فريدريك نيتشه، ذلك البركان الذي لا يُشبه أحدًا. راسل يتعامل مع نيتشه بمزيجٍ غريبٍ من الانجذاب والاشمئزاز. إنه يعجب بقوّته الأدبية وجرأته في تحطيم الأصنام، لكنّه يرتعب من فلسفة القوّة التي يبشّر بها، ويرى فيها بذور النازية والفاشية. راسل يقرأ نيتشه بعين القرن العشرين التي رأت أهوال الحربين العالميتين، مما يضفي على نقده حِدّةً دراماتيكيةً. هل كان راسل منصفًا لنيتشه؟ ربما لا، لكنّ قراءته تظلّ تحذيرًا صارخًا من مخاطر عبادة الإرادة الخالصة بمعزل عن الأخلاق العقلانية.

♣︎♣︎ النقد: السفينة التي تُثير العواصف

لا يمكن الحديث عن هذا الكتاب دون مواجهة النقد الجوهريّ الموجّه إليه. المؤرّخون المحترفون للفلسفة يتّهمون راسل بـ:
1. الاختزالية الخطيرة: كيف يمكن اختصار فلسفة عظيمٍ مثل أفلاطون أو كانط أو هيجل في فصولٍ معدودةٍ، مهما كانت بارعة؟
2. التحيّز الصارخ: راسل لا يخفي ميوله. إنه يميل بشدّة للتجريبيين البريطانيين (لوك، باركلي، هيوم) والفلاسفة العلمانيين، ويقلّل من شأن التيّارات المثالية والمتدينة. نقده لهيجل، على سبيل المثال، يعتبره الكثيرون كاريكاتيرًا.
3. الأخطاء الواقعية: رغم دقّته العامة، وُجدت أخطاء في التفاصيل التاريخية أو في عرض بعض الحجج الفلسفية المعقدة.
4. القراءة من خلال عدسة القرن العشرين: إسقاط مخاوف راسل الليبرالية والعلمانية ومناهضته للشمولية على فلاسفة الماضي بطريقة قد تشوّه سياقاتهم التاريخية.

هذه الانتقادات صحيحةٌ في جوهرها. “تاريخ الفلسفة الغربية” ليس مرجعًا “موثوقًا” بالمفهوم الأكاديمي الضيّق. لكنّ السؤال الجوهريّ هو: هل كان راسل يهدف إلى ذلك؟ كلا، قطعًا. هذا الكتاب هو مغامرة فكرية. هو رحلةٌ يقودها دليلٌ فذٌّ، حادُّ الذكاء، صريحٌ لحدّ الوقاحة، يمتلك رؤيةً فلسفيةً واضحةً ويستخدم التاريخ لشرحها وتبريرها. إنه يُقدّم الفلسفة ليس كمتاحفَ للأفكار الميتة، بل كمعركةٍ حيّةٍ مستمرّةٍ حول معنى حياتنا وعالمنا. هذا هو سرّ جاذبيته الدائمة.

♣︎♣︎ الجوهرة الخالدة: لماذا نقرأ راسل اليوم؟

رغم كلّ النقد، رغم كلّ التحيزات والأخطاء، يظلّ “تاريخ الفلسفة الغربية” عملًا خالدًا. لماذا؟
* القوة السردية الآسرة: راسل كاتبٌ من الطراز الأول. أسلوبه واضحٌ، ساحرٌ، مليءٌ بالنقَد اللاذع والفكاهة السوداء والاستعارات البارعة. إنه يجعل الأفكار المعقدة قريبةً، ويجعل الفلاسفة شخصياتٍ في ملحمةٍ دراميةٍ.
* الرؤية الموحّدة: نادرًا ما تجد كتابًا في تاريخ الفلسفة يمتلك مثل هذه الرؤية الشاملة والواضحة. راسل يربط الخيوط بين العصور، ويُظهر كيف تتفاعل الأفكار وتتصارع وتتطوّر. هذا يمنح القارئ إحساسًا بالاتّساق والاتجاه في تاريخٍ قد يبدو فوضويًّا.
* الجرأة الفكرية: راسل لا يخشى أحدًا. تحدّيه للعقائد الدينية، نقده اللاذع للاستبداد بشتّى أشكاله (الديني، السياسي، الفلسفي)، دفاعه المستميت عن العقل والعلم والحرّية الفردية – كلّ هذا يجعل الكتاب منشورًا ثوريًّا في زمنٍ ما زالت هذه القيم تواجه التهديد.
* تحفيز الفكر لا تجميده: الهدف الأساسي للكتاب ليس تقديم إجاباتٍ نهائيةٍ، بل إثارة الأسئلة، تحديّق القارئ، دفعه إلى التفكير النقدي بنفسه. راسل يريدك أن تشاركه في الشكّ، في النقد، في البحث. إنه يزرع بذور الفلسفة في ذهن القارئ.

♧ وثيقةٌ عن عقل راسل نفسه: الكتاب هو مرآةٌ لعقلٍ عملاقٍ. دراسةُ تاريخ الفلسفة عبر عينَي راسل هي أفضل وسيلةٍ لفهم فلسفته الخاصة: تركيزه على المنطق، إيمانه بالعلم، ليبراليته العميقة، إنسانيته العلمية، ورفضه لكلّ أشكال الخرافة والاستبداد.

★★ الختام: قارب النار والفكر في رحلته الأبدية

“تاريخ الفلسفة الغربية” لبرتراند راسل هو مثل ذلك القارب الذي بدأنا به رحلتنا: قاربٌ بناه فيلسوفٌ عاصفٌ، يُبحر في بحارٍ هائجةٍ من الأفكار، تلمع في جنباته نيران النقد والشكّ، ويقوده قبطانٌ لا يعرف الخوف في بحثه عن الحقيقة. إنه ليس كتابًا للراحة الفكرية، بل للانزعاج والتحدّي. قد تُخطئ السفينة في رسم بعض السواحل، وقد تتعصّب قبطانها ضدّ بعض الموانئ، لكنّ الرحلة التي تقوم بها تظلّ استثنائيةً في جرأتها، آسرةً في سردها، عميقةً في رؤيتها.

هل هو “أفضل” تاريخ للفلسفة؟ لا، فالكمال ليس من صفات البشر. هل هو أكثرها إثارةً وتأثيرًا؟ بلا شكّ. إنه كتابٌ يغيّر القارئ. يجعلك ترى العالم بعيونٍ أخرى، عيونٍ أكثر حدةً، أكثر شكًّا، وأكثر تمسّكًا بقيمة العقل والحرية. إنه دعوةٌ مفتوحةٌ لركوب قارب راسل، لتحترق قليلاً بناره، لتتحدّى أفكارك، ولتنطلق في رحلتك الفلسفية الخاصة. فهل تقبل الدعوة؟ الرحلة، كما يقول راسل نفسه في مكانٍ ما، هي ما يهمّ.

♣︎♣︎ ما بين السطور: الهمس الخفي في تاريخ الفلسفة لراسل

لا يكتب إنسان كتاباً إلا في سريرته. و”تاريخ الفلسفة الغربية” لبرتراند راسل ليس مجرد سجلٍ لأفكار الغرباء، بل هو مرآةٌ شبه مستترة لعقل كاتبها وقلقه الوجودي. هناك نَفَسٌ خفيٌّ يتردد بين السطور، يهمس بما لم يصرح به راسل مباشرة، لكنه يخترق الصفحات كرائحة النعناع في خزانة قديمة. دعنا نفتح هذه الخزانة معاً.

1. صرخة ضد العزلة: “أنا هنا!”

راسل الذي عاش حروباً وانهيار إمبراطوريات وانهيار يقينيات، يكتب هذا الكتاب وكأنه يصرخ في وادي الموتى: “انظروا! العقل ما زال حياً!”
في تعامله مع فلاسفة العصور المظلمة، ثمة ارتعاشة خفية. عندما ينتقد انغلاق الفلسفة في الأديرة، فهو لا يتحدث عن توما الأكويني وحده. إنه يكتب عن عزلة الفيلسوف في القرن العشرين، عن عالمٍ تحولت فيه الحكمة إلى طابعات وآلات. كان يخشى أن يصير الفيلسوف كالراهب في صومعته – عالماً بكل شيء إلا الحياة ذاتها.

2. الجرح الذي لم يندمل: سقوط الآلهة

انظر جيداً في فصوله عن نيتشه. راسل ينتقده بقسوة، لكن ثمة اعترافاً مكبوتاً: لقد كان نيتشه صادقاً في تشخيص المرض.
في أعماق الكتاب، ثمة حيرةٌ وجودية: ماذا نفعل بعد أن مات الإله؟ كيف نبني أخلاقاً في عالمٍ انكسرت فيه المرايا المقدسة؟ راسل يقدم العقل بديلاً، لكنك تشعر أنه يمسك بهذا العقل كمن يمسك بقشة في محيط. الكتاب كله محاولة يائسة لإثبات أن القشة قد تصير شجرة.

3. الطفل الذي لم يتعافَ: البحث عن اليقين المفقود

هل لاحظت هوس راسل بالمنطق الرياضي؟ إنه ليس مجرد اهتمام أكاديمي.
في طفولته القاسية المحروسة بالوصاية الدينية الصارمة، نشأ راسل يتيم الدفء الإنساني. المنطق كان ملاذه: عالمٌ من الوضوح حيث 1+1=2 دائماً. هذا الكتاب هو استمرار لتلك الرحلة – بحثٌ عن معادلةٍ تنقذ البشرية من الفوضى. عندما يهاجم الخرافة أو الغموض الميتافيزيقي، إنما يهاجم الأشباح التي طاردته في قصور طفولته المقفرة.

4. الاعتراف المُخجل: العقل ليس كافياً

المفارقة الأعمق: راسل العقلاني يبوح – دون أن ينطق – بأن الفلسفة وحدها عاجزة.
انظر كيف يتوقف عند فلاسفة الأخلاق بإحساس أقرب إلى الحنين. كانط يطل برأسه كشبحٍ مؤرق: “ماذا بعد أن نثبت كل شيء؟ كيف نختار أن نعيش؟”. في الفصول الأخيرة، يصبح الصوت أكثر حدة: الفلسفة بدون قلب إنساني تصير وحشاً. هيجل وماركس ونيتشه – كلهم دفعوا ثمن نسيان “الإنسان العادي” الذي يريد أن يحب، يأكل، ويجد معنى بسيطاً لوجوده.

5. الرسالة السرية للقارئ: “لا تتبعني!”

أعظم ما لم يقله راسل صراحةً: “هذا الكتاب ليس لتعبد الفلاسفة، بل لتقتلهم!”
كل نقد لاذع، كل هدم لتمثال فيلسوف، هو دعوة للقارئ: “انهض! فكر بنفسك!”. الكتاب تدريبٌ على العصيان. راسل يقدم لك سكاكين النقد ثم يهمس: “اطعن أفكاري أيضاً”. كان يريد قارئاً شجاعاً، لا تلميذاً يحفظ أقوال السادة.

6. النبأ المحظور: الحب هو المنقذ الأخير

في خضم معاركه الفكرية، ينساب خيطٌ حريري: إيمانه بالحب كقوة فلسفية.
عندما يتحدث عن سبينوزا (“الإنسان الحر لا يفكر في الموت قط”) أو عند دفاعه عن البساطة الإنسانية ضد تعقيدات الميتافيزيقا، فهو يلمح إلى ما تعلمه خارج الكتب: أن الفلسفة التي لا تخدم الحب هي فلسفة ميتة. حياته المضطربة في الحب (زواجاته الأربع، علاقاته الفاشلة) تتحول إلى شفرةٍ خفية: “حذار من الفكرة المجردة! الإنسانية تنبض في القلب قبل العقل”.

7. الاعتراف الأخير: الخوف من العبث

هل تشعر بذلك القلق الذي يختبئ وراء فصول هيوم؟
راسل الذي بنى حياته على العقل، يعرف أن شكوك هيوم مثل زلزال يهدم كل أساس. الكتاب كله محاولة لبناء كوخٍ في الصحراء. في أعماقه، كان يخشى أن يكون الإنسان مجرد “دمية لغوية” (كما سيقول لاحقاً الفلاسفة التحليليون). هذا الخوف لم يصرح به، لكنه يظهر في اندفاعه اليائس لإثبات أن الفلسفة “تقدمت”، وكأن التقدم درعٌ ضد العبث.

★★ لماذا أخفى راسل هذه الرسائل؟

لأن فيلسوف العقلانية لا يستطيع أن يقول:
– “أنا خائف”
– “المنطق لا يدفئني في الليل”
– “الحب أنقذني من الجنون”

لقد كان رجل عصره: عقلانيٌّ حتى النخاع، لكنه إنسانٌ يجرحه الجمال، يخيفه الموت، ويبحث عن معنى في كونٍ صامت. “تاريخ الفلسفة الغربية” هو اليومية السرية لهذه المعاناة – معركة بين عقلٍ يريد النظام، وقلبٍ يعرف أن الفوضى هي جوهر الحياة.

الكتاب العظيم هو الذي يخبئ في طياته ما يعجز صاحبه عن قوله صراحة. راسل لم يكتب مجرد تاريخ، بل كتب وصيته الروحية: “أيها الإنسان، استخدم عقلك، لكن لا تخن قلبك. فكر بجرأة، لكن لا تنسَ أن تحب. ابنِ صروح الفكر، لكن اترك نافذة مفتوحة لرياح المجهول”.

هذا هو الصوت الذي يرتجف تحت الرصانة الظاهرة – صوت فيلسوفٍ يصرخ في الظلام: “هل من أحدٍ هناك؟” وهو يعرف، في قرارة نفسه، أن الإجابة قد تكون صمتاً أبدياً. ومع ذلك، يكتب.

بقلم
الكاتب والروائى خالد حسين