بتاريخنا العربى الثرى . يوجد العديد من الاشياء التى سمعنا عنها ولكننا لم نستوعبها او لم نتوقف عندها … اليوم واحدة من الثورات التى هزت التاريخ العربى

ثورة الزنج
الدم والطين والغضب
في مستنقعات التاريخ العباسي
خالد حســــــين

♣︎♣︎ المقدمة: أشباح المستنقعات

لو مددت أذنك فوق مستنقعات البصرة عام 255 هـ (869 م)، لسمعت همسات ثائرة تختلط بقعقعة السلاسل. هنا، حيث تلتقي مياه دجلة والفرات بملوحة الخليج، كان آلاف العبيد ذوي البشرة السوداء -الذين سماهم العرب “الزنج”- يغوصون حتى الركب في الوحل، يُنقبون عن ذرات الملح بينما كانت الشمس تحرق ظهورهم. لم يكونوا يعلمون أن رجلاً غامضاً يدعى “علي بن محمد” سيحول معاناتهم إلى أعنف ثورة شهدها العصر العباسي، ثورة ستستمر 14 عاماً وتكاد تقوض إمبراطورية تمتد من حدود الصين إلى المحيط الأطلسي.

♣︎♣︎ العالم الذي أنجب الوحش

سياق العصر: إمبراطورية على حافة الهاوية
كانت الخلافة العباسية تشبه عملاقاً منهكاً في منتصف القرن الثالث الهجري. لقد انهارت سلطة الخلفاء لصالح الجنود الأتراك الذين تحكموا في القرار من خلف ستار، بينما كانت المجاعات تضرب العراق بسبب تقلص أراضي الزراعة. الأراضي الخصبة حول البصرة تحولت إلى “بطائح” (مستنقعات مالحة) بسبب الإهمال وتراكم الأملاح، مما استدعى جيشاً من العبيد لاستصلاحها. هنا ظهرت طبقة الإقطاعيين الجدد -منهم هاشميون وعرب وأثرياء فارس- الذين امتلكوا آلاف العبيد الزنوج، جُلِبوا من سواحل إفريقيا الشرقية. عبر تجارة رقيق مزدهرة.

♣︎♣︎ ثورة الزنج: السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي – رحلة إلى أعماق العصر العباسي

♧ المشهد التأسيسي: العالم الإسلامي في القرن التاسع الميلادي

كانت الخلافة العباسية تشبه عملاقاً يرتكز على قدمين من طين:
– بغداد عاصمة العلم والفلسفة، حيث تلمع قصور الخلفاء وتتنافس المدارس الفكرية.
– الأقاليم البعيدة تغلي بالتمردات والظلم، مثل مرجل على نار هادئة.
ووسط هذا التناقض، كانت البصرة – جوهرة الجنوب ومركز التجارة العالمية – تخفي وراء ثرائها مستنقعات الموت، حيث يعمل آلاف العبيد الزنج (من شرق أفريقيا) في صمت.

♧ السياق الاقتصادي: الوقود الخفي للثورة

1. مستنقعات الملح: سجن بلا قضبان
– كانت أهوار البصرة تحتوي على ترسبات ملحية ثمينة تستخدم في دباغة الجلود وصناعة الزجاج.
– العبيد الزنج يُجبرون على:
• تجفيف المستنقعات بأقدام عارية (مما تسبب في تقرحات مميتة).
• كشط طبقات الملح بأيدٍ عارية تحت شمس حارقة.
• نقل الأتربة في سلال تثقل ظهورهم.
– مقابل: وجبة واحدة يومياً من التمر الفاسد والماء الملوث.

2. نظام الإقطاع الخفي
– كبار الملاك (من العرب والفرس) يمتلكون “فرق العبيد” كما يمتلكون الأدوات.
– الدولة تمنحهم امتيازات استغلال الأراضي مقابل ضرائب تثقل كاهل الفلاحين الأحرار.
– مفارقة تاريخية: بعض العبيد المحررين أصبحوا بدورهم ملاكاً يستعبدون الزنج!

♧ الانفجار الديموغرافي:

– جلب تجار الرقيق من شرق افريقيا أعداداً هائلة من العبيد في القرن التاسع.
– تقديرات المؤرخين: حوالي 15,000 عبد في منطقة الأهوار وحدها.
– لغز تاريخي: وثائق سوق النخاسة في البصرة تشير إلى أن بعض العبيد كانوا من أمراء قبائل تم بيعهم خيانةً!

♧ السياق السياسي: الدولة العباسية – عملاق عليل

أمراء الحرب الأتراك:
– منذ الخليفة المعتصم (ت 842م) سيطر الجنود الأتراك على الجيش.
– الخلفاء أصبحوا دمى في أيديهم.
– الموارد تُصرَف على الصراعات الداخلية بدل تنمية الأقاليم.

♧ تمزق الأقاليم:
– مصر تحت سيطرة الطولونيين.
– فارس تنتفض بقيادة يعقوب الصفار.
– البصرة تُترك لمصيرها، فازداد استغلال العبيد لتعويض خسائر الدولة.

♧ الدروس الخالدة: التاريخ كمرآة

ثورة الزنج لم تكن مجرد “تمرد عبيد”، بل كانت انعكاساً لأمراض حضارية:

“الزنج لم يثوروا لأنهم أرادوا تغيير النظام، بل لأن النظام نسي أنهم بشر. هذه هي الجريمة الكبرى التي تلد أعظم الثورات.”

♣︎ الان وقد عرفنا بعضا منها تعالوا نغوص اكثر…
♧ حياة العبيد: الجحيم تحت الشمس

كان العبد الزنجي يُباع بـ 30 ديناراً فقط -ثمن ربع ثمن الجواد العربي الأصيل- ليس لأنه ضعيف، بل لأنه “أجود تحملاً”. في المستنقعات، كانت المجموعات تضم 500 إلى 5000 عبد، يعملون تحت حراسة وكلاء القساة. كانوا ينامون في العراء أو أكواخ من الطين، ويأكلون التمر والسويق، بينما كانت الملاريا والبعوض القاتل يحصدونهم. الجغرافيون العرب وصفوا المنطقة بأنها “نعوذ بالله منها… وبقٌّ له حُمّة كالإبرة”. حتى المفكر الجاحظ -رغم عقلانيته- وصفهم بأنهم “أقصر الناس رويّة وأذهلهم عن العاقبة”.

♣︎♣︎ صاحب الزنج.. المخلص أم المحتال؟

الرجل الذي اخترع نفسه
في هذا المرجل المنفجر، ظهر علي بن محمد كشبح يغير أشكاله. بدأ شاعراً في بلاط الخليفة المتوكل في سامراء، ثم حاول الثورة في البحرين مدعياً أنه “يحيى بن عمر” من سلالة علي بن أبي طالب. عندما فشل، هرب إلى البصرة عام 254 هـ، وهناك اكتشف كنزاً بشرياً: آلاف العبيد الذين سمعوا وعده بالتحرر.

♧ آلة دعاية مثالية

ما جعل علياً خطيراً هو براعته في تسخير السرديات:
الادعاء الديني: بدأ يزعم أنه المهدي المنتظر، ثم تطور إلى ادعاء النبوة والعلم بالغيب، مستغلاً توق الشيعة لـ”المنقذ”.
الشعارات البراقة: رفع راية خضراء وحمراء (لون العلويين والخوارج)، وكتب عليها آية “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ”.
الطقوس التحريرية: في أول تجمع له، أمر العبيد بجلد وكلائهم بسعف النخل ثم أطلق سراحهم رمزياً.

لكن المؤرخين يكشفون تناقضه: فبينما وعد بالمساواة، وعد أتباعه بتمليكهم العبيد إذا انتصروا!.

♣︎♣︎ الثورة.. من التحرير إلى الإرهاب

♧ الانفجار الكبير
في ليلة عام 255 هـ، انطلقت الشرارة. عبر علي بن محمد مع 500 عبد نهر دجلة، وهاجموا مواقع الإشراف، حرروا العبيد، وأسسوا “المختارة” -عاصمة لهم جنوب البصرة. ما بدأ كتمرد صغير تحول إلى إعصار اجتاح جنوب العراق:
الاستراتيجية العبقرية: استغل الزنج معرفتهم بتضاريس المستنقعات، فحولوها إلى حصون طبيعية. كانوا يضربون بالكمائن ثم يختفون في القنوات المائية.
جيش غير متوقع: انضم للعبيد فلاحون فقراء وعرب مضطهدون وحتى يهود، مما جعل الجيش الثائر خليطاً غريباً.

♧ نقطة التحول المظلمة

في 257 هـ، اقتحموا البصرة -ثاني أهم مدن العراق- وارتكبوا مذبحة تاريخية. الطبري يروي: “علا العويل من نسائهم… وكان فيمن قُتل من بني هاشم جماعة”. لقد صار ذلك اليوم يُعرف بـ “خراب البصرة”. لكن الثوار تحولوا إلى طغاة: اغتصاب، سبي، وإحراق المدن. حتى أن ابن الرومي رثا البصرة بقصيدة مشهورة رغم كرهه للعباسيين.

♣︎♣︎ دولة المختارة.. اليوتوبيا التي تحولت إلى ديستوبيا

♧ العاصمة في المستنقع

بنى الزنج مدينتين: “المنيعة” و”المختارة”، وحولوهما إلى قلعتين بالمستنقعات. داخل أسوارها، حاول علي بن محمد بناء دولة موازية:
النظام الاقتصادي: استولوا على 1900 سفينة تجارية، وسيطروا على طرق الحج إلى مكة.
النقد الخاص: سكوا عملات معدنية نادرة نقشوا عليها “المهدي علي بن محمد” – إحداها في متحف لندن والأخرى في باريس.

♧ المفارقة المأساوية

الدولة التي قامت لتحرير العبيد أصبحت نسخة مشوهة مما حاربت:
استعبد الثوار أسرى الحرب، حتى نساء العلويين اللاتي زعموا الدفاع عنهن.
انقلب القادة العرب في الثورة على العبيد، وصاروا طبقة حاكمة جديدة.

♣︎♣︎ السقوط.. عندما تحول الثوار إلى أشباح

♧ آلة القمع العباسية

أدرك الخليفة المعتمد أن الثورة تهدد وجود الدولة، فكلف أخاه “الموفق طلحة” بالقضاء عليها. كانت المعركة ملحمة تكتيكية:
الحرب النفسية: بنى الموفق مدينة “الموفقية” مقابل المختارة لاستفزاز الثوار.
الابتكار العسكري: جهز أسطولاً نهرياً ضخماً، وحاصر الثوار بذكاء حتى جوعوهم.

♧ النهاية الدموية

في 270 هـ (883 م)، اقتحمت القوات العباسية المختارة. قُتل علي بن محمد، ورفض جنوده الاستسلام حتى الموت. الطبري يروي أن المعركة استمرت عاماً كاملاً، وأن الأرض امتلأت بجثث الزنج “حتى لم يعد يُرى الماء تحتها”.

♣︎♣︎ الإرث المنسي

رغم سحق التمرد، أحدثت الثورة تغييرات خفية:
التحول الاقتصادي: توقف نظام السخرة الجماعية في المزارع، وتحول الملاك إلى عمالة حرة.
الصدمة النفسية: أصبح العباسيون أكثر حذراً في معاملة العبيد، وخفت تجارة الرقيق من شرق إفريقيا عقوداً.

♣︎♣︎ الخاتمة: أصداء من المستنقعات

اليوم، لو زرتَ أطلال البصرة، لن تجد سوى أرض صامتة. لكن لو أصغيت جيداً، قد تسمع أصداء ذلك الزنجي المجهول الذي صرخ ذات يوم: “كفانا ملحاً!”. لقد كانت ثورة الزنج أكثر من تمرد عابر؛ كانت انفجاراً بشرياً ضد نظام عالمي قاسٍ، تحول من حلم التحرير إلى كابوس الدمار. في قصة علي بن محمد وأتباعه، نرى مرآة مكسورة تعكس تناقضاتنا الأبدية: كيف يمكن للاضطهاد أن يلد بطلاً وزعيمًا مستبدًا في آن؟ وكيف يتحول الظلم إلى وحش يفترس ضحيته الأولى؟

“التاريخ لا يكرر نفسه، لكنه يرن كجرس إنذار من قاع المستنقعات” – صدى من أرشيف الزنج.

●● في النهاية، لم ينتصر العباسيون إلا ليخسروا آخر أعصاب إمبراطوريتهم المنهكة، بينما ظل الزنج يصرخون من تحت الطين: ليس كضحايا، بل كشهود على أن القيود حين تُكسر بالعنف، قد تتحول إلى سلاسل جديدة. تلك هي المأساة الأبدية التي جعلت من ثورتهم أسطورة تروى في دهاليز التاريخ.

بقلم
الكاتب والروائى خالد حســــــين

#