كذبة مالك المالكي الاخيرة
دراسة مسرحية تحليلية..
بقلم: احمد العتبي.

“إنَّ كون العالم لم يفِ بوعده هو ليس وحده ما يجعله غير حقيقيّ ، بل كل تلك المحاولات الحقيقة التي لم تنقذه”. مالك المالكي(1)

يطلّ مالك المالكي، الكاتب المسرحي العراقي الشاب، هذه المرة، من خلال مسرح العبث على جمهوره كما عودهم، ولكن بأساليب مختلفة، تمثل تطوراً نصيّاً واضحاً ومعالجاتٍ جدَلية، في مسرحيته الجديدة، كذبة، الصادرة عن دار نينوى للدراسات والتوزيع والنشر، في سوريا. وهي ذات الدار التي تعاون معها لإصدار وتوزيع مسرحياته الثلاث الأولى التي ضمّها كتابٌ واحد، تحت عنوان ثلاث مسرحيات عام (2022).

تتناول مسرحية كذبة الصادرة في الثلث الأخير للعام (2024)، علاقةً غريبة، مرضيّة، سايكوباتية، تجمع رجلاً عجوزاً مع خادمه، وهي علاقة قائمة على القهر والقسوة تارة، وتبادل الأدوار تارة أخرى، ومن خلال استذكار أسس مسرح العبث(2)، ومسرح القسوة(3)، يمكن تمييز المحددات العامة التالية لشكل مسرحية كذبة:

– الجسد والعنف: يعتبر الجسد أداةً للتعبير عن العنف والصراع الداخلي للشخصيات، وصراعها الخارجي مع بعضها البعض.
– اللاوعي: يتم استكشاف اللاوعي والغرائز البدائية.
– الطقوسية: يتم استخدام عناصر طقوسية لإيصال المعنى.
– الصورة على الكلمة: تعتمد المسرحية على الصور الحسية والإيماءات أكثر من الكلمات، فهي مسرحية أفكار من خلال الصور، والحوارات، الجنونية، اللامعقولة، المقتضبة.. لا من خلال الأحداث، بل من خلال “سكيتشات” (4) تعتمد على ثباتٍ صوريّ، وأحداث قليلة، وتطورات درامية متسارعة مبنية على الصورة.
– تأثيرات الحواس: يتم استخدام الإضاءة والموسيقى والأصوات لخلق أجواء معينة والتأثير على الحواس.

مثالنا الأول في مقالنا هذا، وفق ما تقدم أعلاه كالتالي:

“العجوز : أردتُ أن أعرف ولاءك وما كان منك الا أن تبرهن على ذلك برهاناً كاملا ً. وبالنسبة لك فإن في الخسارة مكسب، ألم تشعر بالراحة الان وأنت بيد واحدة بدلاً من يدين اثنين ؟
الخادم : اجل ، اجل . اشعر بأنني اتحرك ..
العجوز : إقطع الثانية وانعمْ بالراحة والخفة والحيوية .
الخادم : أجل يا سيدي . هلّا تفضلتَ بقطعها بنفسك حيث أنني لا املك يداً اخرى أضرب بها بالمطرقة .
العجوز : في الحال، في الحال، أين المطرقة؟
الخادم : إنها في يدي يا سيدي ( يقدمها الى السيد العجوز)”.

يَظهر الجسد بشكل واضح في النص من خلال فِعل قطع اليد. هذه الفَعلة تحمل دلالات عنيفة ورمزية، وتعبّر عن صراع داخلي أو خارجي في مستوى اللاوعي، حيث تعبر الشخصيات عن غرائزها ورغباتها الأساسية الكامنة، التي لا تظهرُها في حالاتها الواعية.

كما أنّ الحوار يحمل طابعاً طقوسياً واضحاً، إذ يتم تنفيذ فعل القطع بطريقة محددة (بالمطرقة)! وهي وإن كان الهدف المُعلَن منها هو القطعُ إلا أنها غير معقولة كما يظهر من السياق الذي يوظّفُ كلماتٍ قليلةٍ ومباشرة، تركّز على الفعل الجسدي بشكلٍ أساسيّ، يمكن للقاريء، أو المُشاهِد، تخيل الأجواء القاسية والمؤلمة التي يصفها النص، مما يؤثر على حواسّه ويستقطبها بشكلٍ محيّر في فهم فحوى ومغزى ومؤدّى علاقة الخضوع والقهر وإساءة استعمال السلطة ما بين العجوز وخادمه، إذ يظهر الأخير قانعاً خانعاً في فعلٍ هو أشبه بمتلازمة ستوكهولم (5) المشهورة.

من جانبٍ آخر يمكننا وصف المسرحية بأنها مسرحية ذات لغة وجودية واضحة في صفحات كثيرة، حتى وإن استعمل الكاتب المُوارَبَة والمُخاتَلةَ في صفحاتٍ أخرى بهدف خلقِ حالة من اللّبس تسير بالمتلقّي نحو التعلّق بالنص للوصولِ إلى ما بعد الفقرة التي تعلَقُ العينُ عليها. ففي النص: “إنني مُتعب ..يا لشقاء المتوحد !! ما افظع حياتي !! لقد كنتُ شقياً ولم تزدني إلا شقاء”.. يعكس الكاتب حالة واضحة من اليأس والإحباط العميق التي تتكرر في المسرحية على لسان الشخصيتين، تذكّرنا بأعمال صمويل بيكيت (6) الخالدة.

يشعر المتحدث في النص المقتبسِ أعلاه، بحملٍ ثقيلٍ من الشقاء والوحدة، وكأنه محكوم عليه بحياة بائسة لا أمل فيها. هذا الشعور بالضياع واللا جدوى هو جوهر العديد من أعمال مسرح العبث، وهو يصور الإنسان ككائن ضعيف ومحطم، يعاني من وجوده في عالم قاسٍ وغير مبالٍ.

وبما أن الشخصيتين تتّسمان بالضعف والهشاشة، وتضيعانِ في عالمٍ قاسٍ لا جدوى فيه، فهما غارقان في حوارات عبثية دائرية، لا منطقية، تتساءل عن المعنى، في خضمّ الضياع الوجودي العميق، مثالها الحوار التالي:

“العجوز : لماذا كنت تعوم في وحل الخنازير ؟
الخادم : لم أفعل ذلك.
العجوز : بلى .
الخادم : ولماذا أعوم في وحل حضيرة الخنازير ؟
العجوز : لماذا إذن كنت تفعل ذلك ؟
الخادم : ليس هنالك حضيرة خنازير يا سيدي ، ليس هنالك سوى هذا المنزل ، فنحن لم نغادره البته .
العجوز : لقد رأيتك من النافذة وأنت تعوم ، وكانت الخنازير مغتبطة ومسرورة وتهتف لك ، لقد كان دوراً بطولياً . اين تعلمت السباحة ؟
الخادم : لا أعرف شيئا عن السباحة يا سيدي .
العجوز : حينما تجلس عند النافذة لأنك لا تجد ما تفعله كي تقضي وقتك ، سترى الانسان يعوم في الحضيرة والخنازير تصفق تشجيعاً له . لا تنكر ، لقد رأيتك تفعل ذلك .
الخادم : لقد كنت انظف جسدي ، فظنتْ الخنازير إنني أعدو .
( فترة صمت )”.

فإذا اتسمَ الحوار بالدوران في دوائر مفرغة، وكانت الأجوبة لا تتطابق مع الأسئلة، فإنّ ذلك يخلق حالة من اللامعقولية والسريالية التي تميز مسرح العبث في نصوصه عبر عصوره منذ نشأته وحتى يوم الناس هذا. ونلاحظ هنا الحدث الأساسي (السباحة في وحل الخنازير) هو حدث لا منطقي ولا واقعي، ويفتقر إلى أي تفسير منطقي، كما ان الشخصيتين، إضافة لكل ما سبق، من الشخصيات النمطية التي تفتقر إلى العمق النفسي، وتقدم تصورات مضحكة وغير منطقية عن الواقع عبر لغتها الساخرة والمبالغ فيها، التي تم توظيفها لفضح التناقضات والعبثية في الحياة، في غيابٍ تامٍ للحبكة بشكلٍ عام، كما في أعمال يوجين يونسكو (7) الخالدة.

وإذا ما أمعنّنا النظر وجدنا أمثلة اخرى كثيرة لحالات السريالية، واللامعقولية، والدوران في دوائر مفرغة، والسخرية، والمبالغة.. ومنها:

“العجوز : لقد ابتاعت لي زوجتي مرآة مزخرفة من خشبِ البلّوط ، لامعة بشكل رهيب . وكنت أرى فيها كل شيء في الغرفة إلا هيئتي. لك أن تتخيل أنني رأيت من خلالِها نملة ولم أرَ وجهي !!
كيف أبدو ؟ هل تسمح أن تصف لي هيئتي ؟
الخادم : لقد بلغت من فرط قصر قامتك إن المرء لا يراك الا بعد شقاء ، حينما تشرّفت بلقائك لم تكن بهذا القصر يا سيدي الكريم .
العجوز : والعينان !! هيا .. هيا .. يا صديقي المخلص !!.
الخادم : ليس لك عينان يا سيدي .
العجوز : والأنف !!
الخادم : ليس على حد معرفتي بك ، هل تشعر أن لك أنفاً ؟
العجوز : أجل .
الخادم : ليس واضحاً يا سيدي .
العجوز : وهل لازلت امتلك شعراً غزيراً ؟
الخادم : إنّ رأسكَ لم تنبُت به شعرةٌ واحدة منذ أن عرفتك.
العجوز : الحصيلة ؟
الخادم : انسان .
العجوز : هل تحسب إنني قبيح ؟
الخادم : كلا يا سيدي ، لست قبيحاً ، مطلقاً”.

الحوار يحمل العديد من المميزات العبثية التي تساهم في خلق جو من الفكاهة والسخرية، ومن أبرز هذه المميزات المبالغة في وصف المرآة بأنها لامعة بشكل رهيب وقادرة على عكس كل شيء في الغرفة ما عدا هيئة العجوز. وذلك مبالغة كوميدية تساهم في إبراز غرابة الموقف.

ومن النص نلحَظُ التناقض في وصف القصر، إذ يصف الخادمُ العجوزَ بأنه قصير القامة لدرجة يصعب رؤية وجهه، وفي نفس الوقت ينفي وجود عينين أو أنف واضحين له، ويصرّحُ تالياً بأن ذلك هو شكلُ إنسان! أي إنسان.. وهو تناقض يزيد الموقف عبثية. وفي النص يركز الحوار على تفاصيل بدنيّة تافهة مثل وجود الشعر أو الانف، بدلاً من التركيز على جوانب شخصية العجوز أو مشاعره، مما يضيف طابعاً ساخراً للحوار، ويترك للقارئ حرية التخيّل والتأويل.

بشكل عام، هذا الحوار يعتمد على التناقض والمبالغة والسخرية لخلق جو من الفكاهة، وهو نموذج للحوارات العبثية التي تهدف إلى الترفيه والتسلية. مثالها في مسرح العبث أعمال يونسكو الذي أشرنا له سلَفاً.

ولكنّ كل تلك المبالغات والسخرية والفكاهة والحوارات المفرغة من المعنى لا تنقذ المسرحية من كونها مسرحيةً وجودية أولاً، وتنتمي بشكلٍ اكبر لمسرحيات القسوة الجسدية ثانياً، وتنتهي نهاية تطهيرية (8) أخيراً.

فعلى الرغم من الحزن والألم الذي قد يسببه هذا النوع من النهايات، إلا أنه يترك لدى المتلقي شعوراً بالارتياح النفسي، وكأن تجربته مع العمل قد ساعدته على مواجهة مشاعره الخاصة والتخلص من بعض التوترات الداخلية. ومنها مشهد انتحار أوفليا الذي يعتبر واحداً من أكثر المشاهد المؤثرة في الأدب العالمي.

وهو بالرغم من كونه يثير مشاعر الحزن والأسى لدى المتلقي، إلا أنه في الوقت نفسه يترك انطباعاً عميقاً حول هشاشة الحياة وعواقب الأفعال.
ومثله موت ماكبث ذاته وهو ما يدفع القاريء والمشاهد إلى التعاطف مع الشخصيات، وفهم دوافعهم وأفعالهم، وإثارة الأسئلة حول الحياة والموت والخير والشر، والدفع إلى التفكير في هذه القضايا.
____________
(1) مالك المالكي: كاتب مسرحي عراقي، ولد في ميسان جنوب العراق عام (1987)، ثم انتقلت عائلته الى بغداد، التي عاش فيها شبابه، رجلٌ ذو مواهب متعددة، يتحدث الانكليزية والفرنسية، عاش فترة من حياته في دولة الجزائر، وتخصص في الكتابة لمسرح العبث، وتعد مسرحية كذبة، كتابه المسرحي الثاني.
(2)مسرح العبث: حركة مسرحية عالمية حاولت تكييف نظرية العبث التي وضعها الفيلسوف والكاتب العالمي ألبير كامو (1913-1960) مع المسرح، صورت هذه الحركة العبث المتأصل في محاولة العيش بشكل هادف في عالم لا معنى له، وكانت إحدى نتائج ما بعد الحرب العالمية الثانية. وبشكلٍ عام فإن التعريف المصطلحي بحسب الصحفي البريطاني مارتن إيسلين (1918-2002) يشير إلى كونه: “ما يخلو من الغرض… وبانفصاله عن جذوره الدينية والميتافيزيقية والمتعالية، يضيع الإنسان، وتصبح كل أفعاله بلا معنى، وعبثية، وعديمة الفائدة”.
(3) مسرح القسوة: تجربة مسرحية مكثفة جمعت بين الدعائم المعقدة والخدع السحرية والإضاءة الخاصة والإيماءات والتعبيرات البدائية وموضوعات الاغت^صاب والتع^ذيب والق^تل لصدمة الجمهور، وضع نظريتها الكاتب المسرحي الفرنسي انتونين أرتو (1896-1948).
(4) السكيتش المسرحي: هو عبارة عن مشهد قصير أو قطعة مسرحية ذات أبعاد صغيرة، عادة ما تكون كوميدية. يتميز السكيتش بكونه سريعاً ومباشراً، ويستغرق بضع دقائق فقط. ويستخدم السكيتش في الغالب السخرية والمبالغة لتقديم رسالة أو فكرة معينة.
(5) متلازمة ستوكهولم: هي ظاهرة نفسية تحدث عندما يتعاطف شخص ما مع من يعتدي عليه أو يسيطر عليه، مثل خاطف أو معتدٍ. وبدلاً من الخوف أو الكراهية، قد تشعر الضحية بالولاء أو حتى بالحب تجاه الشخص الذي يؤذيها، ولا تزال اسبابها النفسية غامضة وهي محل دراساتٍ كثيرة منذ بدايات سبعينيات القرن المنصرم.
(6) صمويل بيكيت (1906-1989): كاتب ايرلندي، يعدّ واحداً من أبرز كتّاب مسرح العبث، بل ويعدّ من أهم كتّاب القرن العشرين، ومسرحيته الخالدة: في انتظار جودو (أول عرض: 5/ك2-يناير/1953) هي إحدى اهم المسرحيات العبثية على الإطلاق.
(7) يوجين يونسكو (1909-1994): كاتب مسرحي فرنسي من اصول رومانية، يعدّ من ابرز كتّاب مسرح العبث، تصف مسرحياته وحدة الإنسان وانعدام الغاية في الوجود الإنساني.
(8) التطهير في السياق المسرحي، وخاصة في أعمال شكسبير، يشير إلى التأثير العاطفي القوي الذي يتركه العمل الدرامي على المشاهد. فبعد أن يشهد المشاهد صراعات الشخصيات، ومعاناتها، وربما حتى موتها، يشعر بتطهير عاطفي، وكأن شيئاً ما قد تم إطلاقه من داخله.

احمد العتبي
بغداد في 24/ك1-ديسمبر/2024