علي نفنوف…فيلسوف اللامألوف…

علي نفنوف: سيرة فنان يتكلم باللون وينزف بالحرف

في عمق المشهد التشكيلي السوري والعربي، يبرز اسم علي حسن نفنوف (مواليد 20 أغسطس 1969، سوريا)، كصوتٍ فنيّ متمرّد، لا يُشبه إلا نفسه.
فنان تشكيلي، مصور ضوئي، وشاعر وكاتب، ينتمي إلى جيل يرى في الفن وسيلة لتفكيك الواقع وبنائه من جديد، لا تزويقًا له. في لوحاته، كما في قصائده، يتقاطع الحزن بالضوء، ويعلو السؤال فوق الإجابة، وتمتد الريشة كما لو كانت يدًا تمتد من داخله إلى العالم.

انتقل بين التعبيرية والتجريد دون أن ينتمي بالكامل لأيٍّ منهما. استخدم الألوان الجريئة، الأشكال المتشظية، والمنظورات المبالغ بها لتوصيل التجربة الداخلية لا الشكل الخارجي، مؤمنًا بأن اللوحة التي لا تُثير سؤالًا، لا تستحق النظر.

أقام أكثر من 60 معرضًا فرديًا وجماعيًا في سوريا وخارجها، منها: “سوريا رواية ضوء” (2015)، “هتّان” (2024)، و*“Colors of Unity”*، وذاع صيت عمله البصري البانورامي “حارسة البحر”، الذي رسم امتدادًا روحيًا وتاريخيًا ما بين الفينيقيين وسواحل الشام.

شاعر باللون والحرف، صدرت له دواوين منها: “امرأة من خريفها تزهر” و*“عن ماذا تبحث أسئلتي”*. كما كتب في الصحافة الثقافية، واشتغل على النقد الفني بأسلوب يجمع بين التحليل والرؤية الشعرية.

في هذا النص الذي بين أيدينا، لا يتكلم الفنان علي نفنوف مجيبًا على أسئلة، بل يتدفق صوته من الداخل، ناثرًا اعترافاته وتصوراته وتجربته كاملة، من البدايات حتى الفلسفة… من الضوء حتى الأزرق… من الريشة حتى الحرف.

****

الفن لا يأتي باستئذان. هو لا يطرق الباب، بل يفتح النوافذ دفعة واحدة ويدخل، يجتاح، يسكن، ويعيد ترتيب دواخلنا. لم يكن هناك إعلان عن البداية، بل كانت الطفولة، وكانت الجينات. كنت أحمل في داخلي تلك الجرأة، لا لأتعلّم الرسم بل لأغوص فيه دفعة واحدة. أمسكت بالريشة دون خوف، واتجهت مباشرة إلى الألوان الزيتية، رغم ما فيها من تحدٍّ يقف أمام الهواة والمبتدئين كجدار شاهق. استخدمت السكين، تمامًا كما فعل فان كوخ، ولم أتردد في الاقتراب من الألوان القاسية والصريحة، تلك التي لا ترضي الآخرين، بل ترضي رأسي، رأسي فقط. لم يكن هدفي أن أُرضي فكرة أحد، أو أساير أذواقًا معتادة، بل أن أُخرج ما في داخلي. الفن يعيد تشكيلنا من الداخل، دون أن ننتبه، يغوص فينا ويُعيد ترتيب تصرفاتنا وطباعنا وسلوكنا.

وعندما أمسكت بالكاميرا لاحقًا، لم تكن تلك البداية بل الطريق المؤكّد نحو الداخل. سافرت في الضوء، اتكأت على الشمس وعلى النهار، وصرت أُطارد اللحظة الفارّة، أبحث عن المألوف لأجعله غريبًا، وعن الواقع كي أصوّره بطريقة تجعله سؤالًا. لم أكن أصوّر فقط، بل كنت أركض خلف القصص غير المرئية، تلك التي تتخفّى داخل صورة، داخل ظل، أو ضوء خفيف. لم أكن أنظر بالكاميرا بل بالحدس، وكنت أُريد دائمًا أن أرى شيئًا أبعد من العين.

اللون عندي ليس وسيلة تزيينية، بل هو الأداة التي أقول بها كل شيء لا يُقال. حين أبدأ لوحة، لا أكون صاحب القرار. اللوحة هي التي تتحكّم بي، والمشاعر هي التي تقودني. أرسم بعاطفة، بانفعال، بالانخطاف الكامل. لكل شعور لونه، ولكل لحظة صوتها اللوني الخاص. قد يُحاورني الأبيض أثناء الرسم، يقول لي: “كفى من السواد.” فأجيبه: “أنا لا أُغرقك، بل أُخرجك من السواد.” الأبيض هو الضوء، والأسود هو الظل، والأصفر ليس لونًا بل شمسًا، والأزرق ليس بحرًا، بل غابة.

أنا لا أرسم الألوان، بل أرسم المشاعر. والألوان في المقابل، تُفاجئني، تُوقفني، تُحاورني. إنها حوار فلسفي بيني وبين اللوحة، بين العاطفة والضوء، بين الصمت والانفعال. كل لوحة هي نتيجة هذه المواجهة الصادقة.

الأزرق، بالنسبة لي، ليس مجرد لون، بل هو هويّة كاملة. الأزرق هو الفضاء المهدود، هو المدى الذي لا ينتهي، هو السرمدية. البحر أزرق، السماء زرقاء، الشياطين زرقاء، والخوف أزرق. الأزرق هو المجهول والمألوف في آن واحد، هو الغموض والسكينة، هو القلق والطمأنينة، هو الغضب واحتباس المطر. إنه لون متخيَّل يمنح إمكانيات الماء ورؤى لا نهائية. نحن نرفع أبصارنا إلى السماء حين نتضرّع، فنرى الأزرق. وإذا استُحضر الخوف، استُحضر الشيطان الأزرق. لذلك، الأزرق هو عالم التخيل الحقيقي. قيل عني أنني “فنان الأزرق”، وربما كنت كذلك، لأني أعيش الزرقتين: زرقة البحر، وزرقة السماء. لكنه، قبل كل شيء، هو اللون الذي يمنحني الأسئلة. واللوحة التي لا تمنح سؤالًا، هي لوحة بلا شرعية.

العالم اليوم ليس كالسابق. نحن نعيش في زمن متسارع، زمن مليء بالضجيج، بالاضطراب البصري، بالفنون الطارئة، بانحدار الذوق، واهتزاز المعنى. الفنان اليوم يُطالب بأن يبرّر وجوده. عليه أن يُثبت أنه إنسان طبيعي، لا معقّد، لا مجنون، لا خرافي. وكأن الفن أصبح تهمة. والصحّ أصبح شذوذًا في مجتمع يقدّس الخطأ. الفنان، في هذا الزمن، هو الصواب الوحيد المتّهم.

لكن الفنان الحقيقي لا يتخلى عن مسؤوليته، لا يُساير الضجيج. فان كوخ لم يُساير، لم يتنازل، لم ينحنِ للعائلة أو المجتمع، بل دفع الثمن كله. لكنه اليوم، أصبح النبراس، الوجهة، والمثال.

أنا ابن البيئة السورية، وذاكرتها الضوئية والبصرية. الفنان الساحلي يرسم البحر، وفنان الجبال يرسم أوراق الليمون والغار، وفنان البادية لونه ترابي. من خرج من الحرب لوحته سوداء، ومن دخل قفص الزواج، ألوانه بيضاء. نحن انعكاس بيئتنا. وسوريا، بحضاراتها المتراكبة، من الآراميين والسريان إلى الكلدانيين والفينيقيين والسومريين، منحتنا كنزًا بصريًا وروحيًا نادرًا. من ينتمي إلى هذه الأرض، يرسم بذاكرة مُشبعة. يرسم حكاية.

لكن إذا قصدنا الحديث عن الحرب، عن الخراب، عن الجرح، فإن الفن هنا لا يُجمّل الدمار، بل يُعيد بناءه. حين نرسم حيًّا مدمّرًا، فإننا نحلم بإعماره، وعندما نرسم غابة محروقة، فإننا نزرعها من جديد، على جدار أبيض. نرسم الموت لنستجدي الحياة.

أنا لا أرسم برفقة موسيقى. لا أحتاج أن يُعزف لي أحد. أنا العازف والوتر والنوتة والجمهور. اللوحة عندي هي المعزوفة، والريشة هي الراقصة على جسد البياض، ترقص بحرية، تنزف نزقها، تهتف من أعماقها. لا أحتاج موسيقى خارجية، لأني أشعر أن العالم كله يرقص فوق أناملي. الصخب يسكن داخلي، ولا تهدأ فوضاي إلا فوق سطح اللوحة.

الكتابة أيضًا ليست فعلًا مخططًا. لا أذهب إليها، بل تأتي إليّ. أكتب كما أرسم: ومضة، قصة، رواية، كلها مرسومة بالحروف، كما أرسم بالحبر أو الضوء. لكنني أؤمن بلغة البصر، باللغة التي تُفهم من الجميع. القصيدة تُكتب بالعربية، وتُقرأ من فئة محددة. أما اللوحة، فتُقرأ من الأمي، من الطفل، من الغريب، من الذي لا يعرف اللغة. الألوان أكثر عدالة من الأبجدية.

الكتابة عندي ليست نصًا. إنها انفعال. أكتب حين تهمس القصيدة في أذني، وأرسم حين تصرخ اللوحة في وجهي. بين الحرف واللون أعيش، وأتنقّل، وأقول ما لا يُقال. أنا شاعر بالألوان، وكاتب بالألوان، ورسام بالحروف، لأنني أملك فلسفة الجرأة، تلك التي صنعت مني فنانًا مختلفًا وكاتبًا مختلفًا.

تأثرت بكبار الشعراء الذين عاشوا النزق الإبداعي: مظفر النواب، السياب، درويش، أدونيس، الماغوط، نزار. كل منهم أخذني إلى طريق. لكن أيضًا، تأثرت بالشاعر الكردي التركي، شاعر الفقراء والمنكوبين. كذلك كانت المعلقات والجاهلية والمدرسة القديمة جزءًا من تكويني الأول.

القصيدة لا تولد من العقل، بل من الانكسار، من الصدمة، من الحنين، من الخيبة. هي لا تأتي إن دعوتها، بل تفاجئك. وحين تُكتب بعفوية حارقة، لا يمكن تغييرها. القصيدة التي تراجعها أنت، لم تولد كاملة. أما القصيدة الصادقة، فهي التي تُراجعك.

كل هذا الألم، هذا الخراب، هذا الشتات… لم

… لم يكن نقمة، بل حافزًا. المترفون لا يرسمون. الموجوعون فقط هم الذين يُنتجون الفن، وهم الذين يكتبون. الألم هو المحرّك، هو بذرة الوعي، وهو السبب الذي يجعل الفنان يحلم حين لا يستطيع أحد أن يحلم…..

** فريد ظفور

*******

معرض الصور:

 

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.