اضحك الصورة تطلع أحلى

كاميرا كانت تستخدم عام 1940م- بول مارتيني

اضحك الصورة تطلع أحلى
سما حسن

كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة …

 

كانت الصور الفوتوغرافية، في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، بالنسبة لأبي، هي التقاط لقطات لمناسباتٍ يرغب في تخليدها، فكان لها استعداداتها واعتباراتها، ولم تكن يوماً طقساً لحظياً فقد بهاءه ورونقه في حياتنا، مثلما يحدث مع الصور المتلاحقة التي تلتقط بكاميرات الهواتف الذكية، فقد كانت أمي تفتح ألبوم الصور الأزرق الضخم، ونلتف حولها، وينبطح الصغير في حجرها، وتبدأ تقليب الصور، وهي تتحدث عن تاريخ كل صورة ومناسبتها. وكلما توقفت عند صورةٍ لا تذكر مناسبتها، كنا نسمع صوت أبي يرتفع، مؤنباً لها من الخلف، بأنه كان عليها أن تكتب تاريخ التقاط كل صورة خلفها، فلا معنى للصورة إن كانت بلا تاريخ، وكانت كلها صور مهندمة ومنمقة، وتشعر أن أصحابها قد أمضوا وقتاً طويلاً حتى اصطفوا وتجمعوا لالتقاطها.

من الصور الخالدة في ألبوم أمي صورة يظهر فيها طبيب يهودي أميركي، عرفه أبي في أثناء علاجه في أحد مشافي تل أبيب، وقد تجمع أولاد الجيران لرؤيته مع صديقته التي التقطت الصورة بكاميرا فوتوغرافية فورية، وبدا فيها ابن الجيران الساذج “عبيط كل حارة”، وقد كان يطبق كفيه على عصفورٍ تعب حتى تمكّن من صيده، وقد أراد أن يخلد صورة العصفور معنا، فطار العصفور، وظهر في الصورة فاغراً فاه بكفين مفتوحين فارغين، وكل بلاهة الدنيا مرسومةٌ على وجهه.

وكانت أمي تتحدث عن صور البنات بأنها جزء من شرفهن، ولا يجوز أن يرى أي كائنٍ غريب صورهن. وبالفعل، كانت بنت الجيران الشابة تخفي صورها في برميل ضخم، تحتفظ أمها بداخله بالطحين، وكانت تخرجها خلسةً حين تغيب أمها عن الدار، ونلتف حولها، نحن الصغيرات، لكي نشاهد ابتسامتها وضفيرتيها، وفستانها القصير وصندلها المربوط برباطٍ طويل حول ساقيها، وكانت تخفي بين الصور صورةً صغيرة لشاب بهي الطلعة من هؤلاء الذين كانوا يطلبون من المصورين في السبعينيات أن يلونوا شفاههم، وربطات عنقهم، قبل ظهور الصور الفوتوغرافية الملونة، واختفت ابنة الجيران من حياتنا ذات يوم، وقيل إن والدها وأعمامها قتلوها، ورأيت أمها تجلس قبالة بيتها، وهي تبكي، وتقلب صور ابنتها، ولم يكن بينها صورة الشاب البهي الطلعة.

كانت أمي ترفض أن تلتقط لنا الصور ونحن صغار، وتقول إن الصور تمرض الصغير، وتتشاءم من تعليق صور الموتى على جدران البيت، فاستعاذت وحوقلت، حين أخبرتها أن أحد تقاليد العصر الفيكتوري التقاط الصور مع الموتى. وعلى الرغم من أن أبي كان متعاقداً مع صديقه، صاحب الاستديو الوحيد في المخيم، فقد كانت أمي تكره حضوره مع كاميرته، لتوثيق مناسباتٍ في بيتنا، وتقول أنه رجل بصباص، لأنه يكرّر اللقطة عشرات المرات، لكي يتمعن بجمالها ونحن نلتف حولها. ولكن أبي كان يهتم بالتوثيق، ولا يرخي سمعه لما تتهم به “موسوعته التوثيقية”. وحين تقدم بها العمر، نسيت ما كان منه، وظلت تتفاخر أنه كان دائم الوجود في بيتها، ليتلقط الصور لنا، كأولاد الأعيان، وتضحك، وتضحكنا، وهي تروي قصة صورةٍ بمناسبة قدوم أخي الثالث. وبعد أن اصطففنا حولها، وإذا بها تصيح: نسيت أن أرشّ العطر على ملابس الأولاد، والحقيقة أني ما زلت أشم رائحةً عطرة فعلاً لصورنا مع أمي.

وللتصوير الفوتوغرافي حكايةٌ لا تنسى مع جارةٍ فاتها قطار الزواج، حين وقفت، أول مرة في حياتها، أمام مصور المخيم، لتلتقط صورة لهويتها الشخصية، فقد فغرت فمها حتى آخره، وبرز فكها بأسنانه المشوهة، وضحك أطفال الجيران الفضوليون من منظرها.

مع احتفال العالم بالذكرى السابعة والسبعين بعد المئة لاختراع التصوير الفوتوغرافي، تمنيت لو ظهرت كاميرات الهواتف الذكية زمن أمي، لارتاحت من المصور البصباص، ولاحتفظت جارتي بصور حبيبها على هاتفها مع “باسوورد” محكَم، ولما فغرت جارتنا فمها أمام عدسة المصور، وأصبحت أضحوكة الصبية، والتزمت بيتها هرباً من سخريتهم، فربما جربت أن تلتقط لنفسها صور “سيلفي”، بنرجسيةٍ مفرطةٍ، عدة مرات، لتقتنص لقطة ترضيها.
– See more at: https://www.alaraby.co.uk/opinion/2016/8/23/%d8%a7%d8%b6%d8%ad%d9%83-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d8%aa%d8%b7%d9%84%d8%b9-%d8%a3%d8%ad%d9%84%d9%89-1?utm_campaign=magnet&utm_source=article_page&utm_medium=related_articles#sthash.G5DapmmT.dpuf

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.