تحدوا الظروف وحافظوا على الحرفة
تحية لكل أويمجي: سلمت يداك!
هاجر صلاح تصوير: بسام الزغبي
من شارع إلى حارة ،ومن حارة الى عطفة ،سرنا كمن يبحث عن «إبرة في كومة قش».. اعتقدنا أننا سنعثر عليهم بسهولة في شارع محمد علي العتيق، لكن خاب أملنا بمجرد أن وقعت أعيننا علي ذلك الأثاث الصيني الذي احتل الارصفة.. تنفسنا الصعداء عندما وجدنا بعضا من قطع الخشب المحفورة بطريقة الاويمة في أحد المحلات، لكن سرعان ما أصابنا الإحباط بعد أن علمنا ان المحل ما هو إلا معرض للأثاث المصنوع بدمياط.. باغتنا صاحب المحل بالسؤال عن مكان الاويمجية في الشارع، فخرجت من فمه تلك الاجابة الممزوجة بالدهشة والحسرة :

ما خلاص.. ما بقوش موجودين!

واصلنا سيرنا على أمل ان نعثر ولو على اويمجي واحد، فدلنا واحد من أهل المنطقة على «حارة النجار» الملاصقة لمسجد البرديني الأثري، وهناك عثرنا على المراد..

على ناصية الحارة، يجلس الحاج فاروق، الذي يعمل لديه خمسة»صبيان» جاء معظمهم من الفيوم، حيث عرفوا الصنعة هناك ،ثم جاءوا إلى القاهرة حيث الرزق الوفير.. نسبيا!

الحاج فاروق الذي أقعده المرض عن العمل، يعود بذاكرته إلى عام 1952، ويحكي لنا بحنين واضح: «كان والدي نجارا، ثم قام بشراء الورشة المقابلة لورشته ليخصصها لأعمال الاويمة، فعملت معه و استمريت لمدة 50 عاما، وكان بالحارة نحو40 اويمجي، لم يتبق منهم سوى ستة أو ربما اقل، فخلال السنوات العشر الماضية، ومع دخول «المكن الصيني» أغلق هؤلاء ورشهم، وذهبوا إما للعمل في المصانع أو لعرض الأثاث الجاهز، أو حتى للعمل في مهن أخرى، فـ»المكن» جعل العمل أسرع والإنتاج أغزر وبالتالي ارخص، وما ينجزه الحرفي يدويا في يومين، ينتهي بالمكنة في ساعة، فما الذي يجبره الان على العمل الشاق لأيام متواصلة ثم لا يجد زبونا؟!

سألناه بدهشة: ولماذا استمريت أنت إذن؟!

فقال بفخر: هناك زبون»بيفهم» هو الذي يحرص علي المجيء إلي، منهم الثري الذي يقدر هذا العمل الفني الرفيع، ومنهم من جرب الأثاث الرخيص، فقرر العودة «للشغل النظيف».

ولا ينكر الحاج فاروق انه لولا السعر العالي للمكنة الصيني-ارخص مكنة بـ 250 ألف جنيه- لكان اشتراها، لكنه يؤكد أن» المكن» لا يغني عن «الصنايعي» ،فبعد أن تقوم المكنة بالحفر الأولي ، لابد من التعديل عليها بيد الحرفي وأدواته لـ»تظبيط النقش»، فهي تقوم بتوفير الوقت فقط لا غير..

أبناء الحاج فاروق يعملون في «الاويمة» أيضا لكن في مصانع الأثاث، بسبب احتياجاتهم المادية التي لن يتمكن والدهم من توفيرها لهم إذا ما عملوا معه في الورشة، فالحرفي لديه لا تتجاوز يوميته 50 جنيها.

أثناء حوارنا مع الحاج فاروق الذي شكا لنا من قلة اهتمام الدولة بالحرفيين مقارنة بعهد الرئيس السادات، كان «أحمد»-أحد صبيانه- يمسك بـ»الدقماقة» والأزميل ويحفر ورودا قام برسمها على قطعة من الخشب الروماني ،تعلو وجهه ابتسامة من يعمل بـ»مزاج عال» .. عرفنا منه انه طالب جامعي يدرس الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، تعلم الحرفة منذ عشر سنوات، أي كان تقريبا في المدرسة الابتدائية، لكنه كان في بلدته بالفيوم، والآن يقسم يومه ما بين الدراسة صباحا، والعمل مساء.

لاحظنا أن معظم النقوش تنحصر في أشكال النباتات، فسألناه عن السبب، فقال :» قديما كان هناك تنوع في الأشكال المحفورة ما بين الكئوس والأسود والأفاعي والحمام، لكن بعد أن ظهرت بعض الفتاوى التي تحرم تجسيد الكائنات الحية، اقتصرنا على حفر الزهور وأوراق الشجر، وان كنا في النهاية ننفذ ما يطلبه منا الزبون».

صبيان الحاج فاروق عرضوا علينا نموذجين من الاويمة، احدهما محفور يدويا، والثاني بالمكنة الصيني، فكان الفرق واضحا لا يحتاج إلى شرح، فالاولى تنبض بالحياة والدقة ..والجمال، فاستحق هؤلاء الصناع المهرة تحية منا.. فلتسلم تلك الأيادي!

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.